عبد القادر أنيس
أتناول في هذه المقالة العاشرة هذا الفصل الذي عنونه الدكتور يوسف القرضاوي “العلمانية ضد الدستور”. يقول في مستهل هذا الفصل: “وأما أن العلمانية ضد الدستور، فبيان ذلك من أوجه ثلاثة: “الأول: أن الدستور ينص في مادته الثانية بصريح العبارة: أن الإسلام دين الدولة الرسمي، كما أن اللغة العربية لغتها الرسمية. وهذه مادة قديمة أصيلة في الدستور المصري، وقد كانت ثابتة في دستور 1923م، فهي من المواد الأساسية المميزة، والمبينة لشخصية مصر العربية المسلمة. فالمناداة بالعلمانية ـ إذن ـ منافاة صريحة لهذه العبارة، التي لم يخالف فيها يمين ولا يسار”. قبل عرض النقطتين التاليتين، نتوقف مع هذه النقطة بالذات. وبما أن القرضاوي يحتج علينا بالدستور المصري، وهو في الواقع لا يختلف عن الدساتير العربية الأخرى في هذا الباب، فبوسع العلمانيين أن يحتجوا عليه بمواد أخرى كانت ذات أهمية في بعض الفترات أكثر من الإسلام في نظر السياسيين. خاصة وأن الدساتير العربية عبارة عن كشكول غريب عجيب بوسع كل شخص من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار أن يجد فيها ما يأكل وما يشرب إذا قرأها بطريقة القرضاوي الانتقائية. تصنيف:دساتير مصر
لا نجد مثلا في الدستور المصري لسنة 1882 أية إشارة للإسلام كدين للدولة، وهذا يعني أن المادة التي يتخذها الإسلاميون مثل مسمار جحا كما في الحكاية الشعبية عندنا أو كقميص عثمان، ليست “مادة قديمة أصيلة في الدستور المصري” كما زعم الشيخ. هذه الضبابية في الدساتير العربية بالإضافة إلى النفاق الذي جعل الدولة كائنا متدينا لا نجد مثيله في الدساتير الحديثة وقد سمحت هذه الضبابية بكل أنواع التلاعبات والتنازلات فيما بعد. وطبعا هذا التنازل في الدساتير العربية لصالح الدين والخضوع لمؤسساته التقليدية تم على حساب تطلعاتنا نحو آمال الحداثة التي بعثتها النهضة العربية وأدى في النهاية إلى الفشل الذريع لكل المشاريع. وقد بدأ التراجع عنها مع مصر منذ دستور 1923 الذي نص على أن الإسلام دين الدولة في المادة 149، قبل أن يحتل الدين المادة الثانية في دستوري 1971 و2007 على قرار باقي الدساتير العربية، ثم أضيف إليها أن “مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسى للتشريع”. لا بد أن نشير إلى أن هذه الدساتير، خاصة في البلاد العربية ذات الأصول غير العربية، مثل مصر وبلدان شمال أفريقيا والسودان والعراق وغيرها، قد أهملت جوانب أخرى من مقومات هذه البلاد، نراها اليوم تطفو إلى السطح على حساب ما تتطلبه مشاريع التنمية من أمن واستقرار وتعايش سلمي وتحالف كل مكونات مجتمعاتنا ومقوماتها. عكس المادة العزيزة على القرضاوي نقرأ في الدستور المصري لسنة 1971 في المادة 3 أن “السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها ويصون الوحدة الوطنية على الوجه المبين في الدستور”. وفي المادة 4 نقرأ “الأساس الاقتصادي لجمهورية مصر العربية هو النظام الاشتراكي الديمقراطي القائم على الكفاية والعدل، بما يحول دون الاستغلال ويؤدى إلى تقريب الفوارق بين الدخول، ويحمى الكسب المشروع، ويكفل عدالة توزيع الأعباء والتكاليف العامة”. وطبعا واضح من المادة الثالثة أن مضمونها يتعارض مع معلوم القرضاوي من الدين الذي لا يقبل أية سيادة إلا لله، ولا يقبل إلا الشريعة الإسلامية مصدرا للكل تشريع، ولم يحدث للشعب في طول التاريخ الإسلامي وعرضه أن مارس السلطة والتشريع بالمعنى الذي نفهمه من الممارسة السياسية العصرية المستوحاة من التجربة الغربية شأنها شأن الدساتير العربية المستوحاة هي الأخرى من الدساتير الغربية الوضعية. أما المادة الرابعة فهي حديثة قلبا وقالبا كفكرة وضعية بامتياز. وحتى الإسلاميين ظلوا يكفرونها ويكفرون الداعين لها دائما، أما غيرهم من رجال الدين التقليديين التابعين للدولة ومؤسساتها فهم غالبا ما لجئوا إلى تبريرها مرغمين بناء على طلب من أولي الأمر عبر تخريجات ساذجة من قبيل الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار، بالنسبة للاشتراكية، ومن قبيل الشورى كمقابل للديمقراطية. مع ذلك يقول القرضاوي في النقطة الثانية بـ “أن الدستور ينص في مادته تلك “الثانية” على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع”. ويقول: “وهذه المادة تأكيد لتلك المادة وتفسير لها، وإعطاؤها مدلولا عمليا يتمثل في التشريع، الذي تصوغ به المجتمعات حياتها الدنيوية في قوالب قانونية”. وهو أسلوب مخادع لاستغفال الناس ليس إلا، وكنوع من الحيلة لتأليبهم ضد العلمانية. وهو يعرف أن إدراج عبارة “الإسلام دين الدولة” وعبارة “الشريعة الإسلامية مصدر التشريع” من قبل الأنظمة القومية كان نوعا من النفاق السياسي أبعد ما يكون عن نية حقيقية لأسلمة الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها. بينما يتخذه الإسلاميون كأسلوب للالتفاف على منجزات الحضارة كما هو ديدن الإسلاميين وتشويهها وتقديم الإسلام كبديل أرقى لها: هو في النهاية مسعى بائس ما أشبهه بتشبث الغريق بالطحلب. ذلك أن معظم القوانين المعمول بها في الاقتصاد والسياسة والإدارة والمال وغيرها مستوحاة من التجارب التشريعية الغربية، ولا أثر للإسلام فيها ولا عليها باستثناء قوانين الأحوال الشخصية المتعلقة أصلا بالمرأة كتنازل لهمجية مجتمع ذكوري متخلف.
وثالثا نقرأ للشيخ “أن الدستور في مادته يكفل الحرية الدينية لكل مواطن”. ثم يقول: “والمسلم إذا فرضت عليه العلمانية، فقد فرض عليه أن يتحلل من دينه، وما يوجبه عليه ربه، وما تلزمه به شريعته، فأنت بالعلمانية تلزم المسلم ـ رغم أنفه ـ أن يعطل ما فرضه الله عليه، وأن يرتكب ما حرم الله عليه، فلا يستطيع إذا كان حاكما (رئيسا أو وزيرا أو عضو مجلس تشريعي أو قاضيا) أن يحكم بما أنزل الله، كما أمره الله. ومعنى هذا أننا بالعلمانية نفرض عليه أن يسخط ربه ويتحداه جهرة، بتعطيل أحكامه، فيوصم بالكفر، أو الظلم، أو الفسوق، بنص القرآن”. القرضاوي هنا لم ير إلا الحرية الدينية المقتصرة على المسلم، كمطلب جدير بالاحترام، ضاربا عرض الحائط الحريات الأخرى التي نصت عليها الدساتير المصرية. نقرأ مثلا في دستور مصر لعام 1923، في المادة 3 “المصريون لدى القانون سواء. وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين.. وفي مادة 12: “حرية الاعتقاد مطلقة”. وفي المادة 14 “حرية الرأي مكفولة. ولكل إنسان الإعراب عن فكرة بالقول أو بالكتابة أو بالتصوير أو بغير ذلك في حدود القانون”. وهي مواد تتعارض أساسا مع هذا المعلوم الترهيبي التخويفي التخويني من الدين الذي يبدع القرضاوي في التعبير عنه في الفقرة السابقة وهو ما يوهم المسلم الذي يقبل بالعلمانية أو حتى يضطر للعيش في بلاد العلمانية في وضع بائس جدا، أنه يعيش وهو، حسب اعتقاد القرضاوي، “يسخط ربه ويتحداه جهرة، بتعطيل أحكامه، فيوصم بالكفر، أو الظلم، أو الفسوق، بنص القرآن”. ومع ذلك تفادى الالتفات إلى هذه المواد حتى لا يكشف لنا عن مواقفه القروسطية المتخلفة المعادية للحريات الفردية والجماعية. هو يعرف أن الشريعة الإسلامية لا تضع جميع المصريين على قدم المساواة كما نفهمها استنادا إلى المفهوم العصري للمساواة والحرية والمواطنة الحقة. الشريعة لا تسوّي المسلم بغير المسلم ولا تسوّي المرأة بالرجل أما إذا كشفنا عن ذلك الماضي العبودي البغيض الذي أباحه الإسلام وتعايشت معه المجتمعات الإسلامية على مدى قرون فلن يستقيم كلام القرضاوي أبدا. وهي لا تعترف بالمواطنة كمفهوم عصري دخيل على مجتمعاتنا. في شريعة القرضاوي لا مكان لعبارة مثل “حرية الاعتقاد مطلقة”، الواردة في الدستور، ولا مكان لعبارة “حرية الرأي مكفولة” وهو الذي وقف إلى جانب صديقه الغزالي عندما برر جريمة اغتيال فرج فودة. وهو في الأخير القائل في هذا الكتاب: ” العلماني الذي يرفض “مبدأ” تحكيم الشريعة من الأساس، ليس له من الإسلام إلا اسمه، وهو مرتد عن الإسلام بيقين، يجب أن يستتاب، وتزاح عنه الشبهة، وتقام عليه الحجة، وإلا حكم القضاء عليه بالردة، وجرد من انتمائه إلى الإسلام، أو سحبت منه “الجنسية الإسلامية” وفرق بينه وبين زوجه وولده، وجرت عليه أحكام المرتدين المارقين، في الحياة وبعد الوفاة”. وهو ما يضع القرضاوي في تناقض صارخ مع أغلب مواد هذا الدستور ولم ير منها إلا مادة يتيمة بنى عليها حكمه الخاطئ الذي حمله عنوان هذا الفصل: “العلمانية ضد الدستور”. ومن المفروض ألا يكون في أي قانون مواد متعارضة متضاربة متنافرة يلغي بعضها البعض كما هو حال دساتيرنا العربية وتبيح لأعداء الحق والحرية العبث بها وتسفيهها في أعين المواطنين، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. ثم نقرأ له أيضا: “وإذا كان محكوما لم تمكنه العلمانية أن يحتكم إلى ما أنزل الله، وهو فرض عليه، لا خيار له فيه شرعا. وكذلك لا يستطيع أن يمارس إسلامه بحرية كافية، فالمعاملات الربوية المحرمة تحيط به من كل جانب، وراتبه نفسه مشوب بالربا، ومواقيت الصلاة لا تراعى في عمله، وهو إذا رأى منكرا شائعا، لا يستطيع أن يغيره أو ينهى عنه، إذا كانت القوانين الوضعية تحميه، وكذلك إذا رأى فرضا مضيعا من فروض العين، أو فروض الكفاية، لا يستطيع أن يأمر به. وهو لا يستطيع أن يوالي أو يعادي على أساس العقيدة، لأن العلمانية ترفض العقيدة، أساسا للولاء والانتماء. ومن هنا يحرم المسلم، الذي يريد أن يرضي ربه، ويعمل بدينه، من التدين المفروض عليه، ولا يباح له إلا التدين الشعائري، التقليدي المعروف في النصرانية وما شابهها، بل إن هذا التدين ـ أحيانا ـ تحوطه قيود وأغلال لا تمكن المسلم من أدائه على الوجه المطلوب”. نخرج من هذا الكلام أنه إذا خضعت مجتمعاتنا لهذه الفتاوى البغيضة، فتاوى الولاء والبراء والجنسية الإسلامية والحب في الله والبغض في الله فلن يعرف الناس بجميع انتماءاتهم الطائفية والمذهبية والدينية مزايا المواطنة والمساواة والحرية والاختلاط والتبادل المثمر والتعايش السلمي. فهل هذا هو شعور الناس عندنا حكاما ومحكومين؟ أو بالأحرى هل موقف الإسلاميين كما يعبر عنه القرضاوي هو الموقف السليم الممثل حقا لمصالح أممنا ومشاعر شعوبنا؟ يعجبني هنا قول طه حسين من أن الناس عموما كانوا عكس ما يزعم شيخنا بوصفهم كانوا”مستعدين أحسن الاستعداد وأقواه للاتصال بأزمنتهم وأمكنتهم…. وهم يعلمون أن الإسلام بخير وأن الصلوات ستقام وأن رمضان سيصام وأن الحج سيؤدى، لا هم بالمسرفين في التدين ولا هم بالمسرفين في العصيان والفسوق”. هذا كان حالنا عندما كان المثقفون العرب في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين يحملون مشاريع حداثية قبل أن تنتكس تلك المسيرة الواعدة بعد أن تحالفت ضدها قوى الاستبداد والأصولية. لكن القرضاوي يصر مرة أخرى أن العلمانية: “… ضد الدستور نصا وروحا، بيقين فالدستور يكفل الحريات، وأولها الحرية الدينية، وأدنى دلائل الحرية الدينية أن تعمل بما يفرضه عليك دينك، بلا ضغط ولا تنازلات”. وهو تجاهل مفزع لما تعنيه الحرية الدينية في المجتمعات الراقية وما نصبو إليه في مجتمعاتنا من حق كل فرد في ممارسة الدين الذي يرتضيه لنفسه أو تغيير الدين أو حتى عدن اعتناق أي دين، بشرط أن يتم التعبير عن المعتقدات المعنية دون تعكير صفو النظام العام”. هذا ما جاء في إعلان حقوق الإنسان كما صيغت ووافقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948. عبدالقادر أنيس فيسبوك