الجيوش مثل الصحف عرضة لمفارقات القرن الحادي والعشرين، فعليها التكيف لتبقى. بالنسبة للصحف كان لا بد لها أن تتكيف مع متطلبات الإنترنت، أما بالنسبة لجيش الولايات المتحدة فعليه التكيف مع البيئة الأمنية المتغيرة. والانغماس في حنين الماضي المقدس ترف لا الصحف ولا الجيوش بوسعها التمتع به. لذلك فإن لي الذراع الذي بدأ بخطة وزير الدفاع تشاك هيغل لتقليص حجم الجيش الأميركي، ورغم أنه متوقع لكنه ليس في صميم الموضوع. نعم ستترك تلك التخفيضات الولايات المتحدة بأقل عدد من الجنود على رأس العمل منذ عشية الحرب العالمية الثانية. لكن ليس هذا عام 1940، وإضافة إلى ذلك فكوسيلة إكراهية، فإن ذلك الجيش الأصغر حجما سيكون قاتلا أكثر من ذلك الجيش الأكبر بكثير، الذي ساعد في هزيمة ألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية. فلو كان أتيح الخيار للجنرال جورج باتن بين بضع مئات من دبابات أبرامز الحالية، أو بضعة آلاف من دبابات شيرمان العتيقة لما تردد في اختيار الأولى.
والسؤال الأكثر تناسبا هو: هل نحتاج حتى لبضع مئات من الدبابات؟ ولماذا؟ جاء في تقريري الكونغرس لعام 2012 أن قيادة الجيش العليا وصفت الخدمة العسكرية بأنها «قوة الأمة للعمل الحاسم». وفي نسخة 2013 فهم «ضمنوا خفة الحركة والمقدرة على التكيف والعمق اللازم للمنع والتشكيل والانتصار»، وذلك يؤهل بالتأكيد كتهديد – ما يقابل وعد صحيفة لمعلنيها بأنها ستضاعف أربع مرات من توزيع طبعتها.
أعطى انهماك واشنطن بالموازنات قادة الجيش والمؤسسة الأمنية القويمة بأكملها، عذرا للمراوغة من الأسئلة الأساسية. والسؤال الأكثر إلحاحا: ما الذي على الأمة أن تتوقعه من قواتها المسلحة؟ بعد الحرب الباردة وخاصة بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. توسعت التوقعات بما يمكن للقوات الأميركية أن تفعله توسعا كبيرا. ويمثل الدفاع في حد ذاته فكرة لاحقة تحجبها القناعة بأن القوة البارزة تحمل المفتاح لتحويل العالم من وضعه الحالي إلى ما تريد واشنطن أن يكون عليه: منظم وقابل للتنبؤ ويحترم القيم الأميركية ومراع لامتيازات الولايات المتحدة.
وأخضعت «الحرب العالمية على الإرهاب» ذلك الافتراض للاختبار مع نتائج مخيبة للآمال. إذ أدى نشر القوات على الأرض إلى الكوارث والتعقيدات، ولكن القليل عن طريق السلام والانسجام. لم يفعل ذلك شيئا لتعزيز موقف الولايات المتحدة وسمعتها. وكوسيلة لتفعيل التغير السياسي الإيجابي أثبت الجيش الأميركي أنه ينقصه الكثير للأسف. ليست تلك ضربة ضد جنودنا. لقد أدوا واجبهم بصورة تدعو للإعجاب على الرغم من أنه لا يمكن قول ذلك بالنسبة لمن أساءوا التخطيط لتلك الحروب التي أرسل إليها هؤلاء الجنود ليقاتلوا.
الأميركيون ليسوا ميالين اليوم للانغماس في تلك التجربة أكثر. فأوباما بتفضيله الكبير استخدام طائرات الدرون من دون طيار وعمليات القوات الخاصة، أجاز ضمنيا رؤية الشعب، حتى وإن خلا أسلوبه المرتجل للحرب من أي منطق استراتيجي جاد.
يؤكد الدرس العسكري الرئيس من حرب العالم على الإرهاب، ما كان يجب أن يكون عليه الدرس العسكري الرئيس من الحرب الباردة. الجيوش مناسبة للغاية للدفاع والاحتواء، لكن غزو البلدان واحتلالها محفوف بالمخاطر.
إنه مبدأ بوش، فقط جرى قلبه: بدلا من الانخراط في حرب وقائية، استخدم القوات بعد استنفاد كل البدائل الأخرى. وطالما كانت الطريقة مناسبة، حتى وإن استمرت على مدى عقود، فإن الاحتمالات المستقبلية للجيش الأميركي ستكون في صورة القنابل والصواريخ التي تنهال من القوات الجوية والأسطول.
أي دور إذن سيبقى للجيش الأميركي؟ الدور الشريف والضروري في الدفاع عن هذا البلد. بالنسبة لتلك المهمة باستثناء بروز تهديد مكسيكي أو كندي كبير، فإن جيشا أقل بكثير سيؤدي الغرض بصورة جيدة.
* أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية بجامعة بوسطن
* خدمة «واشنطن بوست»
نقلا عن الشرق الاوسط