مقدمة بقلم رئيس التحرير: في هذه المقالة الرائعة يعطي الكاتب المرموق ستيفن ساسجان اجابة مفحمة لكل الواهمين, وخاصة من اليساريين والقوميين والاسلاميين العرب, من امكانية تبوء الصين الريادة في العالم في أي مجال من المجالات, والسبب الرئبسي لعدم تمكنها من التفوق على العالم الحر هو غياب الحرية فيها, بالرغم من ان الصين تنفق الميزانيات الطائلة في البحث العلمي, وبالرغم من امتلاكها للقوة البشرية الهائلة, ولكن لم تحقق سوى القليل, وتنحصر ريادتها في استخدام ما توصل له الاميركان الاحرار من اختراعات.
ستيفن ساسجان
هل ستحقق الصين التفوق التقني متجاوزة الولايات المتحدة في مجالي الابتكار العلمي والهندسي؟ يبدو أن الكثيرين من الناس يعتقدون ذلك. وقد أسهم في ذلك الاعتقاد ما حققته الصين من هبوط أول سفينة فضاء صينية غير مأهولة على سطح القمر، وما حققته من تقدم في مجال الطاقة المتجددة ونظام الخطوط الحديدية والقطارات فائقة السرعة والعدد المتزايد من طلبات براءات الاختراع التي تقدمها الصين، وإنفاقها الواسع على البحث والتنمية. وقد شاع هذا الاعتقاد عبر معظم أنحاء العالم. وحسب استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث الصيف الماضي، فإن الصين تتأهب لتتجاوز الولايات المتحدة باعتبارها القوة الأولى في العالم، إن لم تكن قد أصبحت كذلك بالفعل.
وقد تردد التعبير عن القلق من احتمال استعادة الصين – وهي موطن اختراعات تاريخية بارزة مثل الطباعة والبارود – لإرثها ومجدها بوصفها أرض الابتكارات والإبداع؛ تردد على أعلى المستويات في حكومة الولايات المتحدة. ففي عام 2011 علق ستيفن شو وزير الطاقة الأميركي حينها حول تفوق الصين في إنتاج خلايا الطاقة الشمسية منخفضة التكلفة، حاثا: «نستطيع بالفعل ويجب أن نستعيد قيادة هذه التقنية».
لا يجب أن يقلق الأميركان بهذا الشكل. نعم لقد أظهرت الصين مهارة في انتقالها إلى الإنتاج ذي القيمة العالية وبرعت في تحسين التقنيات الحالية مع إنتاجها بأسعار أرخص، لكنها لم تبرع في الابتكار الحقيقي (اخترعت أول خلية حديثة للطاقة الشمسية في الولايات المتحدة).
لا يعرف ذلك أفضل من الصينيين أنفسهم. فقبل أن يترك الرئيس الصيني هو جينتاو الرئاسة في 2012 وجه معظم المبالغ الضخمة التي أنفقها على دعم الابتكار العلمي من أجل «تحقيق التجديد العظيم للأمة الصينية». لكني بوصفي عالما درس في الصين لا أعتقد أن الصين ستقود الابتكار في أي وقت قريب، أو على الأقل ليس قبل إبعاد مؤسساتها الثقافية بعيدا عن قمع المعارضة، ونحو حرية التعبير وتشجيع الفكر النقدي. وقد انبعثت معظم ابتكارات التحول النموذجي خلال عقود ماضية – من اختراع مايكل فراداي لتوليد الكهرباء بتحريك سلك نحاسي عبر حقل مغناطيسي في لندن عام 1831 إلى اختراع الترانزستور بواسطة معامل بيل في نيو جيرسي خلال الأربعينات – من بلدان ذات مستويات عالية نسبيا من الحرية السياسية والفكرية. فلماذا كان ذلك؟
السبب الأول ثقافي، فالمجتمعات الحرة تشجع الناس على التشكك وتوجيه الأسئلة المنتقدة. عندما كنت أدرس في جامعة في بكين عام 2009 كنت أسأل طلابي عادة إن كان لديهم أسئلة، وكان نادرا ما يكون لديهم أسئلة. وبعد محاضرتي الأخيرة وبناء على إلحاحهم ناقشنا أسباب تحفظهم.
وأشار عدة طلاب إلى أنهم منذ طفولتهم لم يشجعهم أحد على طرح الأسئلة. كنت أعلم أن الثورة الثقافية قلبت التعليم العالي والاستفسار الفكري عامة خلال فترة حياة آبائهم، لكني لم أرغب كضيف أن أخوض في نقاش سياسي. وبدلا من ذلك لفت انتباه طلابي بلطف إلى أنهم يخططون ليصبحوا علماء، وأن التشكك والأسئلة المنتقدة جوهرية لفصل القمح عن قشره في جميع التجارب الأكاديمية.
والسبب الثاني مؤسسي، فبدأت معظم الاختراعات الأميركية بأفكار ذكية لبعض الأفراد الذين يعملون في صناعة معينة أو حكومة أو جامعة أو مختبر، أو ربما في جراج أو وادي سيليكون. على الرغم من ضرورة دعم الدولة للبحث والتنمية فإن الابتكار ناتج عادة عن نهج من القاعدة إلى القمة. ونموذج كلاسيكي على ذلك، تلك الرسالة التي كتبها ألبرت آينشتاين إلى الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت عام 1939، والتي يقول فيها إن الانشطار النووي يمكن أن يكون أساسا لقنبلة قوية، تلك الرسالة التي أدت إلى مشروع مانهاتن.
في عام 2006 قدت مجموعة من العلماء من كورنيل لمناقشة إمكانية التعاون في تقنية النانو مع زملاء من جامعة تشينغوا في بكين وجامعة تشياو تونغ بشنغهاي. وخلال تناول الطعام أخبرني الزملاء الصينيون أن البحث العلمي يسير بنهج من القمة إلى القاعدة.
أما السبب الثالث فهو سياسي، حيث إن المجتمعات الحرة تجتذب المواهب الأجنبية. شهدت إنجلترا مولد المحرك البخاري في القرن الـ18 ويرجع ذلك جزئيا إلى أن دينيس بابن، وهو هيوغونوتي بروتستانتي فرنسي، فر من فرنسا إلى إنجلترا بسبب التسامح الديني الأكبر فيها. وأخذ توماس نيوكومين وجيمس وات فكرته باستخدام البخار والضغط الجوي لأداء العمل مما أسس الثورة الصناعية الأولى.
لم أستطع أن أقاوم خلال رحلة لي إلى الصين الخريف الماضي ملاحظة أنه ليس هناك عدم إمكانية للدخول إلى مصادر الأخبار الغربية فحسب، بل هناك سخرية من الأخبار بشكل عام.. فالذين «يعرفون» لا يثقون في وكالات الأخبار الحكومية مثل «شينخوا» وتلفزيون الصين المركزي. ولا تبعث قضية شيا يليانغ الثقة في الحرية الأكاديمية، وهو أستاذ في جامعة بكين يبدو أنه فصل لحديثه الصريح ضد حكم الحزب الواحد. عندما كنت في بكين زرت أنا وزوجتي منطقة 798 للفنون شمال شرقي المدينة. وخلال تجولنا في المعارض والاستديوهات سألت عن الفنان والمعارض إي واي واي الذي التقيناه في بيركلي بولاية كاليفورنيا عام 2008. فقالت لي السيدة التي تحدثت إليها إن محاولة زيارته خطرة للغاية لأن هناك الكثير من رجال الشرطة حول المبنى الذي يوجد به.
لا يمكن المبالغة في أهمية إنفاق الصين على البحث والتنمية، خاصة في وقت قامت خلاله الولايات المتحدة بتخفيضات شابها قصر النظر على موازنات المعاهد الوطنية للصحة والمؤسسة العلمية الوطنية وغيرها من الوكالات التي تمول البحث. لعلي مخطئ في اعتقادي بأن الحرية السياسية أساسية للابتكار العلمي. فيجب عليّ كعالم أن أكون متشككا في خلاصاتي التي أتوصل إليها. لكن في وقت ما من هذا القرن الذي لا يزال جديدا، سنرى نتائج هذه التجربة وهي تتكشف. في هذا الوقت لا أزال أراهن على أميركا.
* أستاذ فخري لعلوم المواد والهندسة بجامعة كورنيل، ومؤلف كتاب «مادة الحضارة: المواد وتاريخ الإنسان من العصر الحجري إلى عصر السيليكون».
* خدمة «نيويورك تايمز»
منقول عن الشرق الاوسط