اعتاد المصريون، منذ عزل الرئيس محمد مرسي (تموز/ يوليو 2013)، على توقّع حدوث عملية إرهابية يومية تستهدف قوات الأمن وموظفي النظام.
وقد ركّز «الإخوان المسلمون» نشاطهم طوال السنوات الثلاث الماضية، على قتل رجال الشرطة المصرية في شمال سيناء، أو على اغتيال شخصيات مهمة مثل النائب العام السابق هشام بركات.
وكانت الغاية من وراء تكثيف عمليات العنف، إقناع الرئيس عبدالفتاح السيسي بأن قرار ملء السجون بأربعين ألف متهم لن يوقف موجة الانتقامات ولو اضطر «الإخوان» الى الاستعانة بجماعة «داعش».
وكانت وزارة الداخلية المصرية قد اتهمت جماعة «الإخوان المسلمين» في سيناء باستخدام أحد عناصر «داعش»، من أجل تفجير الكنيسة البطرسية في القاهرة، الذي راح ضحيته 75 قتيلاً وجريحاً.
ويعترف كبار ضباط الشرطة الجنائية بأن ما صدر عن أسرة الرئيس السجين قد أذهلهم، بقدر ما أذهلهم أيضاً التصريح الذي صدر عن قيادة «حسم» – حركة سواعد مصر – و «لواء الثورة»، والاثنان يمثلان جناحي العنف لدى «الإخوان». وقالت أسرة الرئيس المعتقل في بيانها: «نتقدم بخالص العزاء للإخوة المسيحيين في هذا المصاب الفادح الذي يؤلم كل مصري حرّ. ذلك أن المقدسات كلها خط أحمر».
ونفت قيادة حركة «حسم» صلتها بالهجوم، مؤكدة ذلك بالقول: «إن نبينا (صلعم) علمنا حتى ونحن نقاتل ألا نقتل طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً، ولا عابداً في صومعته».
ووفق تفسير البعض، فإن «الإخوان» يتسلّحون بالآية 55 من سورة آل عمران، والتي تنصّ على التالي: «إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا الى يوم القيامة».
لكن مبررات الاستنكار والتنصّل لا تحجب الوقائع الدامغة التي تدين «الإخوان» في عشرات الأحداث، خصوصاً عقب انتفاضة 2011 التي أسقطت الرئيس السابق حسني مبارك. وقد سجلت الشرطة، على امتداد الوطن المصري، إحراق أربعين كنيسة. كما سجلت بعد سنة 2013، الاعتداء على مئتي مدرسة ومستشفى ومصح ودير تملكها الكنيسة.
يعترف الأقباط – وعلى رأسهم البابا تواضروس الثاني – بأن الرئيس السيسي عاملهم بإنصاف كمواطنين ساهموا في صنع تاريخ مصر منذ سنة خمسين ميلادية. ولقد أعانهم على تصحيح أوضاع طائفتهم التي حرمتها العهود السابقة من أبسط حقوق الخدمات الاجتماعية.
وهم حالياً يمثلون ما نسبته عشرة في المئة من عدد سكان مصر، الذي وصل الى المئة مليون نسمة. وهناك فقط 2.869 كنيسة موزّعة على المدن والأرياف. والصحيح أنه تم بناؤها قبل سنة 1935. أي قبل صدور القانون الذي يفرض الحصول على ترخيص مسبق في حالتي البناء والترميم. ومع أن القانون في مصر يقرّ حرية العبادة، لكن القيود الموضوعة على رخص بناء الكنائس تحول دون زيادتها بنسبة تؤمن لأبناء الطائفة تلك الحرية. والمثل على ذلك أن هناك كنيسة واحدة لكل 3.140 مصلٍّ. ويبلغ عدد الجوامع في مصر أكثر من مليون وثمانمئة جامع، بحيث يستطيع تأدية الصلاة كل 750 شخصاً في جامع.
على كل حال، شهدت الأربعينات نوعاً من تقارب غير مسبوق بين الأقباط وجماعة «الإخوان المسلمين»، لم تعرفه مصر من قبل أو من بعد.
وحدث ذلك عقب اغتيال النقراشي باشا على أيدي اثنين من الإخوان، الأمر الذي دفع الأجهزة الأمنية الى تصفية زعيم الإخوان حسن البنا (1948).
وبسبب الإجراءات الأمنية الصارمة التي عززتها وزارة الداخلية بالشرطة المسلّحة، اقتصر الحضور على أفراد عائلة البنا أثناء الجنازة الصامتة.
وحده الوزير القبطي السابق مكرم عبيد شارك في تشييع الجثمان، ورفض الاستجابة لسياسة المقاطعة.
وكان من الطبيعي أن ينعكس هذا التصرف الاستثنائي على علاقة «الإخوان» مع الأقباط بطريقة إيجابية استمرت حتى انقلاب الضباط الأحرار (1952).
تقول الروايات أن الكنيسة البطرسية التي فُجِّرت في القاهرة بواسطة انتحاري، تحمل اسم أول كاهن حمل لقب بابا قبل ظهور البابوية في روما بعشر سنوات. وكان ذلك عام أربعين ميلادية، الأمر الذي يعزو كتابة إنجيل مرقس إليه. وبما أنه قتل في الاسكندرية حيث كان يبشر بالمسيحية، فقد دفن فيها. وبعد مرور حقبة طويلة – ربما في القرن السابع – أخرج الرومان هيكله العظمي من قبره، وسرقوا جمجمته ليدفنوها في كنيسة القديس بطرس في فينيسيا.
يقول المحللون في الصحف المصرية، أن توقيت عملية التفجير اختير لأسباب مختلفة، بينها: أولاً – نسف الميثاق القومي الذي نشره يوم السبت الماضي 160 مثقفاً، بينهم شخصيات بارزة في أحزاب الإسلاميين واليساريين والليبراليين. واللافت، أن الوثيقة ضمّت اسمي محمود حسين، أمين عام حركة «الإخوان»، وهمام علي يوسف، عضو مجلس الشورى في الحركة. ومعنى هذا، أن توقيت العملية لم يكن مصادفة، وإنما ارتبط بقرار نسف الميثاق القومي الذي تبنى المطالبة باحترام الآخر، والكفّ عن استخدام لغة العنف بدلاً من لغة الحوار.
ثانياً – تشويش أجواء الاستقرار السياسي، وإظهار رئيس الدولة بمظهر العاجز عن حماية المواطنين والسياح من ضربات الإرهابيين المعروفين!
ثالثاً – إشاعة الخوف بين الأقباط، ومنعهم من مساندة رئيس لا يستطيع تأمين حمايتهم والحفاظ على ممتلكاتهم. تماماً مثلما فعل تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي أعدم 21 قبطياً في ليبيا السنة الماضية.
رابعاً – إحياء خيار الرئيس باراك أوباما، الذي باشر ولايته الأولى بزيارة أنقرة. ثم زار القاهرة وقدم «حزب العدالة والتنمية» كنموذج للإسلام المتنور، الأمر الذي دفعه الى دعم الرئيس محمد مرسي، واعتبار حركة «الإخوان» ضمانة الاعتدال للنظام المصري الجديد.
ثم تبيّن بعد ذلك، أن زيارة مرسي إيران للمشاركة في مؤتمر «دول عدم الانحياز» لم تكن أكثر من خطوة مطلوبة أميركياً بهدف إنشاء تحالف يعين من خلاله الرئيس الإخونجي على تخطّي موقف المشير محمد حسين طنطاوي، القائد العام للقوات المسلّحة.
وبما أن عبدالفتاح السيسي كان مشرفاً على الأجهزة الأمنية، فقد اكتشف الخطة الأميركية، وعمل على إجهاضها في المهد. وكان من نتيجها عزل مرسي.
أثناء وجوده في الأمم المتحدة، التقى السيسي الرئيس المنتخب دونالد ترامب، الذي رحب به وامتدحه على خوض معركة مصر ضد الإرهاب، وأعطاه موعداً في البيت الأبيض خلال شهر أيار (مايو) المقبل.
ومن المتوقع أن تعود العلاقات الأميركية – المصرية الى سابق عهدها، وأن ينجح السيسي في بناء مناخ سياسي جديد مع رئيس يهمه كسر شوكة الإرهاب.
في مطلق الأحوال، من الصعب فصل عملية تفجير الكنيسة البطرسية في القاهرة، عن عملية تهجير المسيحيين من كل منطقة الشرق الأوسط.
ويكفي التذكير بأنهم كانوا يزيدون عن المليونين في تركيا، واليوم لم يعد لهم أثر… وكانوا يمثلون ثلث سكان سورية مطلع القرن الماضي، واليوم لا يتعدى عددهم العشرة في المئة من عدد السكان… وكانوا في لبنان يشكلون 55 في المئة سنة 1943 وصاروا اليوم أقل من 35 في المئة… وتضاءل عددهم في العراق من مليونين وسبعمئة ألف نسمة الى سبعمئة ألف على أبعد تقدير. علماً أن مسيحيي الشرق كانوا يشكلون جزءاً أساسياً من النسيج الاجتماعي. لكن موجة التهجير التي افتعلتها التنظيمات المتشددة داخل الإسلام السياسي، فتحت أبواب الهجرة الجماعية لأقدم الجاليات وأكثرها تقدماً وتطوراً وانفتاحاً…