في وقت تحتل فيه المعارك الجارية شرق سورية وشمالها، مركز الصدارة في الاهتمام الإعلامي والسياسي، يخوض الثوار معركة ناجحة في جنوب البلاد، مختلفة بكل المقاييس، سواء لجهة أداء المقاتلين هناك، أو للفعالية الاستراتيجية، والأثر المتوقع للعملية في تغيير معادلات الأرض بين الثوار وقوات نظام الأسد وحلفائه، وكذلك بالنظر إلى الموقع المهم للقطاع الذي يشكل مسرح العمليات، ليس على المستوى السوري وحسب، بل وعلى مستوى الجغرافيا الإقليمية.
في قطاعٍ يمتد من جنوب دمشق إلى حدود الجولان والأردن، يقع مسرح عمليات الثوار، هناك حيث يسجلون مكاسب متزايدة، وتتميّز معركتهم بالصبر والعمل وفق نظرية تحقيق تراكم الانتصارات، على اعتبار أن المنطقة كانت تشكل ثكنة عسكرية كبيرة، توجد فيها مختف أنواع الأسلحة والتشكيلات العسكرية.
وتستند المعركة إلى هجوم ذي محورين على دمشق، من درعا والقنيطرة، بهدف الإطباق على العاصمة دمشق، وتدمير دفاعاتها. وقد دمّر الثوار في الجنوب ركائز النظام ونقاط قوته المتمثلة باللواءين 61 و90، فقد أدت الضربات المتتالية والناجحة التي وجهها الثوار إلى شلّ فعاليتهما، كما سيطر الثوار على معظم التلال في المنطقة، ما يجعل كل طرق إمداد النظام إلى درعا والقنيطرة مكشوفة واستهدافها سهلاً، وخصوصاً بعد سقوط تلول الحمر وكودنا والجابية وحوران بأيدي الثوار.
تتميّز التشكيلات الثورية المقاتلة في الجنوب بأنها تتشكل من النسيج الاجتماعي للمنطقة، ذلك أن معظم المقاتلين هم من أبناء المنطقة، كما يتميّزون، أيضاً، بدرجة انتمائهم العالية لفصائل الثورة، ولا يصدرون في مواقفهم عن خلفيات عشائرية، ويبلغ التعداد التقديري لجماعات الثوار في المنطقة نحو ثلاثين ألف مقاتل، وهم مجموعة تشكيلات تتبع الجيش الحر، وبعض التشكيلات ذات الخلفية الإسلامية، بالإضافة إلى وجود لجبهة النصرة.
وما يميّز عمل الثوار في المنطقة الجنوبية درجة الانضباط والتنسيق الكبيرة، بعدما جرت إعادة هيكلة الكتائب المقاتلة وتوحيدها ضمن قيادة مشتركة، وتدعيمها بغرفة عمليات واحدة، ما يوفر لها قيادة مركزية واحدة، وهو أمر طالما افتقدته الجبهات الأخرى، كما أنها تنطوي على عددٍ لا بأس به من القياديين المحترفين، خصوصاً الذين خضعوا لدورات تدريبية في الأردن، إضافة إلى وجود منشقين كثيرين في القيادات العملانية. وتمتلك الكتائب صواريخ “تاو” المضادة للدبابات، والتي كان لفعاليتها التدميرية أثراً كبيراً في منع النظام من إرسال دبابات بديلة.
بالإضافة إلى ما سبق، تتمتع منطقة الجنوب بمزايا استراتيجية مهمة، ترفع نسبة حظوظ الانتصار فيها، مثل قربها من دمشق، إذ لا تبعد المناطق التي يسيطر عليها الثوار في إنخل وجاسم وخان الشيح، سوى أقل من عشرين كيلومتراً، إضافة إلى توفر شبكة تغذية لوجستية، عبر غوطة دمشق الشرقية والبادية، ما يسهّل عملية إمدادها بالأسلحة والقوى البشرية.
يواجه نظام الأسد مأزقاً معقداً على جبهة الجنوب، إذ لا يملك جيش بشار أي احتياطي يمكّنه من صد الخطر القادم من الجنوب. وإذ تشير التطورات إلى قرب خسارته مدينة القنيطرة، فإن الخطر يزحف حثيثاً باتجاه أهم معاقله، “معسكرات الفوج التاسع”، التي تتمركز في الكسوة وقطنا وكناكر، والتي تعتبر آخر جدران حماية العاصمة من الجنوب.
وفي محاولةٍ لتجنّب هذا المأزق، حاول النظام استخدام تكتيكات عدة، مثل: القوة النارية للحرب الكلاسيكية، وتنسيق القوات البرية مع المقاتلات الحربية، إضافة إلى طائرات الاستطلاع، غير أن تلك الأساليب فشلت في وقف تقدم الثوار من الجنوب.
تشكل معركة الجنوب متغيّراً جديداً ومهمّاً في مسار الحرب ضد نظام بشار الأسد، إذ طالما جرى التركيز على جبهات الشمال، البعيدة نسبياً عن العاصمة، مقارنة بجبهة الجنوب التي يهدد نجاحها بتغيير المعادلات على الأرض وفرض واقع جديد، ينتهي بمحاصرة العاصمة، وربما إسقاطها، ما يجعل تلك المعركة تنطوي على أبعاد سياسية، وذلك لتناسقها مع السياق الدولي الذي تولَّد بعد فشل مؤتمر جنيف 2، وذهاب الأطراف الداعمة للثورة إلى محاولة تغيير موازين القوة، بهدف إجبار نظام الأسد على العودة إلى طاولة المفاوضات، بعد إعلانه موت العملية السياسية بشكلها الذي تم التواضع عليه في جنيف، وبحثه عن صيغ جديدة تعكس ما يعتقده انتصاره على الثورة.
انطلاقاً من ذلك، حاول نظام الأسد خلط الأوراق السياسية، بهدف إرباك تقدم ثوار الجنوب باتجاه دمشق، مرة عبر تهديده الأردن من اللعب بالنار، ومرة عبر ترويجه فكرة إنشاء إسرائيل منطقة عازلة في الجنوب، وكثيراً ما صرح بوجود مساعدات لوجستية إسرائيلية للثوار، غير أن موقع روترنت الإسرائيلي، ذكر أن الاستخبارات السورية تزوّد إسرائيل بمعلومات عن نُظُم صواريخ حماس، في مقابل معلومات تحركات “المسلحين” في درعا والقنيطرة.
على خلاف التوقعات السابقة، تشير تقديرات ميدانية إلى أن الجنوب قد يكون الجبهة الحاسمة، فالتحالفات الحاصلة هناك، وطبيعة التكتيكات والأسلحة التي يستخدمها الثوار، تثبت نجاعة كبيرة، مع ملاحظة أن تشكيلات جيش بشار في الجنوب هي آخر ما تبقى من بنية الجيش السوري. فجميع التشكيلات على الجبهات الأخرى هي ميليشيات طائفية، وكتائب عراقية ولبنانية، ما يعني أن انهيار التشكيلات العسكرية النظامية في الجنوب سيشكل انهياراً آخر في بنى الجيش النظامي، ما يهدد بانتقال الحرب السورية إلى مستوى آخر، وخصوصاً أن الأمر يتعلق، هنا، بأمن العاصمة التي يتمسك بها نظام الأسد، لإثبات وطنيته، وتأكيد شرعيته.