الاب جورج مسوح
اندثرت المسيحيّة من بلاد عديدة اعتنق سكّانها الإيمان المسيحيّ منذ نشأة الكنيسة. ويسعنا أن نذكر، على سبيل المثال، إفريقيا الشماليّة من ليبيا إلى المغرب مرورًا بتونس والجزائر وموريتانيا، وآسية الصغرى (تركيا الحاليّة)، والجزيرة العربيّة… ويسعنا أيضًا أن نذكر العراق وفلسطين اللتين يكاد الوجود المسيحيّ ينعدم فيهما.
بدأ تقهقر المسيحيّة في إفريقيا الشماليّة مع الفتح الإسلاميّ، إلى أن انعدم كلّيًّا في القرن الثاني عشر مع غزوات الموحّدين الذين تميّزوا بالتعصّب. وكانت الكنيسة الإفريقيّة قد شهدت ازدهارًا كبيرًا في القرون الأولى، بحيث بلغ عدد أساقفتها حوالى سبعمئة أسقف. وقد أنجبت هذه الكنيسة معلّمين كبارًا ما زالوا إلى اليوم مراجع معتدّة في اللاهوت، أوّلهم ترتليانوس (+240)، والقدّيس كبريانوس القرطاجيّ (+258)، والمغبوط أوغسطينوس أسقف هيبّون (+430)…
بعد سقوط القسطنطينيّة (1453) في يد العثمانيّين، بدأ زوال المسيحيّة من آسية الصغرى. ولم تكن “العلمانيّة” الأتاتوركيّة أفضل حالاً مع المسيحيّين من الإسلام العثمانيّ، فمَن نجا من جور السلطنة قضت عليه القوميّة التركيّة المتعصّبة بتواطؤ من الغرب، وبخاصّة فرنسا التي سلخت أنطاكية ومحيطها (لواء الإسكندرون) من سوريا وأهدتها الى تركيا الكماليّة. ويسعنا هنا أن نذكر الأرمن والسريان والروم الأرثوذكس على امتداد الجغرافية التركية من الأناضول وكبادوكيا وكيليكيا وأنطاكية إلى سائر القرى والدساكر.
يجمع الباحثون على القول إنّ اندثار المسيحيّة في هذه البلاد يعود إلى أسباب عدّة: سياسيّة ودينيّة واجتماعيّة وثقافيّة واقتصاديّة، ولا يمكن تعليل هذا الاندثار بسبب واحد هو انتشار الإسلام. صحيح أنّ تعصّب بعض الحكّام المسلمين أدّى، في بعض الحقب، إلى تضييق الخناق على المسيحيّين، لكنّ أسبابًا أخرى أيضًا قد دفعتهم إلى التخلّي عن إيمان آبائهم وأجدادهم.
ما يجري في سوريا اليوم يفرض علينا طرح السؤال الآتي: هل المسيحيّة آيلة إلى الزوال في مهدها؟ العبرة التاريخيّة تقول بأنّ كلّ شيء ممكن أن يحدث. فمَن كان يظنّ أنّ إفريقيا الشماليّة وآسية الصغرى اللتين شهدتا عصورًا ذهبيّة للمسيحيّة ستضمحل منهما المسيحيّة كلّيًّا؟ مَن كان يظنّ منذ قرن فقط بأنّ فلسطين، التي بقي فيها المسيحيّون في ظلّ ثلاثة عشر قرنًا من الخلافة الإسلاميّة، ستفرغ أو تكاد من مسيحيّيها بسبب الاحتلال الإسرائيليّ؟ مَن كان يظنّ أنّ العراق، الذي شهد في أوج الخلافة العبّاسيّة ازدهارًا مسيحيًّا لا يضاهى، سيصبح فيه الوجود المسيحيّ في خطر داهم؟
بقاء المسيحيّين في سوريا وسواها من بلاد المشرق العربيّ منوط بهم وبصمودهم، ومنوط أيضًا بانفتاح المسلمين وحرصهم على بقاء شركائهم في البلاد. وإنّه لخطأ فادح أن يربط المسيحيّون بقاءهم ببقاء نظام يحميهم، أو بتدخّل أجنبيّ يذود عنهم. أمّا الأشدّ خطرًا فهو أن يتخلّى المسيحيّون عن رسالتهم وشهادتهم، التي يمكن إيجازها بحمل الصليب، في سبيل بقائهم. الشعب السوريّ كلّه، لا المسيحيّون فقط، هو مَن يدفع ثمن الجنون المنفلت من أيّ عقال. قرية معلولا جزء عزيز من سوريا، وما يحدث فيها لا يجوز أن يحدث في أيّ قرية أخرى. دماء المسيحيّين ليست أغلى من دماء المسلمين، وكنائسهم ليست أغلى من مساجد المسلمين. على المسيحيّين التمسّك بالإيمان والرجاء والمحبّة والصبر إلى حدّ الاستشهاد، حتّى تنقضي هذه الأيّام السوداء، فيعودوا الخميرة الصالحة التي تخمّر العجين كلّه. أمّا المسيحيّة فلن تزول إذا أردنا لها ألاّ تزول.
منقول عن النهار اللبنانية