بدأت روسيا تدفع ثمن الأخطاء الكارثية التي اقترفتها في سوريا، بدفاعها عن نظام مجرم حكم على نفسه بهزيمة حتمية، حين وضع نفسه في مواجهة دامية مع شعب صمم على التخلص منه، بينما جعل هو إدامة حكمه المخالف للطبيعة هدفا وحيدا له، أوهمه بأنه بوسع أقلية التحكم الأبدي في أغلبية ترفضها، إن هي مارست عليها قدرا من القهر يخضعها لها، مهما بلغ من فسادها وعنفها كأقلية متسلطة.
ولأن روسيا بوتين تبنت منذ بداية الصراع أطروحة رأت في الحدث السوري صراع الأصولية الإسلامية ضد «آخر النظم العلمانية في المنطقة»، ولم تر فيه مطالب مشروعة لشعب مظلوم يقوض قبولها الأصولية، إسلامية كانت أم علمانية، فإنها تجاهلت حقيقة تفقأ العين هي أن شعب سوريا خرج لأول مرة في تاريخه مطالبا بنظام سياسي أساسه المواطنة وحكم القانون والديمقراطية والحرية، ولم يخرج بقيادة أي حزب أو تيار سياسي أو مذهبي، مهما كانت هويته.
بخيارهم هذا، اقترف أذكياء الكرملين غلطة لن يتمكنوا من إصلاحها، حتى في حال سامحهم الشعب السوري، وقبل أن يقيم ذات يوم علاقات طبيعية معهم. لقد خسر الروس العلاقات المميزة التي كانت لهم مع شعب سوريا طيلة نيف وستين عاما، وضيعوا ثقة كان يمنحهم إياها دون غيرهم، وربطوا أنفسهم بنظام يرفضه شعبه، مخالف للطبيعة، يقيم علاقات قهرية مع مواطنيه فاقت في خروجها عن الحكم الشرعي ما عرفه أي نظام استبدادي/ قمعي عرفته العرب، بينما كان بوسع روسيا الإفادة من رصيدها لدى جيش وأمن النظام للحيلولة دون انغماسه في تدمير سوريا وقتل شعبها في مجازر أدمت قلوب العالم، لكن بوتين استقبلها بالتهليل والترحيب وكأنها أعمال خيرية يمارسها نظام رحيم ضد شعب من الوحوش والضواري، يستحق القتل والإبادة!
خسرت روسيا بوتين لأنها نسيت أن الشعب السوري سيهزم النظام الأسدي، فهل ربحت، بالمقابل، عربيا وإقليميا ودوليا؟
بداية: لم تفهم روسيا ما يجري في سوريا، ولم تدرك الاستراتيجية الأميركية – الإسرائيلية، بل آمنت بانتصار الأسد، ورفضت ما لفت السوريون نظرها إليه مرارا وتكرارا، وهو أن واشنطن وتل أبيب ستحتضنان الأسد ما دام يدمر دولة ومجتمع سوريا ويشطبهما من معادلات القوة في المنطقة. ولم تع أن تدمير سوريا بدعمها وسلاحها سيمثل عارا أبديا عليها، وسببا لتحقيق عكس ما تريده، لصعود الأصولية على جثة الديمقراطية، لكنها أصرت على خوض الصراع إلى جانب الأسد، وأسهمت من دون وعي في جهود أميركا لتحويل سوريا إلى بؤرة توتر تستقطب خصومها الدوليين والإقليميين، وتمكنها من اصطيادها من دون أن تضحي بدولار أو شيقل أو بجندي أميركي أو إسرائيلي واحد. واليوم، وبعد أن بدأت واشنطن تأخذ سلاح النظام الأسدي الكيماوي، وبعد أن تأكد أن هذا النظام لم يكن له من هدف خلال نصف القرن الماضي غير البقاء في السلطة، حتى في ظل السيطرة الإسرائيلية، وبعد أن أجبرت روسيا بوتين على ممارسة دور سمسار لا يستطيع إنقاذ الأسد، أرغمته واشنطن على فعل ما تريده هي وإسرائيل.. تبدأ أميركا في تحقيق هدفها الثاني: وضع النووي الإيراني تحت إشرافها خلال الأسابيع القليلة المقبلة.. وإلا شددت حصارها على طهران، وصعدت ضغوطها عليها، وركزت جهدها على تسريع استنزافها، في سوريا وخارجها، بينما تقف روسيا عاجزة عن فعل أي شيء لمساعدتها، مثلما وقفت عاجزة عن منع الأسد من تسليم سلاحه الكيماوي، ولن يبقى أمامها من خيار غير تمتيع ناظريها غدا بمشاهدة هزيمتها الاستراتيجية في طهران، بعد أن متعتهما البارحة بمشاهدة هزيمتها الاستراتيجية في دمشق.
ستبقى روسيا بوتين في موقع من يقوم بردود فعل دفاعية، وستبقى المبادرة الاستراتيجية في يد أميركا وإسرائيل، وسيكون الانتصار حليفهما، ليس بسبب ما تمتلكانه من قدرات وخيارات مفتوحة وسياسات مدروسة وحسب، بل كذلك لأن تورط روسيا وإيران في الصراع السوري يعزز ضعفهما الاستراتيجي، ويمثل حلقة حاسمة في جرهما إلى موقع قتل يمكن أن يتلقيا جميع الضربات الضرورية لاستنزافهما وهزيمتهما فيه.
ما الذي ستفعله روسيا غير قبول الهزيمة، متى وقع في طهران ما سبق وقوعه في دمشق؟ لن يبقى لها غير جر ذيول خيبتها ببوتين وسياساته، ومغادرة منطقة دخلتها في الخمسينات بخيارات التحرر والتقدم، ويخرجها الأميركيون والإسرائيليون منها الآن، بعد نيف ونصف قرن، لأنها احتقرت شعوبها وتجاهلت مصالحها ورغباتها، وربطت مصيرها بمستبدين صغار لم يرفض أحد منهم يوما أن يكون مجرد خادم صغير لخطط واستراتيجيات أميركا وإسرائيل!
مارست روسيا سياسات غبية تعمدت واشنطن إظهارها بمظهر سياسات يمليها الذكاء، لتكون سقطة بوتين أشد إيلاما وأفدح ثمنا، كما نلاحظ اليوم.
منقول عن الشرق الاوسط