سركيس نعوم
تختلف مصر في تعاطيها مع الأوضاع المأسوية في سوريا عن تعاطي دول عربية وأخرى إسلامية غير عربية معها مثل المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة وتركيا وغيرها. فهذه الدول اتّخذت من زمان موقفاً مؤيداً لـ”ربيع سوريا”، ثم الثورة السلمية لغالبية شعبها، وأخيراً لثورتها المسلحة بعد يأسها من تجاوب نظام الأسد مع مطالبها الإصلاحية. واستمر تأييدها رغم تحول الثورة حرباً أهلية – مذهبية وانقسام القائمين بها تنظيمات وميليشيات وجيوش متناحرة يدين بعضها بالإسلام الراديكالي المتطرف التكفيري العنيف. واذا كان التأييد المذكور لم يسمح للثوار بتحقيق اهدافهم فلأن الذين ترجموه دعماً بالسلاح والمال والرجال والتدريب كانوا بدورهم منقسمين، وكانت لكل منهم أهداف مختلفة ومطامح مختلفة وربما مطامع مختلفة.
أما مصر التي انشغلت “بربيعها” وبالتطورات التي حصلت خلاله وبالانقسامات بين الذين جعلوه ممكناً، فإنها لم تكن تستطيع أن تقف ضد ربيع سوريا. لكنها في الوقت نفسه لم تكن قادرة على الوقوف معه. ذلك أن ربيعها، على سلميته رغم سقوط مئات القتلى والجرحى في أثنائه، لم يحقق الغاية التي أرادها منه الشعب في المرة الأولى، فقام بمؤازرة الجيش، وربما بدفعٍ منه، بربيع ثانٍ كان أكثر نجاحاً. لكنه على رغم ذلك لم يعطِ الانطباع للمصريين وللعالم العربي كما للعالم الأوسع أنه نهائي. فالذين قاموا به يرسون أسس الدولة الجديدة، وينشئون مؤسساتها بالانتخابات، ويحاولون تحديث اداراتها بالمحاسبة والتعيين. ولذلك فإن تعاطي مصر الجديدة مع الوضع السوري كان حذراً ولا يزال. فهي غير قادرة على التورط مثل السعودية وقطر وتركيا والإمارات والأردن مع الثوار فيها، ولا حتى مثل الجمهورية الاسلامية الإيرانية و”فروعها” العربية مع النظام الذي حكمها قرابة 50 سنة، والذي يحاول الاستمرار حاكماً لها كلها رغم استحالة ذلك.
وهي في الوقت نفسه لا ترى مصلحة لها في اتخاذ موقف مؤيد للنظام ولا موقف معادٍ للثوار. بل ترى أن مصلحتها تكمن في إبقاء الاتصال مع الجانبين للاطلاع على تطور الأوضاع، وتالياً للايحاء بأن مصر التي كانت دائماً دولة كبرى جامعة للعرب وعاملة على حل مشكلاتهم وخلافاتهم ستعود الى ممارسة هذا الدور فور انتهاء قادة “ربيعها” الثاني وفي مقدمهم القوات المسلحة من اقامة الدولة الجديدة ومن معالجة التحديات الكثيرة التي تواجهها. من هذه التحديات الإرهاب الذي تمارسه باسم الاسلام تيارات أصولية سنّية متشددة جداً في شبه جزيرة سيناء، والتي بدأت تنقله الى الداخل المصري ومحافظاته المختلفة. ومنها أيضاً “جماعة الأخوان المسلمين” ذات التمثيل الشعبي القوي التي يراوح عدد المنتسبين إليها بين أربعمائة ألف عضو ومليون ونصف عضو. وسبب الفرق الكبير بين الرقمين يعود الى الهوية السياسية لمعطى كل منهما. علماً أن الرقم المعقول قد يقارب المليون. وتحدّيها للسلطة الجديدة كبير اولاً، بسبب تمثيلها الشعبي. وثانياً، بسبب رفضها تقديم أي تنازل وخصوصاً بعد مضي هذه السلطة في قمعها بكل الوسائل القانونية وغير القانونية.
وثالثاً، بسبب احتمال تحوّلها إلى العنف إذا رأت أن القضاء عليها هو الهدف. ومن التحديات ثالثاً الوضع الاجتماعي المصري المتردي، وشعور السلطة الجديدة بضرورة معالجته لأن الإحجام عن ذلك سيدفع المصريين الى “ربيع” ثالث اكثر عنفاً ربما من الأول والثاني، وخصوصاً بعدما كسروا جدار الخوف و”استعذبوا” النزول الى الشارع. وفيها رابعاً الوضع في السودان وليبيا المجاورتين لها، ففي الأولى عدم استقرار وانتفاضات، وفي الثانية حرب أهلية، والاثنتان صارتا مصدّرتين لإرهابيين اسلاميين إلى مصر وللسلاح إلى ارهابيين مصريين. ويجعل ذلك مهمة مصر “التصدي” لما يجري في الدولتين وهي بدأت تفعل ذلك. ومنها خامساً المشكلة مع اثيوبيا حول مياه نهر النيل.
لماذا هذا الكلام على مصر اليوم؟
لأن جهات عربية عدة تريد أن تعود مصر الى دورها العربي الكبير والرائد، وتصرّ على أنه ممكن الآن متجاهلة التحديات المذكورة أعلاه ربما لاستغراقها في الحلم. ومنها الرئيس بشار الأسد الذي يسعى باتصالاته الديبلوماسية معها الى إقناعها بالتوسط مع السعودية “حليفتها” الكبرى حالياً لتعديل موقفها المتشدّد منه ومن نظامه، وهي اتصالات موثقة. وهو يحاول الإيحاء في اتصالاته بوجود خلافات أساسية بينه وبين ايران، وخصوصاً حول دور الدين في الدولة والنظام. علماً ان تجاوب مصر حالياً قد يكون مستبعداً لأسباب داخلية وسعودية وايضاً لعدم اقتناع بـ”الخلاف” بينه وبين ايران.