مرّت المقابلة المفصلة لقناة الـ”بي بي سي” مع أحد صُناع القرار في بريطانيا، وعضو كبير في مجلس اللوردات البريطاني، ديفيد آليانس، وهو يهودي إيراني، الذي وُلد في مدينة كاشان بمحافظة أصفهان، وهي أحد أكبر معاقل اليهود، واسمه الإيراني هو «داود كاشي»، مرور الكرام، ولم تلق اهتمامًا من وسائل الإعلام العربية بشكل عام.
أكد اللورد ديفيد آليانس، خلال حديثه المطول لقناة الـ”بي بي سي” الفارسية، أنه لعب دورًا مؤثرًا في تقارب وجهات النظر بين الإيرانيين ومراكز صُنع القرار في المملكة المتحدة البريطانية والولايات المتحدة الأمريكية، وبمساعدة اللوبيات اليهودية في البلدين، لإنجاز الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وفي تصريح لافت للغاية، شدد على أنه «يجب أن يعطي الغرب طهران دور الريادي في منطقة الشرق الأوسط»، وأن «إيران ستلعب دور الوسيط لتحقيق السلام بين العرب والفلسطينيين لتحقيق السلام»، وأضاف أنه لا يمكن أن يستمر الوضع في المنطقة، كما هي الحال عليه الآن بين إسرائيل والعرب من جانب، وبين تل أبيب وطهران من جانب آخر. وفي جانب آخر من مقابلته، صرح أنه يجب مساعدة ودعم النظام الإيراني لاعتماد «الاعتدال» في سياساته ودعم «المعتدلين» هناك، وعلى رأسهم حسن روحاني، وأن اليهود في إيران يتمتعون بحرية كبيرة وأنهم يعيشون باحترام كامل ودون أي مضايقات في الجمهورية الإسلامية، وأعرب العضو الكبير في مجلس اللوردات البريطاني عن أمله الكبير أن تستعيد إيران إمبراطوريتها المزعومة، وأن تقود المنطقة من الحدود الغربية للصين إلى شمال إفريقيا.
وأشار إلى لقائه مع مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، آية الله الخميني، في باريس قبل انتصار ثورة 1979، وقال إنه تباحث مع الخميني حول مواضيع عدة، وإنه «حصل على تضمينات من مؤسس الجمهورية الإسلامية حول عدم تعرض اليهود في إيران لأي أذى في النظام الذي يريد الخميني تأسيسه بعد انتصار الثورة». وفي السياق ذاته، أفرجت «سي أي أيه» في مطلع عام 2015 عن وثائقها السرية حول الثورة الإيرانية، وتم الكشف فيها عن المباحثات التي تمت بين الخميني ومدير جهاز المخابرات الأمريكية وقتها، جورج بوش الأب، في باريس قبل انتصار ثورة 1979.
وتعتبر تصريحات اللورد ديفيد آليانس تفسيرًا شفافًا وواضحًا لاستعداد ألمانيا للوساطة بين طهران وتل أبيب، وما قاله وزير الخارجية البريطاني، فيليب هاموند، وتؤكد أن التصريحات الأوروبية بعد توقيع الاتفاق النووي لم تنطلق من الفراغ أو لم تكن مجرد مواقف سياسية روتينية. وبعد توقيع الاتفاق النووي، أعلن زيجمار جابريل، عن استعداد بلاده للوساطة بين إيران وإسرائيل، واشترط الاعتراف بالكيان الصهيوني كشرط أساسي لإنشاء علاقة دائمة بين إيران وألمانيا والغرب، وشدد على أن «كل من يبحث عن علاقة دائمة ومستقرة معنا، لا يمكن له أن يرفض شرعية وجود إسرائيل». وبعده، صرح فيليب هاموند من طهران أن إيران لا تشكل تهديدًا لإسرائيل وأنها غيّرت مواقفها تجاه تل أبيب «قليلًا»، وشدد على أن بريطانيا ستُقيِّم إيران على أساس «أفعالها وسياستها» من إسرائيل.
ومنذ استلام حسن روحاني السلطة التنفيذية، تحاول إيران أن تعرفه بأنه «الرئيس المعتدل» ويتبنى «الاعتدال» في سياسته تجاه الساحة الداخلية الإيرانية وفي السياسة الخارجية. بينما الجميع في إيران يعلم أن حسن روحاني هو أحد قياديي جمعية المعممين المكافحين المحافظة الذي آية الله علي خامنئي هو أحد مؤسسيها. وكشفت بعض مواقع المعارضة الإيرانية أنه في بداية شهر آذار/ مارس 2013 وخلال اللقاء السري بين مستشار المرشد الأعلى الإيراني، علي أكبر ولايتي، وجون كيري الذي كان حينها يترأس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، في مسقط، عاصمة سلطنة عمان، «اتفقا على أن حسن روحاني يقود مرحلة المفاوضات النووية التي انتهت بتوقيع الصفقة الغربية مع إيران». وفي كانون الأول/ ديسمبر 2013 كشفت أيضًا صحيفة ليبراسيون الفرنسية عن بعض تفاصيل لقاء ولايتي وكيري المهم للغاية، وكتبت أن الأمريكيين انتبهوا أن هذا اللقاء يختلف عن سابقاته تماماً، لأن «مستشار آية الله علي خامنئي يترأس الفريق المفاوض الإيراني». وفي أيلول/ سبتمبر 2013، كتبت صحيفة «فورين بوليسي» المقربة من الخارجية الأمريكية، أن «حسن روحاني الّذي كان أحد كبار مستشاري السياسة الخارجية لحكومة إيران، لعب دورًا محوريًا خلال المفاوضات مع الوفد الرسمي الأميركي في فندق هيلتون في طهران 27 أيار/ مايو 1986 لإبرام صفقة تسليح بين إيران والولايات المتحدة وإسرائيل»، التي أفضت بفضيحة “إيران غيت” الشهيرة.
وتعتمد الجمهورية الإسلامية سياسة ذكية لتسطير أوراقها الداخلية وإعادة تموضع أجنحتها بشكل مستمر بهدف التأقلم مع الظروف الدولية والإقليمية، وفي العقد الأخير من القرن المنصرم، خلق النظام الإيراني من الجماعة التي مارست سياسة أكثر تشددًا، لم تشهد إيران مثيلًا لها حتى اللحظة، وحكمت إيران 10 سنوات الأولى بعد انتصار ثورة 1979، تيار جديد يُعرف بالإصلاحيين. وبعدها ترأس محمد خاتمي الإصلاحي السلطة التنفيذية خلال سنوات 1997 إلى 2005. وخلال فترة حكم محمود أحمدي نجاد، حوّلت طهران الإصلاحيين إلى «المعارضة»، واستبدلتهم بالمعارضة الحقيقية التي تريد تغيير النظام، أو في أدنى تقدير التغيير الجذري في سياسات النظام الإيراني. وقسّمت المحافظين إلى المعتدلين والمتشددين لخلق منافسة داخلية أيضًا. وباختصار شديد، تمكن النظام الإيراني خلال فترة حكومة أحمدي نجاد أن يعيد لعبة إنشاء تيار «الإصلاح» هذه المرة لإنشاء تيار «الاعتدال» وخلق معارضة مسيطر عليها بالكامل من خلال الإصلاحيين.
وللفهم الدقيق مما يحصل داخل أروقة النظام الإيراني وما حقيقة تقسيماته واصطفافاته الداخلية، يجب الإشارة إلى أن 4 تيارات رئيسية تسيطر على مراكز صُنع القرار الإيراني. التيار المقرب من بريطانيا الذي يعتبر الأقوى والأكثر تأثيرًا بين أجنحة النظام الإيراني، ومن أشهر وجوه هذا التيار هم الشقيقان علي وصادق لاريجاني، رئيسي مجلس النواب والسلطة القضائية، وهما من كبار قادة المحافظين الإيرانيين، وأيضًا عطاء الله مهاجراني، وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي الأسبق في حكومة محمد خاتمي، وهو أحد قادة الإصلاحيين الذي يوجد حاليًا في لندن ويتعاون مع القسم الفارسي لقناة البي بي سي.
وفي المرتبة الثانية هو التيار المقرب من الولايات المتحدة الأمريكية، ويتمثل بشخصيات شهيرة مثل رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام الإيراني، علي أكبر هاشمي رفسنجاني وهو من قادة المحافظين، ووزير النفط، بيحن نامدار زنكنة وهو مقرب من الإصلاحيين، ووزير الخارجية، محمد جواد ظريف. ويذكر أن الحكومة الإيرانية الحالية ضمت أكبر عدد من خريجي الجامعات الأمريكي في العالم أجمع، أكثر من الحكومة الأمريكية نفسها وأكثر من مجموع الوزراء المتخرجين في الجامعات الأمريكية في الحكومات الفرنسية والألمانية والإيطالية واليابانية والروسية والإسبانية.
والتيار الثالث هو مقرب من اللوبيات اليهودية، ويتمثل بأحد أكبر أحزاب المحافظين في إيران باسم «حزب الائتلاف الإسلامي»، ومن أبرز شخصيات هذا التيار هما يحيى آل إسحاق، رئيس غرفة طهران التجارية حاليًا ووزير التجارة الأسبق، وأسد الله عسكر أولادي، أحد أكبر أعضاء الغرفة التجارية الإيرانية. وبشكل عام هذا اللوبي يسيطر على مفاصل التجارة الإيرانية.
والتيار الأخير هو التيار المحسوب على جناح من الحرس الثوري والأجهزة الأمنية، الذي كان أقوى تيار في إيران خلال فترة حكومة محمود أحمدي نجاد. لكنه بعد توصل إيران والغرب إلى الصفقة النووية وتقارب إيران من الغرب بشكل عام ومن أمريكا بشكل خاص، بدأ تهميش هذا التيار. ومن أبرز وجوهه هم عبدالله ضيغمي المعروف بالجنرال مشفق، نائب جهاز استخبارات الحرس الثوري، الذي قُتل في كارثة منى، والعميد حسين همداني الذي قُتل خلال حادث مروري جنوب شرقي مدينة حلب، وحسين أمير عبداللهيان، نائب وزير الخارجية الإيرانية للشئون العربية والإفريقية، وبعض مندوبي البرلمان الإيراني الحاليين. ويعتقد التيار هذا أنه يجب التقارب من روسيا بدلًا من الغرب.
وكما هي الحال خلال العقود الماضية، العرب مغيبون تمامًا عما يحدث، والأجواء السائدة في منطقة الشرق العربي هي الانشغال بالصراعات العربية – العربية التي لا يبدو أنها ستنتهي يومًا، ويبقى الاهتمام الرئيسي للأنظمة العربية الصراع العبثي على زعامة الأمة التي دمّر الأوطان وحرق الثروات والمال العربي. وتحسنت العلاقات بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمملكة العربية السعودية بفعل المباحثات بين الخبراء الإيرانيين والسعوديين و«بإشراف أمريكي في مسقط» بشكل سريع، وتم إلقاء القبض على أحمد المغسل، زعيم حزب الله السعودي، الذي احتضنته طهران بعد تفجيرات الخُبر، وتم الكشف عن خلية فيلق القدس في البحرين. سرعة تحسن العلاقات الإيرانية السعودية تظهر أننا اقتربنا بشكل كبير من «ساعة الصفر»!
ـ كاتب وإعلامي أحوازي (لندن)
المصدر : المرصد المصري