المحادثات بين إيران والدول الست في فيينا منتصف الأسبوع الماضي، توصلت إلى «إطار» على اتفاق نهائي يطوي صفحة البرنامج النووي للجمهورية الإسلامية. ويفترض حل كل الخلافات العالقة قبل نهاية تموز (يوليو) المقبل، الموعد الذي توافق عليه الطرفان في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. لم يسبق أن اتسمت اللقاءات الكثيرة السابقة طوال عقد من الزمن بمثل هذه الجدية والإصرار. وتشي الأجواء، خصوصاً في كل من طهران واشنطن، بأن لا تراجع عن إقفال هذا الملف الذي شكل محور صراع وتوتر في المنطقة طوال سنوات، بل تتحدث دوائر متابعة للحوار الأميركي – الإيراني الذي لعبت سلطــــــنة عمــــان دوراً نشطاً فيه، عن لمسات أخيرة على إنجاز بات قريباً.
سيقت أسباب كثيرة وجيهة دفعت الأطراف المعنيين إلى تسوية هذا الملف النووي. على رأسها أن أحداً من أطراف الصراع، من إيران والولايات المتحدة إلى دول مجلس التعاون، كان أو لا يزال يرغب في اندلاع حرب إقليمية رابعة في الخليج. ولم تخف حكومة الرئيس حسن روحاني استعجالها السعي إلى إنقاذ بلادها من انهيار اقتصادي محتم دفع إليه الحصار والعقوبات الدولية، وتخبط سياسات الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد. ولم تخف تطلعاتها للعودة عنصراً فاعلاً وأساسياً في الاقتصاد الدولي، إذا كان للجمهورية أن تحافظ على مواقعها السياسية ومصالحها الاستراتيجية في آسيا الوسطى والشرق الأوسط والقوقاز أيضاً. قابل ذلك استعجال إدارة الرئيس باراك أوباما بناء منظومة من الترتيبات والتفاهمات في الإقليم تضمن استقراره وأمنه ضماناً لمصالحها الاستراتيجية ومصالح بعض حلفائها، بعدما قررت نقل ثقل اهتماماتها إلى المحيط الهادئ وبحر الصين. والتقت وتلتقي مصلحتهما المشتركة في ترتيب أوضاع أفغانستان وضبطها في مواجهة «طالبان» بعد انسحاب القوات الأميركية من هذا البلد مع نهاية السنة الحالية.
ثمة دواع كثيرة أخرى تتعلق بملفات إقليمية استدعت تقدم الأميركي والإيراني إلى طي صفحة البرنامج النووي المثير للجدل. حتى الآن لم يعلن أي من الطرفين تطرقه إلى هذه الملفات، علماً أن مثل هذا الأمر قد يكون مستبعداً، أقله أن ثمة حاجة مشتركة لتسوية الأزمة السورية، على رغم الاختلاف الشديد للمقاربات والأهداف في هذا المجال، لئلا نشير إلى تفاهمات تستدعيها أوضاع تنذر بتهديد مصالح جميع المعنيين، من العراق إلى اليمن والبحرين ولبنان وحتى فلسطين. وهي أوضاع تشعلها صدامات غير مباشرة بين أطراف عدة، خصوصاً بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية وتحكمها اعتبارات أيديولوجية مذهبية وسياسية واقتصادية وأمنية، الأمر الذي حول هذا الصراع مصيرياً. وهو فعلاً كذلك، لأن الغلبة فيه ستحدد موقع اللاعب الأول في «الشرق الأوسط الكبير».
ما يدفع أصدقاء الولايات المتحدة إلى الريبة من أن يقتصر التقارب بين طهران وواشنطن على الملف النووي وحده، هو السياسة التي اتبعتها الأخيرة في سورية. أبدت إدارة أوباما حزماً وتصميماً على تفكيك الترسانة الكيماوية للنظام السوري، لكنها لم تذهب أبعد من ذلك. ظــــلت على تـــــرددها حيال العناصر الأخرى للأزمة الــــكبيرة في هذا البلد الذي يــــكاد يلـــفظ معظم سكـــــانه إلى دول الجوار منذراً بصراعات أهلية، وبرسم حدود جديدة لخريطة المنطقة. لكن هذا النموذج قد لا ينسحب تماماً على البرنامج النووي. سيكون من الصعب على طهران، وليس أميركا، أن تكتفي بتسوية لهذا البرنامج وتجاهل باقي الملفات. لم تكن حاجتها إلى السيولة وحدها أو رفع الحصار والعقوبات وراء تبدل سياستها المتشددة التي تمسك بها عهدا الرئيس نجاد. يمكن السيولة أن تنفد سريعاً. ويمكن إسقاط العقوبات ألا يغير الكثير. ما تسعى إليه وما عبر عنه الرئيس روحاني في أكثر من مناسبة هو إعادة البلاد إلى الدورة الاقتصادية في العالم. وتستلزم هذه جملة من الإجراءات والبنى والقوانين الضامنة والمطمئنة للرساميل، أي أن الانفتاح على الخارج لتحريك التجارة وجذب الاستثمارات يفترض تعديلاً لجملة من القوانين التي ستترك أثراً في صورة النظام، وتدفعه إلى التخلي عن مظاهر تشدده، بل قد تدفع إلى تهميش قوى كانت حتى الآن رافعة لهذا التشدد. ذلك أن بيئة اقتصادية جديدة تفترض أيضاًا بيئة سياسية جديدة، في الداخل أولاً.
السياسة المتشددة التي رفعها العهد السابق في إيران لم تحقق الاكتفاء الذاتي والاستغناء عن العالم، كما كان يحلم المرشد، أو الرئيس السابق نجاد، بل كادت تهدد الحضور السياسي الإقليمي الواسع الذي أنفقت الجمهورية في سبيله الكثير طوال ثلاثة عقود. لذلك، تحتاج البيئة الاقتصادية الجديدة أيضاً إلى مقاربة مختلفة للعلاقات مع الخارج. من هنا، سعي الرئيس روحاني وحكومته إلى الانخراط في حوار جدي مع الولايات المتحدة والغرب عموماً. وحرصهما على الانفتاح على دول الجوار، خصوصاً المملكة العربية السعودية، الباب الرئيسي إلى المنطقة بما تمثل من ثقل ديني وسياسي واقتصادي. ثبت لها أن الفضاء الآسيوي لا يكفيها، أو هو لا يقدم لها الزخم الذي تريد لتعزيز دورها في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج. هي عضو في منظمات إقليمية لا يمكن أن تشكل فيها الرافعة الأولى، بل تواجه منافسة من دول كبيرة مثلها. هي عضو في منظمة التعاون الاقتصادي التي تضم إليها تركيا وباكستان وكازاخستان وأوزبكستان وأفغانستان وأذريباجان وطاجــــيكــــسـتان وتركمـــانســـتان وقرغيزستان. وهي عضو مراقب في منظمة شنغهاي للتعاون التي تضم الصين وروسيا وكازاخستان وأوزبكستان وقرغيزستان، وتسعى إلى عضوية كاملة. وواضح من أسماء الدول الأعضاء أن الجمهورية الإسلامية لا تشكل ثقلاً مقرراً في هاتين المنظمتين، كالذي يمكن أن يكون لها في غرب آسيا أو شبه الجزيرة العربية.
لا تخفي إيران سعيها إلى التحول جسراً لا غنى عنه بين غرب آسيا ووسطها وشرقها. لكن هذا الطموح لا يمكن أن يتحقق في منطقة تناصبها دول عدة فيها عداء مستحكماً، ويخوض الطرفان فيها صداماً دموياً بالواسطة. ولا يقتصر الوضع على غرب آسيا، بل على وسطها أيضاً. وتعرف طهران أن لخصمها السعودي كلمة ذات ثقل في أفغانستان، مثلما لتركيا حضورها التاريخي في دول آسيا الوسطى. كما أن باكستان التي ترتبط بعلاقات تاريخية متينة مع دول مجلس التعاون، خصوصاً المملكة، طالما اعتبرت أن أمن الخيلج جزء من أمنها أيضاً، ولها في أفغانستان ما يتعدى ويفوق ما للجمهورية الإسلامية في هذا البلد. هذا لئلا نتحدث عن مناطق الاشتباك الأخرى بين الريـــاض وطهران، من اليمن والبــــحرين والعراق إلى سورية ولبنان. لذلك، لا يمكن حكومة الرئيس روحاني تحقيق طموحاتها بالعودة لاعباً مهماً في الاقتصاد الإقليمي والدولي ما لم تحقق اختراقاً في العلاقة مع جيرانها، بعد استعادة علاقاتها مع أميركا والغرب.
تدرك إيران أن عودتها إلى الخريطة الاقتصادية الدولية تشكل ضماناً للنظام في الداخل، مثلما تشكل رافعة لدورها وحضورها الإقليميين. لكنها تدرك أيضاً أن دون ذلك شروطاً لا بد من توافرها. وراقبت بلا شك الأجواء والظروف التي استدعت مجيء الرئيس أوباما إلى السعودية للقاء قمة مع الملك عبدالله الذي لم تخف حكومته استياءها من انخراط حليفها الاستراتيجي في حوار مع طهران من دون تنسيق معها. مثلما لم تخف خشيتها من أن يقتصر هذا الحوار على البرنامج النووي دون القضايا الأخرى وعلى رأسها الدور الذي تؤديه الجمهورية الإسلامية في عدد من الدول والمواقع العربية، لأن ذلك يلحق خللاً بميزان القوى بين الدولتين الجارتين ويحول دون قيام أي حوار بينهما ما لم يكن متكافئاً ومستنداً… وإلا فرض الأقوى أجندته ورغباته وطموحاته وأطماعه على الآخر. وهو ما يؤخر حتى الآن التواصل الجدي بين طهران والرياض.
عاجلاً أم آجلاً لا بد من أن تضع إيران الملفات الإقليمية على طاولة البحث ما دامت جادة في العودة إلى دورها الطبيعي في المجتمع الدولي. وهي تتمتع حتى الآن برضا المرشد وتأييد القوات المسلحة. لا يعني ذلك أنها ستتخلى تلقائياً عما بنت من مواقع في العالم العربي، وفي «الشرق الأوسط الكبير». حتى الآن لم تنخرط حكومة روحاني في ملفات كان يديرها ولا يزال «الحرس الثوري» بإشراف قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني. ولم تقارب ملفات داخلية وخارجية يرى إليها المرشد علي خامنئي على أنها تمس جوهر النظام أو تهدد بنيته. لذلك، لا يمكن تصور انسحاب الجمهورية الإسلامية من سورية مثلاً في أي تسوية لأزمة هذا البلد. وينسحب هذا الموقف على كثير من الملفات، خصوصاً من اليمن إلى العراق فلبنان حيث يتمتع حلفاؤها بحضور وازن وفاعل، ســــــياسياً وعسكرياً. من هنا، ليس مستبعداً أن يتخذ تنازلها أو انسحابها من هذه المواقع صيغاً أخرى يمكن عبرها الحفاظ على حضورها من دون انخراطها المادي المباشر في هذه الساحات. وثمة من يعتقد أن ما يدور على هامش المحادثات الخاصة ببرنامجها النووي يتناول مستقبل دورها. وتتحدث دوائر عن اتفاق قد يقضي مثلاً بغياب «الحرس» وسليماني، أو خروجهما من خريطة الأحداث على أن يتولى الأمر «حزب الله» الذي لم يخف أمينه العام في مناسبات عدة دور الحزب في كثير من المواقع البعيدة من لبنان. أن تحول طهران مشكلة وجودها في المواقع العربية إلى مشكلة بين خصومها وقوى «عربية» محلية في هذا الموقع العربي وذاك، قد يشكل لها مخرجاً. ولكن، يبقى السؤال هل يكفي ذلك لتطبيع علاقاتها مع الخارج البعيد والقريب، أم يفاقم الصراع المذهبي والسياسي والعسكري؟
*نقلاً عن “الحياة”.