جيفري ساكس
عندما بدأ الرئيس الأمريكي رونالد ريغان مهام منصبه في العام 1981 قال جملته الشهيرة: “الحكومة ليست الحل لمشكلتنا، الحكومة هي المشكلة” . وبعد مرور اثنين وثلاثين عاماً وتعاقب أربعة رؤساء من بعده، يبدو خطاب تنصيب باراك أوباما الأخير، وما حمله من تأييد واضح لمنح الحكومة دوراً أكبر في معالجة أكثر تحديات أمريكا والعالم إلحاحاً، وكأنه قد يُنزِل الستار على تلك الحقبة التي بدأها ريغان .
الواقع أن تصريح ريغان في العام 1981 كان غير عادي، فقط أشار إلى أن الرئيس الأمريكي الجديد كان أقل اهتماماً باستخدام الحكومة لحل مشكلات المجتمع من اهتمامه بخفض الضرائب، لمصلحة الأثرياء في الأساس . والأمر الأكثر أهمية هو أن رئاسته بدأت “ثورة” من اليمين السياسي ضد الفقراء، والبيئة، والعلوم والتكنولوجيا دامت ثلاثة عقود من الزمان، وتبنى معتقداتها كل الرؤساء الذين تبعوه: جورج بوش الأب، وبل كلينتون، وجورج دبليو بوش، وفي بعض النواحي باراك أوباما في ولايته الأولى .
كانت “ثورة ريغان” تتألف من أربعة عناصر: خفض الضرائب المفروضة على الأثرياء، وخفض الإنفاق على التعليم والبنية الأساسية والطاقة وتغير المناخ والتدريب على الوظائف، والنمو الهائل في ميزانية الدفاع، وإلغاء القيود التنظيمية الاقتصادية، بما في ذلك خصخصة وظائف حكومية أساسية مثل تشغيل القواعد العسكرية والسجون . وفي حين وصِفَت بأنها ثورة “السوق الحرة”، لأنها وعدت بتقليص دور الحكومة، فإنها في الممارسة العملية كانت بداية الهجوم على الطبقة المتوسطة والفقراء من قِبَل الأغنياء من أصحاب المصالح الخاصة .
وشملت هذه المصالح الخاصة وال”وول ستريت”، وشركات النفط الكبرى، وشركات التأمين على الصحة الضخمة، وشركات صناعة السلاح . وقد طالبت هذه المصالح الخاصة بخفض الضرائب فاستجيب لطلبها، وطالبت بتقليص تدابير حماية البيئة فنالت مرادها، وطالبت بالحق في مهاجمة النقابات فحققت مطلبها، وطالبت بعقود حكومة مربحة، حتى لعمليات شبه عسكرية، فحصلت على تلك العقود أيضاً .
ولأكثر من ثلاثة عقود من الزمان، لم يطعن أحد حقاً في العواقب المترتبة على تسليم السلطة السياسية لأعلى المزايدين . ومن ناحية أخرى، تحولت أمريكا من مجتمع الطبقة المتوسطة إلى مجتمع مقسم على نحو متزايد بين أغنياء وفقراء . وكبار المديرين التنفيذيين، الذين كانوا يحصلون ذات يوم على ما يعادل ثلاثين ضعف ما يكسبه العامل المتوسط لديهم، أصبحوا الآن يكسبون نحو 230 ضعف ذلك المبلغ . وبعد أن كانت الولايات المتحدة زعيمة عالمية في الكفاح ضد التدهور البيئي، أصبحت الآن آخر دولة صاحبة اقتصاد رئيسي تعترف بحقيقة تغير المناخ . كان إلغاء القيود التنظيمية المالية سبباً في إثراء وول ستريت، ولكنه انتهى إلى خلق أزمة اقتصادية عالمية بسبب الاحتيال، والإفراط في خوض المجازفات، وعدم الكفاءة، والصفقات الداخلية .
وربما، فقط ربما، لا يكون خطاب أوباما الأخير بمنزلة الإعلان عن نهاية هذه الأجندة المدمرة فحسب، بل وأيضاً بداية عصر جديد . والحق أنه خصص كل خطابه تقريباً لتأكيد الدور الإيجابي الذي تضطلع به الحكومة في توفير التعليم، ومكافحة تغير المناخ، وإعادة تشييد البنية الأساسية، ورعاية الفقراء وذوي الاحتياجات الخاصة، والاستثمار في المستقبل عموماً . والواقع أن خطاب التنصيب هذا كان الأول من نوعه منذ حوّل ريغان اتجاه أميركا بعيداً من الحكومة في العام 1981 .
إذا تبين أن خطاب أوباما كان إشارة إلى بداية عصر جديد من السياسة التقدمية في أمريكا، فإن هذا يتناسب مع النمط الذي استكشفه أحد عظماء المؤرخين الأمريكيين، آرثر شليزنجر الابن، الذي سجل مدداً فاصلة تقرب من الثلاثين عاماً بين ما أسماه “المصلحة الخاصة” و”الغرض العام” .
في أواخر القرن التاسع عشر كانت أمريكا تنعم بعصرها الذهبي، حيث كان إنشاء صناعات جديدة ضخمة بواسطة “البارونات اللصوص” في ذلك العصر مصحوباً بقدر هائل من الفساد والتفاوت بين الناس . ثم جاء في أعقاب العصر التقدمي اللاحق عودة مؤقتة إلى سيادة النخبة الثرية في عشرينات القرن العشرين .
ثم جاءت أزمة الكساد الأعظم، وصفقة فرانكلين روزفلت الجديدة، وثلاثون عاماً أخرى من السياسة التقدمية، من الثلاثينات إلى الستينات . وكانت السبعينات بمرتبة فترة انتقالية إلى عصر ريغان، نحو ثلاثين عاماً من السياسة المحافظة التي قادتها المصالح الشركاتية القوية .
من المؤكد أن الآن هو وقت الميلاد الجديد للغرض العام والقيادة الحكومية في الولايات المتحدة من أجل مكافحة تغير المناخ، ومساعدة الفقراء، وتعزيز التكنولوجيات المستدامة، وتحديث البنية الأساسية في أمريكا . وإذا حققت أمريكا هذه الخطوات الجريئة عبر سياسات عامة هادفة، كما أوجز أوباما، فإن الناتج عن هذا من علم مبدع، وتكنولوجيا جديدة، وغير ذلك من التأثيرات القوية، من شأنه أن يعود بالفائدة على البلدان في مختلف أنحاء العالم .
لا شك في أنه من السابق للأوان الآن أن نعلن قدوم عصر تقدمي جديد في أمريكا، فالمصالح الخاصة لاتزال قوية، في الكونغرس بشكل خاص، وحتى داخل البيت الأبيض . لقد أنفق هؤلاء الأفراد الأثرياء، والجماعات الثرية، المليارات من الدولارات على المرشحين في الحملة الانتخابية الأخيرة، وهم يتوقعون أن تعود عليهم مساهماتهم بفوائد ملموسة . وعلاوة على ذلك فإن ثلاثين عاماً من خفض الضرائب حرم حكومة الولايات المتحدة من الموارد المالية المطلوبة لتنفيذ البرامج الفعّالة في مجالات أساسية مثل الانتقال إلى طاقة منخفضة الكربون . ومع ذلك فقد ألقى أوباما بقفازه بكل حكمة، معلناً التحدي وداعياً إلى عصر جديد من النشاط الحكومي . وهو محق في ذلك، لأن العديد من تحديات اليوم الحاسمة إنقاذ كوكب الأرض من تجاوزاتنا؛ وضمان ذهاب فوائد التقدم التكنولوجي إلى كل أفراد المجتمع؛ وتشييد البنية الأساسية الجديدة التي نحتاج إليها على المستويين الوطني والعالمي من أجل مستقبل مستدام تحتاج إلى حلول جماعية .
*نقلا عن “الخليج” الإماراتية