شخصية يسوع الناصري, تعتبر من أهم الشخصيات المؤثرة في تاريخ وواقع الإنسانية, وهي الشخصية الوحيدة التي قسمت التاريخ
البشري إلى قسمين , ما قبل ولادة يسوع المسيح وما بعد ولادته.
وفي عصرنا الراهن يعتبر الإيمان بشخصية يسوع الناصري وتقديسها من شروط العقيدة في الديانتين الاكبر والاوسع انتشارا
على سطح الأرض (المسيحية والاسلام) مع الاختلاف في تفاصيل الإيمان و درجة التقديس.
وكما هو معلوم, فقد اختلفت النظرة التقييمية لهذه الشخصية وتباينت إلى حد كبير ومثير, حيث بلغ خصومه أقصى مدى في
السلبية ,من حيث توصيفه والصاق أبشع الاتهامات حوله, بنفس الوقت كان رد بعض أنصاره عكسيا ومناقضا ,فترقى تقييمهم لهذه الشخصية تدريجيا, حتى وصل الى التأليه وإضفاء صفة الربوبية عليه, وبين هذين الطرفين هناك ملايين البشر يعتقدون أن يسوع من اعظم الانبياء واحد أفضل
رسل الله, في حين يعتبره أتباع عقيدة (شهود يهوه) المسيحية أعظم ملك في السماء وهو يحكم بتفويض من الله رغم عدم اعتقادهم بألوهيته.
ومن أجل الوقوف على حقيقة هذا الشخص, يحتاج الباحث إلى مراجعة الجمل والعبارات التي تحدث فيها يسوع الناصري عن نفسه,
وكذلك إلى تقييم تصرفاته وافعاله, وخصوصا تلك الاقوال و الافعال الواضحة والمباشرة التي لا مجال فيها للتأويل و الشك في مدلولها.
وهنا اعاود التذكير بأهمية الأخذ في الاعتبار ان يسوع الناصري كان شاب يهودي, يعيش في مجتمع يهودي, ويستخدم عبارات
وألفاظ مفهومة ومعروفة ومتداولة ضمن ثقافة ذلك المجتمع, والسبب الذي دفعني لتكرار هذه الملاحظة, هو ان معظم الاخوة المسيحيين لا يقرأون كتابهم المقدس و يكتفون بالتقاط بعض العبارات والفقرات منه, والجمود على بعض معاني الألفاظ التي تتلائم مع عقيدتهم, مع تعمد إهمال
دلالة اللفظ في ثقافة المجتمع اليهودي الذي كان الخطاب موجها له بالدرجة الأولى
فمثلا وجدت البعض يحاول الاستدلال على ألوهية يسوع, لأنه تم توصيفه بلفظ ( رب) رغم أن أي قارئ للكتاب المقدس يدرك
ان هذه الكلمة لا تعني دائما (الإله) وكان اليهود يستخدموها لوصف السيد او المعلم احيانا , لان كلمة (رب) قد تأتي على صيغة ( الوهيم) وتعني (الإله) وقد تأتي بصيغة (ادوناي) وتعني السيد كما هو واضح في النص التالي
(قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِيني حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ) متى 22\44
كذلك وجدت البعض يستدل على ألوهية يسوع بسجود التلاميذ له!! ولو أنهم قرأوا كتابهم المقدس لعرفوا أن اليهود – والذين ينتمي لهم يسوع والتلاميذ-
كانوا -أحيانا- يعبرون عن الاحترام والتبجيل المبالغ فيه بالسجود , ولا يقصدون بذلك عبادة الشخص الذي يسجدون له,كما نرى في سجود الملك سليمان لوالدته ,وسجود إخوة يوسف له, وكذلك سجود يوسف لأبيه يعقوب, وغيرها من الأمثلة الكثيرة المذكورة في الكتاب المقدس
(دخلت بثشبع إلى
الملك
سليمان، لتكلمه عن أدونيا. فقام الملك للقائها، وسجد لها. وجلس على كرسيه، ووضع كرسيًا لأم الملك، فجلست عن يمينه) (1ملوك 2: 19)
(فأتى أخوة يوسف وسجدوا له بوجوههم إلى الأرض) (تكوين 42: 6)
لقد كان يسوع الناصري شاب يهودي متحمس لخلق تغيير إصلاحي جذري في مجتمعه اليهودي, يقوض سيطرة واستغلال كهنة المعبد وأعوانهم على الدين, من اجل انصاف
غالبية المجتمع من الفقراء والبسطاء, من خلال إعادة فهم وتطبيق تعليمات الكتاب المقدس لليهود (العهد القديم) وكذلك من خلال تفعيل روح الشريعة اليهودية ( الناموس) وإحياء القيم الأخلاقية والروحية التي تضع حدا لجشع واستغلال وتسلط كهنة المعبد
وقد أعلن يسوع الناصري التزامه الواضح بشريعة قومه اليهود, وتوصيات العهد القديم وتعاليم الانبياء
(
لا تظنوا اني جئت لانقض الناموس او الانبياء ما جئت لانقض بل لاكمل)
وكما رأينا في المقال السابق, حين أجاب يسوع الناصري تلك المرأة السامرية التي سألته عن عبادته هو وقومه, أجابها
يسوع بأنه مثل بقية قومه يعبد ويتبع الإله المعروف لديهم ( اما نحن فنسجد لما نعلم) يوحنا 4
فيسوع الناصري يتبع ويعبد الإله الذي يعبده ويعرفه جميع ابناء قومه اليهود, وهو الإله الواحد الموصوف في العهد القديم
وبالعودة إلى توصيفات هذا الإله في نصوص العهد القديم, نجد هناك تركيز كبير على وحدانيته ووجوب تخصيص العبادة له
وحده فقط, وأن هذا الإله هو (الله) الساكن في السموات, الحي الذي لا يموت ولا يتغير, وانه ليس (انسان) ولا (ابن انسان!) وهو وحده الإله , ولا يشتمل على (آخر)
(وَحْدَكِ اللهُ وَلَيْسَ آخَرُ)
(أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. لاَ إِلهَ سِوَايَ) سفر اشعياء 45 \ 14و5
( ليس
الله انسانا فيكذب و لا ابن انسان فيندم ) سفر العدد 23\ 19
فالله هو وحده الإله الخالق, وليس معه (آخر) وهو بمثابة (الاب) بعلاقته مع (ابنائه) المؤمنين به.
ومن خلال تتبع كلام وعبارات يسوع الناصري نجده يكرر بشكل مستمر على المستمعين له على انه (انسان) وانه (ابن إنسان)
والتي تكررت على لسانه في نصوص الأناجيل القانونية حوالي 80 مرة
(أنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله) يوحنا 8 \40
(من
يقول الناس اني انا ابن الانسان؟) متى 16
ونجد يسوع كذلك يوضح علاقته بالله بشكل واضح ومباشر. وأنه (ذات) مختلفة عنه فهو (آخر) ويسوع مرسل من قبله
(الَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌ) يوحنا 5\ 32
(وَالآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي ) يوحنا 5\ 37
فالله هو الإله المستحق وحده للعبادة وليس (اخر) اما يسوع فهو رسول بعثه الله (الآب )والذي هو (آخر) بالنسبة ليسوع.
وهذا الرسول المبعوث من قبل الله (الآب) لليهود – والذين يعتبرون انفسهم جميعا بمثابة أبناء الله الذين يرتبطون معه بعلاقة الأبوة والبنوة بالمعنى
المجازي- قد حدد بشكل واضح لا يقبل اللبس طريق الخلاص ونيل الحياة الابدية
(وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ
الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ) يوحنا 17\ 3
وكلام يسوع الناصري هنا واضح ومباشر وسهل جدا على الفهم!
الله (الآب) هو (وحده الإله الحقيقي) المستحق للعبادة, ويسوع هو المسيح الذي (أرسله) الله وكل من يقر بهذه
الحقيقة ويقبلها, فهو مستحق للحياة الابدية, لان اتباع وطاعة يسوع (المرسل) من الله بالحق ونور الهداية هو (الطريق) الوحيد الذي يتوجب على قومه اليهود أن يسلكوه من أجل الوصول إلى مرضاة الله واستحقاق الحياة الأبدية, من خلال الإيمان القويم المختلف عن الإيمان المزيف
و الطقوسي, الذي اجتهد الكهنة في ترسيخه في أذهان الناس, من أجل مصالحهم الدنيوية
(أنا هو الطريق والحق والحياة ليس أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي)
واللافت أننا نجد في نصوص الأناجيل, ان يسوع الناصري يغرس في أذهان تلاميذه بشكل مكثف انه مثلهم, وأن الله هو (إلهه) مثلما هو(الههم) وأن الله
هو (أباهم) مثلما هو (أباه)
(إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ) يوحنا 20\ 17
فهو مثلهم, انسان لا يستطيع عمل شئ من نفسه, وإنما ينفذ مشيئة الله (الآب) الذي( أرسله) وجعله طريق للهداية,
من خلال تبليغ الناس رسالة وتعاليم الرب وتوضيح الحق لهم, من اجل ان يؤمنوا ويحصلوا على الحياة الخالدة
(أَنَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئًا. كَمَا أَسْمَعُ أَدِينُ، وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ، لأَنِّي لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ
مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي)
(تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي) يوحنا 5\30
وبالاضافة الى تركيز يسوع الناصري على التأكيد للناس أنه (إنسان) أرسله الله(الآب) من أجل تخليص مجتمعه من الضلال وهدايتهم بنور الحق إلى طريق الإيمان
القويم , رأينا – في المقال السابق – تلاميذ يسوع والناس الذين صدقوه واتبعوه , يخاطبونه ويتعاملون معه على أنه نبي مبارك ومسدد من الله
( قد قام فينا نبي عظيم) وانه ( هو بالحقيقة النبي الآتي الى العالم) يوحنا 6\14
وهو الأمر الذي رضيه يسوع منهم ,ولم يعترض عليهم, بل وجدنا يسوع نفسه يؤكد ذلك, ويكرر على اتباعه انه النبي (الماشيح) الذي اصطفاه الله ومسحه بالزيت
المقدس, فقد اعلن يسوع بنفسه وبشكل صريح انه ( الماشيح) وأنه (نبي)
( بَلْ يَنْبَغِي أَنْ أَسِيرَ الْيَوْمَ وَغَدًا وَمَا يَلِيهِ، لأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَهْلِكَ نَبِيٌّ خَارِجًا عَنْ أُورُشَلِيمَ!) لوقا
13\33
(فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهُمْ: لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ وَفِي بَيْتِهِ) متى 13\ 57
ولم يكتف يسوع الناصري بالإعلان الصريح الواضح على انه (انسان نبي) وأنه ( المسيح) المرسل من الله الذي أيده بآيات ومعاجز لينقذ الناس من الانحراف
والضلال, بل نجده كذلك يقوم بأفعال وتصرفات تؤكد هذا المعنى, فتارة يقوم بالتضرع الى الله , شاكرا وممجدا له ,وسائلا منه ان يحقق على يديه معجزة إحياء الشاب الميت (لعازر) ليكون ذلك سببا في إيمان الناس وتصديقهم له
(فَرَفَعُوا الْحَجَرَ حَيْثُ كَانَ الْمَيْتُ مَوْضُوعًا، وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ، وَقَالَ: «أَيُّهَا الآبُ، أَشْكُرُكَ لأَنَّكَ
سَمِعْتَ لِي،
وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي. وَلكِنْ لأَجْلِ هذَا الْجَمْعِ الْوَاقِفِ قُلْتُ، لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي)
يوحنا 11\ 41
وتارة يقوم يسوع بالدعاء والتضرع والتوسل إلى الله وهو يتصبب عرقا ويطلب منه أن ينقذه و يعينه في محنته
( ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلاً: «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ،
وَلكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ) متى 26\39
و مع كل هذه الإعلانات الصريحة بالقول والفعل ,من يسوع الناصري, والتي تؤكد على (بشريته) و(مسيحانيته), وانه نبي مرسل من الله الإله الواحد, وتؤكد
عبودية يسوع وافتقاره إلى الله , لا يوجد في الكتاب المقدس اي جملة او عبارة صريحة يقول فيها يسوع انه ( الله) او ان الله (تجسد) فيه!
ومع كثرة تمجيده وتقديسه لخالقه ( الله الآب), لم يرد على لسان يسوع ابدا, انه ( الله الابن) او ( الله الكلمة), ولم يذكر يسوع الناصري ولا جملة
واحدة عن (اللاهوت الذي حل بالناسوت) ولا عن الأقانيم الثلاثة, ولا عن (الجوهر الواحد) المكون للثلاث اشخاص المختلفين, الذين شكل منهم- لاحقا- آباء الكنيسة الصورة الجديدة المستحدثة عن (الله) الذي حل في الجسد ولم يفارقه طرفة عين ابدا!!
رغم أن السادة كتبة الأناجيل ذكروا أن يسوع الناصري في آخر لحظات حياته على الصليب كان يصرخ متألما
(الهي الهي….لماذا تركتني!!)
و لا نعلم هل خفي على يسوع أن (اللاهوت) لايمكن ان يتركه أو يفارقه ابدا؟!!, أم أن يسوع اصلا لا يعرف شيئا عن تأويلات واستنتاجات اللاهوتيين المسيحيين
المبررة لشرعنة وعقلنة وثنية عبادة (الإنسان) بدلا من خالق ذلك الإنسان؟!
ان الادعاء بحلول جزء من قداسة (اللاهوت) في المعبود (المشخص) أو (المجسد) هي دعوى مشتركة لدى جميع المعتقدين بأفكار وثنية تؤسس لعقائد تؤدي الى
عبادة (إنسان) او(صنم) او تقديس (بقرة) وغيرها من الاعتقادات المتنوعة, فنجد جميع معتنقي هذه الأفكار يبررون تاليههم لمعبودهم (المجسم) من خلال الادعاء أن (اللاهوت) قد حل في (الناسوت) أو (الصنموت) ..وربما ( البقروت!!)….و الله اعلم !!
د. جعفر الحكيم