لبنان بلد عجيب. أشياء كثيرة فيه لا يتطابق مظهرها مع حقيقتها، وانتخاب الجنرال ميشال عون رئيسًا للجمهورية هو واحد من هذه الأشياء الكثيرة.
قبل انتخابه بساعات كان ليبدو أن وصوله إلى قصر بعبدا هو انتصار كبير لمحور إيران وهزيمة لخصومها، وهو ما دفع أحد كبار المعلقين السياسيين في لبنان، الكاتب سركيس نعوم لاعتباره رئيسًا صنع في الضاحية الجنوبية!
والحقيقة أن هذا ما حاولت الماكينة السياسية الإيرانية تكريسه من خلال مسارعة رئيس الجمهورية الإيرانية حسن روحاني لتهنئة الرئيس المنتخب، تلاه مستشار المرشد، علي ولايتي، واصفًا انتخاب عون بأنه «انتصار كبير للمقاومة، ولحلفاء إيران وأصدقائها».
صحيح ولكن!
هذه صيغة لا بد منها لفهم معظم ما يتصل بشؤون السياسة في لبنان. طبعًا، ما كان ممكنًا انتخاب عون لولا التغطية السياسية الكثيفة التي واكبت ترشيحه من «حزب الله»، وتمسك الحزب به مرشحًا وحيدًا وتفضيله على أقرب المقربين، والأسبق منه في التحالف مع «حزب الله». وما كان ممكنًا انتخابه لولا قرار سعد الحريري بالتسوية التي حملته إلى القصر! هو التقاء إرادتين سبق أن حرم تنافرهما عون من الرئاسة في عام 2008 وفي أعقاب اتفاق الدوحة الذي وضع حدًا لانهيار الوضع الأمني في لبنان بعد انقلاب سلاح «حزب الله» على الداخل في بيروت وجبل لبنان.
لو انتخب عون عام 2008 لصحت مقولة الكاتب الصديق سركيس نعوم إن عون «صنع في الضاحية»، ولكان الانتخاب تكريسًا لمنطق الغالب والمغلوب. يومها انتخب قائد الجيش ميشال سليمان ولم يستطع السلاح الإتيان بعون رئيسًا، مكسورًا آنذاك أمام ممانعة مسيحية وسنية رافضة لانتخابه!
أما المبالغات الراهنة حول انتصار المقاومة بشخص عون، فتفضحها مفارقة فاقعة، مفادها أن رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع يتصدر الاحتفال بفوز «مرشح محور إيران والأسد والمقاومة»، في حين ينأى عن الاحتفال، ويشوش عليه، ركنان من أركان المحور، الرئيس نبيه بري والوزير سليمان فرنجية!
الحقيقة أن الشهية الإيرانية، في إيران نفسها وعبر حلفائها اللبنانيين، لتأطير الانتخاب على أنه انتصار لها ولمحورها هو دليل على أنها لا تشعر في العمق أنها حققت انتصارًا بالشكل الذي تريده. فائض التركيز على تظهير النصر هو تعويض عن انتصار غير قائم. فميشال عون ليس الرئيس اللبناني الأسبق إميل لحود ولا رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي.
هل سينقلب عون على «حزب الله»؟ هذا رهان لا تقل فيه المبالغة عمن يروجون لانتصار عون.
حين التقيت الجنرال عون قبل نحو سنتين، في دارته في الرابية، في ذروة الاشتباك السياسي في لبنان، سمعت منه الكثير من الأسرار التي أحتفظ بمعظمها وأكشف منها واحدًا. قال لي «أنا أريد عهدًا ناجحًا، لا أن أنتخب رئيسًا فقط. ولا عهد يمكنه أن يقلع من دون سعد الحريري». وأضاف: «من يراهنون على انقلابي على (حزب الله) واهمون، فأنا أريد أن أجمع البلد لا أن أقفز من موجة إلى أخرى». حينها عرض الجنرال أمامي عددًا من الرسائل الإلكترونية التي بعث بها إليه سفير أميركي سابق خلال حرب تموز 2006، وفيها من التهديدات المبطنة والترهيب لعون ما فيها، بغية دفعه لفك الارتباط بـ«حزب الله»! من لم ينقلب يومها لن ينقلب على «حزب الله» اليوم.
مشكلة عون مع «حزب الله» ستكون من طبيعة مختلفة، وهي طبيعة «حزب الله» نفسه، التي لا تسمح لأي كان، خارج الإطار العقائدي للحزب أن يكون جزءًا ثابتًا في مشروع «حزب الله».
صحيح أن «حزب الله» استخدم عون وشعبيته كرافعة سياسية في مواجهة احتمالات أن يكون معزولاً، ولكن الصحيح أيضًا أن عون استخدم «حزب الله» للموازنة مع السنة، على اعتبار أن «الكباش» داخل النظام السياسي هو كباش سني ماروني. كان كذلك قبل اتفاق الطائف واستمر بعده!
عون يريد عهدًا ناجحًا. وهذا يتطلب حضورًا أكبر للدولة ولمؤسساتها ولانتظام العمل بالدستور، ولعلاقات لبنانية سليمة مع العرب، وهي عناوين كان عون المرشح متحررًا منها إلى حد كبير ولن يكون عون الرئيس كذلك! فالمغامرة كبيرة أن ينتهي «الرئيس القوي» والرئيس «الأكثر تمثيلاً» في طائفته مجرد أداة عند «حزب الله»، أو مكونًا من مكونات مشروعه ومحوره، لأن ما ستطيح به هذه المغامرة ليس أقل من الإطاحة بفكرة الضمانة المسيحية للنظام والكيان. بعدها بحث آخر، في كل شيء!
عون هو أول رئيس مسيحي منذ عام 1990 يصالح المسيحيين مع اتفاق الطائف، ويسقط عن وثيقة الوفاق الوطني شبهة «الإجحاف المنظم» بحقهم.
لبنان أكبر من صانعي رؤسائه أيًا كانوا. من الرئيس بشارة الخوري إلى الرئيس ميشال سليمان، كل تعلم أن أيًا تكن الرافعة، لا يمكن لأحد أن يحكم إلا بشروط هذا البلد الصغير مجتمعًا وليس بشروط أحد مكوناته. الرئيس ميشال عون لن يكون مختلفًا، وهو أكثر من يفهم هذا المنطق بعد أن عانده 27 عامًا!
فخامة الرئيس ميشال عون، بالتوفيق!
* نقلا عن “الشرق الأوسط”