رياض الحبيّب
هو ذا القسم الثاني (والأخير) من الضوء الذي ألقيت في القسْم الأوّل على ما تقدّم في سورة الفجر (والفجْرِ ١ وليَالٍ عَشْرٍ ٢ والشَّفْعِ والوَتْرِ ٣ واللَّيْلِ إذا يَسْرِ ٤) فإنه لعمري بعض الضوء، لأنّ مؤلف القرآن بقوله: {ألمْ ترَ كيف فعَلَ رَبُّكَ بعَادٍ ٦ إرَمَ ذاتِ العِمَادِ ٧ الَّتِي لمْ يُخْلقْ مِثلُهَا فِي البلَادِ ٨ وثمُودَ الَّذِين جَابُوا الصَّخرَ بالوَادِ ٩ وفِرْعَوْن ذِي الأوتادِ ١٠ الَّذِين طغوا في البلادِ ١١ فأكثرُوا فِيهَا الفسَادَ ١٢ فصَبَّ عَليْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ ١٣ إنَّ رَبَّكَ لبالمِرْصَادِ ١٤… إلخ} قد تعرّض للتاريخ بدون أن تكون لديه فكرة كافية عن تاريخ الأقوام القديمة (وهي هنا: عاد وثمود وفرعون) وأنماط الحياة المختلفة التي عاشوها فمرّ عليهم مرور سحابة صيف وذكرهم بتسلسل تاريخي مغلوط- ما سأثبت بعد قليل. ولا أدري ما كان المؤلّف متأكّداً من معلوماته ومُقيماً وزناً لثقافات سامعيه في وسط كشبه جزيرة العرب متعدّد الثقافات؛ هل كانت معلوماته دقيقة ولدى سامعيه معرفة بتفاصيل حياة تلكم الأقوام، إن كان الجواب بـ نعم، إذاً لم يأتِ سامعيه بجديد! ولا أحسب قوله (ألمْ ترَ كيف فعَلَ رَبُّكَ بعَادٍ… أو: ألمْ ترَ كيف فعَلَ رَبُّكَ بأصحاب الفيل- سورة الفيل: ١) سوى مناجاة بينه وبين ربّه لا دخل للآخرين بها، لأنّ له مطلق الحرّيّة فيما يرى ويتأمّل. أمّا الجواب بالنفي فاٌستوجب أن يكون المؤلّف (الرسول المُرسَل) عالـِماً بما يُلقي على أسماعهم من مواعظ وعِبَر ودقيقاً في علومه ومُستعِدّاً للإجابة على كلّ سؤال، بصدر رحب وثقة مطلقة بمصداقيّة ما أوحِيَ إليه وبنفسه، بصفته رسولاً مُرسَلاً من السّماء- أي من الله فائق الطبيعة والزمان. فإن افترضنا أنّ غالبية الذين أصغوا إلى المؤلّف (أو المُحَدِّث) من الجَهَلة بالتاريخ فعليه ان يكون أميناً معهم. أمّا لو كان في ذهنه القضاء على معارضيه من الأقليّة العارفين بتاريخ تلكم الأقوام- وهم تحديداً من أهل الكتاب- فقد حان الوقت الآن (وكلّ أوان) للكشف عن الخفايا في رسالته ما أمكن. ومعلوم أنّ البحث في التاريخ القديم يحتاج إلى مصادر موثوق بها أي معتمَدة من سلسلة المؤرّخين ومتفق عليها. ولقد ساعدت التقنية الحديثة لعلم الآثار في الكشف عن مخلّفات الحضارات القديمة وسبر أغوارها لتقصّي الحقائق ما أمكن. فأكتب بالمناسبة رابطاً لموجز مفصّل عن علم الآثار متضمناّ أسلوب الدراسة فيه والبحث- بلغات عدّة منها العربيّة wikipedia \ Archaeology
ألمْ ترَ كيف فعَلَ رَبُّكَ بعَادٍ – الفجر: ٦
يا ليت شعري متى وأين كيف؟ فأرِني لو سمحت! لقد ذكر مؤلّف القرآن عاداً وقومه في السُوَر التالية- هود: ٥٠-٥٤ وإبراهيم: ٩ (ألمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِين مِنْ قبْلِكُمْ قوْمِ نُوحٍ وعَادٍ وثمُودَ…) [لاحظ أنّ المؤلّف وضع عاداً مباشرة بعد نوح] والأحقاف: ٢١ والن جم: (وأنَّهُ أهْلكَ عَادًا الأُولى ٥٠ وثمُودَ فمَا أبْقى ٥١ وقوْمَ نُوحٍ مِنْ قبْلُ إنَّهُمْ كانُوا هُمْ أظْلمَ وأطغى ٥٢) وفصِّلتْ: ١٣-١٦ والعنكبوت: ٣٨ والحاقـّة: ٤ و ٦ والشعراء: (فأنجَيْناهُ ومَن مَعَهُ فِي الفُلْكِ المَشْحُونِ ١١٩ ثُمَّ أغْرَقْنا بَعْدُ البَاقِين ١٢٠ إنَّ فِي ذلِكَ لآَيَة ومَا كان أكثرُهُمْ مُؤمِنِين ١٢١ — كذَّبَتْ عَادٌ المُرْسَلِين ١٢٣) والأعراف: (لقدْ أرْسَلنا نُوحًا إلى قوْمِهِ فقالَ يَا قوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لكُمْ مِنْ إلهٍ غيرُهُ إنِّي أخافُ عليْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيم ٥٩ — وإلى عَادٍ أخاهُمْ هُودًا قالَ يَا قوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لكُمْ مِن إلهٍ غيْرُهُ أفلَا تتَّقون ٦٥ — أوَعَجبْتُمْ أنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ واذكُرُوا إذ جَعَلكُمْ خُلفاءَ مِن بَعْدِ قوْمِ نُوحٍ وزادَكُمْ فِي الخلْقِ بَسْطة فاذكُرُوا آَلاءَ اللهِ لعَلَّكُمْ تُفلِحُون ٦٩) [خلفاء: أي عاد- في التفاسير] بالإضافة إلى الفجْر: ٦ -٨ والآن سأكتفي في هذا البحث بالتحرّي عن عاد فقط، تاركاً للقرّاء الكرام التحرّي عن ثمود وفرعون المقصود من بين فراعنة مصر، ذلك كي لا أطيل- فأمامي أربع وتسعون سورة ما بعد سورة الفجر وليس في وسعي تخصيص أزيد من مقالتين كحدّ أعلى لإلقاء الضوء على كل منها.
غلط القرآن إزاء قوم عاد تأريخيّاً:
حدّثنا د. رأفت عمّاري- الأستاذ في التاريخ- مشكوراً عن المؤرّخ اليوناني كلاوديوس بطليموس
Claudius Ptolemaeus
(المتوفى في الاسكندرية سنة 161 م) أنه الأوّل الذي ذكر قبيلة عاد باٌسم عوديتو أو عوديتا على أنها موجودة شمال غربيّ شبه جزيرة العرب في حدود القرن الثاني للميلاد أي في زمن حياة المؤرّخ بطليموس نفسه- هنا من جديد رابط الحديث برامج ودراسات
وأردف د. رأفت عمّاري: لم يكنْ لـ عاد أيّ ذكر في كتب المؤرّخين من اليونان المستشرقين ولا الرومان قبل القرن الثاني للميلاد والذين أحصوا جميع قبائل العرب في شبه الجزيرة- بدون إشارة ما إلى قوم عاد أو قبيلته. أمّا العرب فلم يبدأوا بكتابة التاريخ قبل عام الفيل (حوالي 570 م) أي الربع الأخير من القرن السادس الميلادي. وقد وصف الرصافي حال العرب الثقافية في كتابه الموسوم “الشخصيّة المُحمّديّة” في باب “الرواية والعرب” ص 52-53 بما يأتي:
{كان أهل الجاهلية في عهد محمد أميّين لا يكتبون ولا يقرأون، وكان الذين يُحسِنون القراءة والكتابة منهم قليلين يُعَدّون بالأصابع، وكانوا يعتمدون فيما يعْلمونه على الرواية لا غير، ولذا كان لكلّ شاعر منهم راوية يحفظ شعره ويرويه عنه للناس، فالشعر الجاهلي كله إنما جاءنا عن طريق الرواية وأخذناه من الرواة لا من الصحف المخطوطة، ولذا كان فيه ما ليس منه، وسقط منه ما كان فيه وبعبارة أخرى كان من المنحول والمنسي… والمفقود. واستمر هذا الحال- أعني الإعتماد فيما يعلمونه على الرواية- بعد الإسلام إلى أوائل القرن الثاني في عهد العبّاسيّين، فلم يدوّنوا في الكتب طول هذه المدّة شيئاً من علومهم التي جاء بها الإسلام، ولم يخطّوه في الصحف ولا سيّما الذي يتعلق بسيرة محمد فإنه إنما كُتِبَ ودوِّن في الصحف على عهد أبي جعفر المنصور- الخليفة الثاني من العباسيين، والذي كتبه هو محمد بن إسحاق صاحب المغازي والأخبار، ومنه أخذ مَن جاء بعده من الرواة وكتّاب السِّيَر، فكلّهم فيما كتبوه عيال عليه. فمحمد بن إسحاق [المولود في المدينة سنة 85هـ/703م والمتوفى في بغداد سنة 151هـ/ 768م- ويكيبيديا] لم يدوّن ما دوّنه من أخبار السِّيرة المحمدية إلّا بعدما مرّ عليها من الزمن ما يزيد على مِائة سنة، وقد كانت هذه الأخبار في هذه المدة كلها تتناقلها الرواة وتلوكها ألسنتهم فكانت موضع خبطهم وخلطهم، ملعب أهوائهم ومسرح تحزباتهم المذهبية والسياسية، حتى وقع فيها من الزيادة والنقص ما وقع، وجرى فيها من التغيير والتبديل ما جرى، وحصل فيها الإضطراب والتناقض ما حصل، حتى أنك لتجد للأمر الواحد روايات متعددة متخالفة ومتباينة، وتجد في الأمر الواحد روايتين إحداهما تقول بالنفي والأخرى بالإثبات… إلخ} انتهى
أمّا مؤلّف القرآن فقد أدرج قوم عاد تاريخيّاً بعد قوم نوح (الأعراف: ٦٩ إذ جَعَلكُمْ خُلفاءَ مِن بَعْدِ قوْمِ نُوح) علماً أنّ موسى النبيّ (يُقدّر ظهوره في حدود 1350-1250 ق.م) كتب في التوراة السلالات القديمة من قبائل وأقوام بأسمائهم وأنسابهم، ما عُدّ دليلاً مُعتمَداً لدى المؤرّخين من بعده وما أيّدت الإكتشافات الآثاريّة معالم وجودهم وحضاراتهم- ولا تزال أعمال الحفريّات قائمة إلى يومنا لاكتشاف المزيد، لكنّ موسى لم يذكر عاداً أو قوم عاد إطلاقاً وليست له أيّة مصلحة في إهمالهم إمّا وُجـِدوا! فلو كان قوم عاد بعد نوح (نوح الذي يُقدّر زمن ظهوره ما بين القرنين الستين والخمسين قبل الميلاد- بحسب د. رأفت عمّاري) لما توانى موسى عن ذكرهم وذكر ثمود من بعدهم.
واللافت في عدم مراعاة مؤلّف القرآن التسلسلَ التاريخي- بالمناسبة- أنّه في مكان ما حين آثر ذكر عاد بعد نوح وقبل ثمود كما في سُوَر التوبة ٧٠ (ألمْ يَأْتِهِمْ نَبَأ الَّذِين مِنْ قبْلِهِمْ قوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقوْمِ إبْرَاهِيمَ وأصْحَابِ مَدْيَن…) وإبراهيم ٩ وغافر ٣١ وفصّلت ١٣ قام في مكان آخر بإدراج ثمود قبل عادٍ كقوله في سورة الحاقّة: كذبت ثمود وعاد بالقارعة ٤ فأمّا ثمود فأُهلِكوا بالطاغية ٥ وأمّا عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ٦ — إنهُ لعَمْري ضربٌ من الفوضى في القرآن.
ولكي يُداري المسلمون غلط القرآن عسى أنْ يجدوا مخرجاً لهذا الإلتباس (وغيره) قام محمد ابن إسحاق بمحاولة تزوير سلسلة مواليد سام بن نوح في التوراة- إن صحّ نسب “شرف” هذه المحاولة لاٌبن إسحاق- فحَشـَرَ اسمَ عادٍ بينها ليصبح مؤلّف القرآن مُصيباً، علماً أنّه أوّل مؤرّخ عربي وصاحب أوّل كتاب في السيرة المحمّدية “سيرة رسول الله” فلقد ذكر القرطبي (وابن كثير) في معرض تفسير سورة الأعراف: ٦٥ ما يأتي: {قالَ اِبْن إِسْحَاق: وَعَاد هُوَ اِبْن عَوْص بْن إِرَم بْن شالخ بْن أرْفخْشَد بْن سَام بْن نُوح عَليْهِ السَّلَام} ومعلوم أنّ هذه الأسماء توراتيّة صرفة، كان الأولى بابن إسحاق (والذين أتوا من بعده) أن يحترم حدوده فيدوّن روايات التاريخ الإسلامي- ابتداءً بعام الفيل- وينشغل بسرد السيرة المحمّدية لإخراجها كما هي فيحظى برضى ربّه وأمّته وفي مقدّمتها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور (الذي وفـّر له الدعم اللازم لكتابة السيرة المحمّدية المعروفة بـ سيرة ابن إسحاق) بدون أن يتعدّى على عقائد الآخرين وشرائعهم، لكني لست هنا لألومه بل ألوم نبيّه الذي رَخـّصَ لنفسه (ولغيره) الكذب في ثلاث.
أمّا في السّيرة، الروض الأنف، ج 1 ص 37: {قال ابن هشام: وحَدّثني… عن قتادة بن دعامة أنه قال: إسماعيل بن إبراهيم- خليل الرحمن- ابن تارح- وهو آزر- بن ناحور بن أسرغ بن أرغو بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ بن يرد بن مهلائيل بن قاين بن أنوش بن شيث بن آدم- صلعم} انتهى [قيل: آدم (صلعم) لأنّ محمّداً ظنّ آدم من الأنبياء ويا ليت شعري ما هي نبوّة آدم وما رسالته؟]
تعليقي: واضحٌ ألّا وجود لاٌسم “عاد” في سلسلة النسب المنسوبة لابن هشام- مع تحفظي على الغلط الذي فيها، إنّ السلسلة مسروقة من كتاب أهل الكتاب (لأنها مدوّنة بدون إشارة إلى المصدر، علماً أنها افتقدت حتى الأمانة في النقل) وأهل الكتاب أدرى بكتابهم منه ومن نبيّه! فواضح أنها أسماء توراتية بل أسيء نقلها. فالتسلسل الأصلي هو ما دوّن موسى النبي في التوراة، سفر التكوين- الفصل العاشر، علماً أنّ سلسلة النسب عينها مذكورة في سِفر أخبار الأيّام الأوّل، الفصل الأوّل:
تكوين 10: 21-24 {وسَامٌ أبُو كُلِّ بَنِي عَابـِرَ أخو يَافـَثَ الكبيرُ وُلِدَ لهُ أيْضاً بَنُون. بَنُو سَامَ: عِيلاَمُ وأَشُّورُ وأرْفـَكْشَادُ ولُودُ وأرَامُ. وبَنُو أرَامَ: عُوصُ وحُولُ وجَاثـَرُ ومَاشُ. وأرْفكْشَادُ وَلـَدَ شَالـَحَ وَشَالحُ وَلدَ عَابرَ} انتهى. وانتهينا من معرفة حقيقة مُرّة إسلاميّاً هي أنّ عاداً ليس ابْن عَوْص بْن إرَم! ليس هذا فحسب، بل نظرتُ في قاموس الكتاب المقدّس وفي قاموس المحيط الجامع ما كانت هناك كلمة مقاربة للفظة “عاد” فتوصلت إلى ما يأتي- أتبه باختصار شديد:
* عُود (1) آلة للطرب، وجدت منذ عهد قديم. (2) من أنواع العطور الشرقية الثمينة قوية الرائحة (مزمور 45: 8 ونشيد الأنشاد 4: 14) وكان يستعمل لتبخير البيوت ولتحنيط الموتى (يوحنّا 19: 39) عند كثير من الشعوب الشرقية وخصوصاً المصريين والعبرانيين
* عُوديد: اسم عبري معناه ((أعاد)) وهو (1) أبو النبي عزريا الذي هدد الملك آسا وحمله على نزع الرجاسات (2 أخبار 15: 1ـ 8) — (2) نبيّ المملكة الشمالية في أيام الملك فقح، وقد قابل جيش المملكة الشمالية وهو عائد من الحرب ومعه أسرى من مملكة يهوذا، وعددهم مئتا ألف امرأة وصبيّ وبنت، فندّد بعملهم وحملهم على إطلاق سراح الأسرى (2 أخبار 28: 9ـ 15)
* عادان: منطقة خضعت للحكم الأشوري مع جوزان و حاران وراصف (2ملوك 19 :12؛ أشعياء 37 :12) مدينة أشورية في بيت اديني المنطقة التي تمتدّ على ضفتي نهر الفرات.
* عَادِين: اسم عبري معناه ((رفيق)) رأس عائلة عادت من السّبي في بابل مع زَرُبَّابل وعزرا (عزرا 15:2 و 6:8) وقد وقـّع رئيسهم الميثاق الذي قطعه نحميا لخدمة الربّ (نحميا 16:10)
ومن أراد مزيداً من البحث في قامُوسَي الكتاب المقدّس والمحيط الجامع يجد عبر الرابط http://www.albishara.org
أمّا بعد وبالعودة إلى قوله (ألمْ ترَ كيف فعَلَ رَبُّكَ بعَاد) ذهبْتُ- كالعادة- إلى تفسير أحد الإئمّة ممّن تفضّلوا بما لديهم فاخترتُ القرطبي: {“رَبّك” أيْ مَالِكُك وخالِقك “بعَادٍ ” قِرَاءَة العَامَّة “بعَادٍ” مُنَوَّناً. وقرَأ الحَسَن وأبو العَالِيَة “بعادٍ إِرَم” مُضَافاً. فمَنْ لمْ يُضِفْ جَعَلَ “إرَم” اِسْمه، ولمْ يَصْرِفهُ؛ لأنَّهُ جَعَلَ عَادًا اِسْم أبيهِمْ، وإرَم اِسْم القبيلة وَجَعَلهُ بَدَلًا مِنهُ، أوْ عَطْف بَيَان. ومَنْ قرَأهُ بالإضافة ولمْ يَصْرِفهُ جَعَلهُ اِسْم أُمّهمْ، أو اِسْم بَلدَتهمْ. وتقديره: بعَادٍ أهْل إرَم. كقولِهِ: “واسْألْ القرْيَة” – يُوسُف: ٨٢ ولمْ تنصَرِفْ- قبيلة كانتْ أوْ أرْضاً- للتَّعريفِ والتَّأنيث. وَقِرَاءَة العَامَّة “إرَم” بكسْرِ الهَمْزة}
تعليقي: هل موضوع القراءة مزاجيّ ليقرأ كلّ قارئ كما يشاء ولتستمرّ النغمة على أنه «قوله تعالى» وأنْ “لَا تبْدِيلَ لِكلِمَاتِ الله” يونس: ٦٤ و“لَا مُبَدِّلَ لِكلِمَاتِ الله” – الأنعام: ٣٤ والكهف: ٢٧؟ ليس ذلك فحسب، بل أضاف القرطبي:
{وعَن الحَسَن أيْضًا “بعَادَ إِرَمَ” مَفتُوحَتيْنِ، وَقُرِئَ “بعَادَ إرْم” بسُكُونِ الرَّاء، عَلى التَّخْفِيف كمَا قُرِئَ “بوَرْقِكُمْ” وقرِئَ “بعَادٍ إرَمِ ذات العِمَاد” بإضَافةِ “إرَم” إلى “ذات العِمَاد ” والإرَم: العَلـَم. أيْ بعَادٍ أهْل ذات العَلـَم. وقرِئَ “بعَادٍ إرَمَ ذات العِمَاد” أيْ جَعَلَ الله ذات العِمَاد رَمِيمًا. وقرَأ مُجَاهِد والضَّحَّاك وقتادة “أرَمَ” بفتح الهَمْزة. قالَ مُجَاهِد: مَن قرَأ بفتحِ الهَمْزَة شَبَّهَهُمْ بالآرَامِ، الَّتِي هِيَ الأعْلَام، وَاحِدها: أرَم. وفي الكلام تقديم وتأخير أيْ والفجْر وكذا وكذا إنَّ رَبّك لبالمِرْصَادِ ألمْ ترَ. أيْ ألمْ يَنْتهِ عِلْمك إلى مَا فعَلَ رَبّك بعَادٍ. وهذه الرُّؤية رُؤيَة القلب، والخِطاب للنَّبيِّ- ص- والمُرَاد عَامّ}
تعليقي: يدلّ اختلاف القراءات بألـْسِنة الصحابة أنفسهم على أنّ المقروء من تأليف بشري محض، أمّا لغويّاً فالإختلاف يضادّ البلاغة. ولو كان المقروء في كتاب غير القرآن لما اهتمّ به أحد ولكان الذي في يد القارئ- حين يصِل بقراءته إلى هذا الحد- هو آخِر ما يقرأ للمؤلّف، إنْ لم يُلقِ بالقرآن جانباً ليقرأ عن رواية عادٍ في كتاب معانيه أوضح والعلم الذي فيه أرقى وأشمل.
وأردف القرطبي: {وكان أمْر عَادَ وثَمُود عِنْدهمْ مَشْهُورًا إذ كانُوا فِي بلَاد العَرَب، وَحِجْر ثمُود مَوْجُود اليَوْم. وأمْر فِرْعَوْن كانوا يَسْمَعُونهُ مِنْ جيرَانهمْ مِنْ أهْل الكِتاب، واسْتفاضَتْ بهِ الأخبَار، وبلَاد فِرْعَوْن مُتَّصِلَة بأرْضِ العَرَب. وقد تقدَّمَ هذا المَعنى فِي سُورَة “البُرُوج” وغيْرها “بعَادٍ” أيْ بقوْمِ عَادٍ. فرَوَى شَهْر بْن حَوْشَب عَن أبي هُرَيْرَة قالَ: إن كان الرَّجُل مِنْ قوْم عَادٍ ليَتَّخِذ المِصْرَاع مِن حِجَارَة، ولو اِجْتمَعَ عليهِ خمسُمِائةٍ مِن هذِهِ الأُمَّة لمْ يسْتطِيعُوا أنْ يُقِلُّوهُ، وإنْ كان أحَدهمْ ليُدْخِل قدَمَهُ فِي الأرْض فتدْخُل فِيهَا} انتهى
تعليقي: إنْ (كانوا يَسْمَعُونهُ مِنْ جيرَانهمْ مِنْ أهْل الكِتاب، واسْتفاضَتْ بهِ الأخبَار) فلم يأتِهم محمّدٌ بجديد- كما أسلفت- إن لم يأتِ بالغريب.
أمّا الإمام ابن كثير فاقتطفت من تفسيره: {وهؤلاء كانوا متمّردين عتاة جبّارين خارجين عن طاعته مكذبين لرسله جاحدين لكتبه [ما الدليل] فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمرهم وجعلهم أحاديث وعبراً [ما الدليل على أنّ تعالى هو المسؤول عن فنائهم- إمّا فنوا حقّاً] فقال “ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد” وهؤلاء عاد الأولى وهم ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح. قاله ابن إسحاق} انتهى
تعليقي أيضاً: هل نقل ابن كثير تسلسل النسب عن ابن إسحاق بدقة؟ الجواب: لا. ولو سلّمْنا بصحّته فكيف توصّل إليه ابن إسحاق؟ وقد أسلفت أنّ ابن كثير ذكر النسب عينه في معرض تفسيره سورة الأعراف: ٦٥ أمّا القرطبي فقد نقل عن ابن إسحاق (أي المصدر عينه) أنّ عَوص هو ابن إرم (أي بخلاف ما روى ابن كثير) وأضاف القرطبي في معرض تفسير سورة الأعراف: ٦٥ التالي {وكانتْ عَاد فِيمَا رُوِيَ ثلَاث عَشْرَة قبيلة؛ يَنزِلون الرِّمَالَ، رَمْل عَالِج. وكانوا أهْلَ بَسَاتِين وزرُوع وعِمَارَة، وكانتْ بلَادهمْ أخْصَبَ البلَاد، فسَخِطَ الله عَليْهِمْ فجَعَلهَا مَفاوِز. وكانتْ فِيمَا رُوِيَ بنوَاحِي حَضْرَمَوْت إلى اليَمَن، وكانُوا يَعْبُدُون الأصْنام. ولحِق هُود حين أُهلِكَ قومه بمَن آمَن معه بمكة، فلمْ يَزالوا بها حتى ماتوا} انتهى
تعليقي: 1. المطلوب من رجُل الدين توفير الدليل العقلاني على وجود عاد بنواحِي حَضْرَمَوْت إلى اليَمَن وليس عرض ما رُوِيَ من قيل وقال.
2. ليس هدفي في ما تقدّم تبيان غلط تسلسل النسب في تفسير ابن كثير ولا وضع النقاط على حروف الإختلاف بينه وبين غيره من المفسّرين، لكنّ الغريب واللافت في آن معاً هو انصراف مفسّرين كبار- إسلاميّاً- وراء النقل على حساب العقل والتشبّث بفرع من المعلومة على حساب الأصل.
_____________________
في الحلقة القادمة قراءة في سورة الضّحى
سلامًا ونعمة
شكرًا جزيلا للأخ الصديق د. طلال الخوري مدير موقع المفكّر الحُرّ المحترم
على تفضله بنشر سلسلة هذه المقالة
وهي: هكذا قرأت القرآن
متمنيًّا على أتباع هذا الدين الغريب بتفاصيله كلّها أن يقرأوا القرآن بهذه الطريقة من البحث وتقصّي الحقائق
علمًا أني توقفت عن قراءة السّور الأخرى لأنّ قلمي يعفّ عن ذكر المخازي التي فيها
كما أنّ القرآن لا يستحقّ مني اهتمامًا أكثر لا هو ولا مؤلّفه
إنه في نظري أقبح كتاب على الإطلاق وسيرة مؤلّفه هي الأرذل في تاريخ الإنسانية
مزيدًا من العطاء والتقدم والنجاح للمفكّر الحُرّ