جون كيري
مع الإدارة الأميركية الجديدة التي تولت مهامها هذا الأسبوع، من الطبيعي تقييم الإرث الذي سوف تتسلمه من الإدارة السابقة عليها.
هناك من يرون الكوابيس أينما أشاحوا بوجوههم ويصرون على أن النظام العالمي بأسره معرض للانهيار وأن موقف الولايات المتحدة، باعتبارها زعيمة العالم المعاصر، هو في تراجع وهبوط شديدين.
وبصفتي وزير الخارجية المنتهية ولايته، فلا يمكنني ادعاء الموضوعية. ولكنني سوف أغادر منصبي وكلي قناعة أن أغلب الاتجاهات العالمية لا تزال في صالحنا، وأن قيادة الولايات المتحدة وتفاعلها على الصعيد العالمي لا يزالان على نفس القدر من الضرورة والفعالية اليوم كما كانا في أي وقت مضى.
ومن الأسباب الرئيسية في ذلك أن الرئيس أوباما أعاد اعتماد الدبلوماسية الحازمة لدينا كأداة من أهم أدوات السياسة الخارجية والأولى بالتطبيق، ولقد استخدمها بالفعل في الوقت المناسب، ومرارًا وتكرارًا في تعزيز أمن بلادنا وازدهاره.
وهذا أمر واضح، أولاً وقبل كل شيء، في حملتنا لهزيمة «داعش». وقبل عامين ونصف، كان هؤلاء القتلة يمضون في مسيرتهم الأولى عبر العراق وسوريا. وبدلاً من الإسراع في خوض الحرب من جانب واحد، تدخلنا عن طريق معاونة العراق في تشكيل حكومة جديدة وأكثر شمولاً، ثم عملنا على حشد التحالف الذي يضم 68 من الدول الأعضاء للمساندة في إعادة تأهيل الجيش العراقي، وقوات البيشمركة الكردية، وغير ذلك من الشركاء المحليين في مهمة تحرير الأراضي التي كانت محتلة بواسطة «داعش».
ونحن منخرطون بالفعل في جهود متصاعدة ترمي إلى تحرير أكبر المعاقل المتبقية داخل العراق (مدينة الموصل) وسوريا (مدينة الرقة). وتعتمد هذه الخطوات العسكرية على التعاون الدبلوماسي الكبير الذي توسطنا في تفعليه لقطع موارد التمويل عن «داعش»، وتجفيف منابع التجنيد لديه، وتقويض آلة الدعاية المسمومة على مختلف وسائل الإعلام الاجتماعية وداخل المنطقة.
تولى الرئيس أوباما مهامه الرئاسية أثناء ما كان البرنامج النووي الإيراني يمضي على قدم وساق وتتعرض أمتنا للضغوط المتزايدة لأجل اتخاذ الإجراءات العسكرية ضد طهران. وحيث إننا أوضحنا موقفنا بمنتهى الصراحة من أننا سوف نفعل كل ما في وسعنا للحيلولة دون حصول إيران على الأسلحة النووية، فلقد بدأنا تلك الجهود بالمساعي الدبلوماسية، وفرضنا أقوى نظام للعقوبات الدولية شهده العالم المعاصر على الإطلاق، واختبرنا نوايا إيران الحقيقية إزاء التفاوض الجاد حول اتفاق من شأنه ضمان أن البرنامج النووي الإيراني لا يعمل إلا لخدمة الأغراض السلمية فحسب. ونتيجة لذلك، ومن دون إطلاق رصاصة واحدة أو نشر جندي واحد على طريق الأذى، توصلت الولايات المتحدة إلى جانب شركائها إلى «خطة العمل الشاملة المشتركة»، التي قطعت الطريق على المسارات الإيرانية صوب الحصول على الأسلحة النووية، وجعلت أمتنا، وحلفاءنا، بل والعالم أجمع أكثر أمانًا.
عندما غزت القوات الروسية أوكرانيا في عام 2014، كان يمكن للولايات المتحدة الاستجابة على النحو الذي فعلناه قبل ست سنوات، عندما واجهنا التدخل العسكري الروسي في دولة جورجيا بالخطابات والتصريحات ليس إلا. ولكن مع إصلاح العلاقات الدبلوماسية التي تضررت بشدة جراء الحرب على العراق، كانت إدارة الرئيس أوباما قادرة على دحض المشككين من خلال العمل مع شركائنا في الاتحاد الأوروبي على فرض العقوبات الاقتصادية التي أسفرت عن عزل روسيا وألحقت الأضرار الواضحة باقتصادها. كما أننا عملنا على تعزيز دور منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) من خلال التوسع الكبير في مجال المساعدات الأمنية المقدمة إلى الحلفاء في دول البلطيق وأواسط أوروبا.
وعلى كافة المناحي، واصلنا العمل مع روسيا عندما كان ذلك العمل يصب تمامًا في صالحنا. ولكن نظرًا للموقف الصلب الراسخ الذي اعتمدناه، فإن روسيا اليوم – وعلى الرغم من تفاخر قادتها – تعاني من تناقص الاحتياطات المالية، ومن العملة المحلية التي بلغت أدنى مستوياتها التاريخية، إلى جانب العلاقات الدولية الضعيفة.
أوضح الرئيس أوباما الأمر بكل صراحة لحلفائنا وخصومنا المحتملين في آسيا أن الولايات المتحدة سوف تظل القوة الرئيسية الداعمة للاستقرار والازدهار في منطقتهم. لقد حشدنا القوى العالمية وراء فرض العقوبات غير المسبوقة ضد كوريا الشمالية المهددة للأمن والاستقرار في العالم، ورفعنا من وجود قواتنا البحرية في المحيط الهادئ، وعملنا مع الشركاء الإقليميين لمساندة سيادة القانون في بحر الصين الجنوبي، وعقدنا شراكة استراتيجية مع الهند. كما نجحنا في توحيد الشركاء الرئيسيين وراء الاتفاقية التجارية المميزة وعالية المستوى، اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، والتي لا نزال نعتقد بوجوب مصادقة الكونغرس الأميركي عليها – وفي كل ذلك حافظنا على علاقات تبادل المصالح المشتركة مع بكين.
وعندما تولى الرئيس أوباما مهام منصبه، لم يكن هناك أثر يُذكر للجهود المبذولة لحماية كوكبنا من الآثار الكارثية للتغيرات المناخية، التي بلغت وضعا شديد الحرج عبر عقود من الانقسام بين الدول المتقدمة والدول النامية حول تلك القضية. غير أن تواصلنا مع الصين أسفر عن سلسلة من النجاحات الكبيرة التي جعلت من العام الماضي أكثر الأعوام أهمية من حيث جهود الدبلوماسية المناخية. وبناء على ذلك، وبدلا من التراجع عما تحقق بالفعل، كان هذا التقدم المحرز يفسح الطريق أمام التحول التاريخي نحو الطاقة النظيفة ويمهد الأجواء لحماية الكوكب من أسوأ ويلات التغيرات المناخية العالمية.
ويمكن الوقوف على ثمار جهود الإدارة الأميركية الدبلوماسية في نصف الكرة الأرضية الغربي، حيث عملنا على تعزيز موقفنا من خلال تطبيع العلاقات مع كوبا، والمساعدة في إنهاء عقود من الحرب الأهلية طويلة الأمد في كولومبيا. وفي أفريقيا، اكتسبنا المزيد من الأصدقاء الجدد عن طريق تدريب صغار القادة، وتزعمنا الجهود العالمية الناجحة لاحتواء وباء إيبولا القاتل.
ومن الواضح أيضًا، أننا لم نتمكن من توفير الحلول لكافة المشاكل، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط المشتعل باستمرار. ولكن الولايات المتحدة كان لديها ما يكفي من المبررات للتأكيد على ضرورة التوصل إلى حل الدولتين بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني.
كما أنني أحتفظ باعتقادي أن المعادلة التي اعتمدناها لمحاولة إنهاء الصراع العنيف في سوريا كانت، ولا تزال، المعادلة الوحيدة التي تحمل الفرصة الواقعية لإنهاء الحرب الدائرة – من حيث استخدام الدبلوماسية في اصطفاف الدول المعنية وراء قرار لوقف إطلاق النار في جميع أنحاء البلاد، وتوفير المساعدات الإنسانية، وتهميش الدور الذي تلعبه الجماعات الإرهابية، وتعزيز المحادثات التي تقودها سوريا على مسار صياغة الدستور الجديد وبناء الحكومة الديمقراطية في البلاد.
لسنوات قادمة، سوف تخضع ردود فعل المجتمع الدولي إزاء المأساة السورية للجدال والنقاش. وكان المسؤولون في الولايات المتحدة ذاتها يتبادلون هذا النوع من المناقشات المستمرة في غرفة العمليات الرسمية. ومن بين الخيارات المطروحة، كان النشر الهائل للقوات البرية الأميركية، وهو من الخيارات المرفوضة بحق. وخيارات أخرى، مثل نشر المزيد من وحدات القوات الخاصة في مهام وعمليات محدودة، وكان من الخيارات قيد الاعتبار. وشهرًا تلو الشهر، أجرينا تقديرًا للظروف المتدهورة والمكاسب غير اليقينية للتدخل العسكري في مواجهة المخاطر الحقيقية الصريحة، بما في ذلك التدخل العسكري العميق في حرب تتسع رقعتها باستمرار. وفي حين أنني لم أفلح في طرح كل حجة لديّ – كما لم يصنع أي سياسي آخر – إلا أنني أشهد أن كافة الأفكار والخيارات القابلة للتنفيذ قد تلقت نصيبها المنصف من الطرح والإنصات.
أنا لست من المشتغلين بالدعوة للسلام. ولكنني تعلمت في فترات شبابي أثناء خدمتي في حرب فيتنام أنه قبل اللجوء إلى قرار الحرب، فإن الذين في مواقع المسؤولية ينبغي عليهم أن يفعلوا كل ما في وسعهم لتحقيق أهدافهم بالوسائل الأخرى.
ولقد رجعت من الخدمة في فيتنام، حيث أنجزت الدبلوماسية الذكية والمستدامة ما عجز عقد كامل من الحرب عن تحقيقه: تنمية مجتمع حركي ورأسمالي، وافتتاح جامعة على الطراز الأميركي مع وعود بحرية الدراسة الأكاديمية، وربما وبمزيد من الأهمية، تعزيز الروابط ليس فقط بين شعبينا، ولكن أيضا بين جيشينا اللذين حاربا بعضهما البعض ذات مرة كعدوين.
وباستشراف المستقبل، فإن آمالي منعقدة على أن الاضطرابات لا تزال واضحة وجلية في عالم لا يحجب المكاسب الاستثنائية التي تحققت في عهد إدارة الرئيس أوباما أو لعلها أسفرت عن عزلة المقاربات التي خدمت أمتنا على أفضل نحو ممكن.
تستلزم الدبلوماسية قدرا كبيرا من الإبداع، والصبر، والالتزام بالمثابرة والعمل المستمر، والابتعاد في كثير من الأحيان عن عالم الأضواء. ولا تكون النتائج أبدا متعجلة أو يمكن اختزالها في لمحات تغريدية لا تتجاوز 140 حرفا على الأكثر. ولكنها ساعدت في بناء عالم كان أجدادنا ليحسدونا عليه إن عاينوه اليوم – العالم الذي يمكن للأطفال فيه وفي أغلب الأماكن أن يولدوا في صحة جيدة، وأن يتلقوا التعليم المناسب، والعيش بحرية بعيدا عن الفقر الشديد المدقع.
من شأن الإدارة الجديدة أن تواجه الكثير من التحديات، كما كان الأمر لدى كل إدارة جديدة تعهدت المسؤولية قبلها. ولكنها سوف تتولى المهام خلال الأسبوع الجاري وهي مسلحة بمزايا هائلة وكبيرة لمواجهة تلك التحديات والتعامل معها. إن الاقتصاد والجيش الأميركي هما الأكبر على مستوى العالم، ولقد ساعدت الدبلوماسية في جذب الرياح المواتية إلى صالحنا، ويدرك خصومنا جيدا عزمنا وإرادتنا، كما أنهم يلحظون أن أصدقاءنا إلى جانبنا على الدوام.
* خدمة «نيويورك تايمز»