كان الآشوريون والبابليون من أرومة واحدة. ولكن إتصال الأوائل بالشعوب الشمالية هذب شيئا من عقليتهم ولغتهم وأورثهم
قساوة في طباعهم. ولم تكن نشأتهم مكملة لنشأة البابليين بل كانت موازية لها سائرة معها جنبا الى جنب. ويمكننا أن نحصر صفات الآشوريين في كلمة واحدة وهي “المقدرة” فقد كانوا يقومون بكل أعمالهم ومشاريعهم بجد ونشاط مراعين في سائر نواحيها منتهى الدقة الزائدة. ومقدرتهم هذه على تحمل المشاق واقتحام المصاعب التي بلغت منهم مبلغ العبقرية هي التي ساعدتهم على تأسيس دولة عظيمة. ولكن يجب الا ننسى أن تكوين هذه الدولة نفسه أدى الى فنائهم, وذلك لتشتتهم وتفرقهم في أنحائها وهكذا زالت دولتهم سريعا دون أن تخلف وراءها شيئا من مجدها.
ان حضارة الآشوريين في الشمال هي امتداد عميق لحضارة البابليين في الجنوب لدرجة يصعب معها التمييز بين العادات الخاصة والتقاليد والطقوس بكل من هاتين الأمتين. فقد انتقلت معظم الآداب البابلية الى المكتبات الآشورية كميراث شرعي, وكانت الثقافة الدينية في نينوى وكلح وآشور متسمة بسمات الطقوس والأشعار والأناشيد البابلية.
أخذ الآشوري عقيدته في تكوين العالم والخليقة عن البابلي, انما أحل فيها الإله القومي “آشور” محل الإله البابلي “مردوخ” صاحب الدور الأعظم في الخليقة والتكوين وعلى النظريات البابلية بنى معارفه. ومما تقدم يتضح لنا أن حضارة الآشوريين وحضارة البابليين هما حضارتان شقيقتان مرتبطتان بأوثق الصلات فلا غرو اذا إن استعنا بالمصادر البابلية على تحليل الحياة الاشورية.
بلغت الدولة الآشورية أوج مجدها الذهبي في القرن السابع قبل الميلاد فكانت جحافلها قد اجتازت شرقا المرتفعات التي تخترق الحدود الفارسية متجهة نحو مادي ورجعت بأسلاب اللازورد وغيرها من الأحجار الكريمة وتوغلت في كيليكية وفينيقية حيث أتشح أفرادها بالأرجوان الفينيقي ومن هناك عبروا البحر الى قبرص واخيرا أمتد توغلهم الى ابي الهول فكان الانتصار تاجا لظفرهم.
ولما كان لكل دولة زمن ولكل نهضة أجل محدود, أخذت الدولة الآشورية تنحدر عن قمة عظمتها شيئا فشيئا فمال نجم جبروتها نحو الأفول, وفي سنة 612 ق. م اذن عليها مؤذن الختام: فطرد البابليون والماديون البقية الباقية من تلك الدولة العظيمة الى ما وراء الدجلة الى حران وخلفوها في الحكم لمدة ثلاثة أرباع القرن كانوا في خلالها دول الأرض العظمى. وهكذا تنعمت بابل بلذة الحكم في أيام ملكيها نابو فلاصر ونابو خدناصر غير أن هذه النهضة لم تدم طويلا بل سقطت أمام شوكة الفرس وذلك سنة 539 ق. م ومن العوامل التي أدت الى تقصير عمر هذه النهضة دسائس الكهنة الذين كانوا يعملون لمصالحهم الشخصية فيسلمون مقاليد الحكم الى ملوك عاجزين عن إدارة المملكة وآخر ما كان من سياستهم الخرقاء هذه تنصيبهم الملك نابونيدس المعروف بالاثري الضعيف الرأي والفاتر الهمة.
سقطت بابل سنة 535 ق. م في أيدي الفرس فاقدة استقلالها لكنها لم تمت .. اسرا بابلية ظلت لمدة خمسة قرون متمسكة بتقاليدها الدينية والأدبية العريقة تمسكا وثيقا يدلنا على شدة محافظة البابليين على التقاليد القديمة ويرينا أسباب بطأ حضارتهم الزاهرة.
أصبحت (نينوى) مدينة الملوك العظام, ومعقل القوة الهائلة عاصمة للدولة الآشورية في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد. وكانت نينوى سليلة أسرة من العواصم, أدارت دفة الحكم قبلها بزمن مديد. فكانت العاصمة في بادئ الأمر في مدينة (آشور) التي تبعد مسافة يومين من نينوى الى جهة الجنوب ثم انتقلت منها الى مدينة (كلج) الواقعة على بعد يوم الى الجهة الجنوبية من نينوى. وهذه سلمت زمام الحكم الى شقيقتها (نينوى) يوم كان تيار الأمة الجارف متجها نحو الشمال لا يحول دونه حائل.
كان سور (نينوى) البالغ طوله حوالي 13 كم يحيط بتلتين عاليتين تزدان قمتاهما بجلال الهياكل والقصور الفخمة وكان الملك يشرف من أعالي قصره على شوارع المدينة المزدحمة ويجيل بطرفه في الأفق من الشمال والشرق فيرى سفوح الجبال المكللة بالثلج في فصل الشتاء ومع أن طقس نينوى في الصيف يماثل طقس المنطقة الحار, كانت ترتدي احيانا حلة بيضاء من الثلوج عند اشتداد البرد في زمن الشتاء. والناظر الى الغرب كان يشاهد حقول القمح الواسعة الأطراف ممتدة على ضفة دجلة المنساب في كنف المدينة ذلك النهر العظيم البعيد الغور في أيام فيضانه والقريب القعر في أيام القيظ. وفي الصيف كانت ترى المدينة الرابضة بين حقول القمح الفسيحة الأطراف المنتشرة في السهول الخصيبة الأكناف كجزيرة يحيطها بحر من الزمرد الموشى بألوان زاهية من زهور الشقيق القرمزي والخشخاش, يهب من فوقها نسيم عليل تعبقت أردانه بالعطور المنبعثة من زهر البرسيم.
وعلى التلال الشمالية المحاذية للنمرود, قامت أفخم المباني الشاهقة التي كانت تناطح السحاب بعلوها. فكان في الزاوية الشمالية منها قصر لآشور بانيبال محاذيا لهيكل الإله (نبو), وفي الزاوية الجنوبية قصر آخر لسنحاريب على مقربة من هيكل (عشتاروت) وفي الناحية الشرقية منها قام قصر صغير لسنحاريب على مرتفع شاهق مطل على نهر الخوصر.
وكانت التلال الجنوبية التي تعرف اليوم (بنبي يونس) على بعد كم من التلال الشمالية عليها قصر فخم لأسرحدون 2.
ان هيام ملوك الآشوريين بالفنون الجميلة كان بالغا أقصى درجاته, وبالجملة فقد كانوا من الفئة التي تستجمع وتستنزف جهود الانسان الفنية لتزين في الطبيعة ما قد أهملته هي. وهوذا أحدهم سنحاريب الذي كان تواقا للإبداع لما رأى قصره القديم القائم في القسم الجنوبي من التل غير لائق بعظمته أحب أن يخلد له اثرا نفسيا فعزم على جعل قصره بهجة القصور وآية في الفن والاتقان ودون خلاصة ما عمله على قطع من الآجر ليقرأها من يأتي بعده.
فأول عمل أتاه أنه أمر في تجديد الأسس المتضررة من مجرى صغير كانت قد تسربت المياه اليها, ثم طلب الى رؤساء خدم الملوك أن يأتوه بجموع من البنائين والعمال من الكلدانيين والآراميين والكيليكيين فحملوا على ظهورهم المتصببة عرقا الطين اللازم لصنع الآجر وهدموا القصر القديم محولين مجرى النهر الطامي ليملأوا قاعه حتى يرتفع عن مستواه القديم. ومن ثم جاء بالعمال والصناع لصقل ونقش أنواع الأخشاب والعاج والرخام من المناطق القريبة ونقشوا الجدران وجعلوا تماثيل الأسد الحجرية في مداخل الابواب. ورسموا مثلها على خزائن الملك, ثم أنشأ حديقة غناء اكسبت التلال منظرا يماثل منظر (جبال أمانوس) المطلة على الاسكندرونة. ولم يكتف بكل هذا بل وسع نهر (الخوصر) بجداول مخترقة التلال, وحول مجرى الماء في حالة يسهل معها سقي السهول سقيا مستمرا, وحفر بحيرة ليصب فيها ماء النهر بعد أن زرع القصب على شواطئها لتأوي اليها قطعان الخنازير وأسراب اللقالق, وأخيرا زرع ما يسمونه ( شجرة القطن) العجيبة او (شجرة الصوف) لتجز كالأغنام وتصنع منها منتوجاتها الأقمشة, ورمم السور المحيط بالمدينة وفتح فيه خمسة عشر بابا بين جديد وعتيق ومرمم. وهكذا أصبحت نينوى كاملة لا ينقصها شيء. وقد دون الحفارون هذه الأعمال كلها في وثائق لتبقى شاهدة على ما بلغه المهندس الآشوري من البراعة في الفن اذا ما خربت نينوى يوما ما واختفت من الوجود.
ان قطع الرخام التي كانت تمد ملوك الآشوريين بكميات لا تنضب, كانت بلا شك موضوع غيرة البابليين, فبعد سقوط نينوى 612 ق.م وسقوط دولة الآشوريين, وبينما كانت بابل تتسلق قمم العظمة والمجد, كان نبوخذ نصر يحاول بكل جهده ان يجعل عاصمته مستحقة القول المأثور (ان بابل نخلة والثمرة في اعلاها حلوة لذيذة) حتى بعد هذا كله لم يكن لدى تلك المدينة ما تفاخر به من الأحجار المنقوشة التي كانت تبهج ملوك الآشوريين. ولا يعلم السبب في عدم حصولهم على هذه الأحجار هل كان ذلك ناجما عن إهمال أم متأتيا عن صعوبة نقل الحجارة الضخمة الى بابل على شلالات دجلة. وكل التنقيبات الحديثة تدل على أن الجنوب لاتظهر فيه سوى الأحجار الكلسية (البريتشا) التي جلبت من أعالي الفرات.
ومن هنا يتضح لنا الفرق المحسوس بين المدينتين البابلية والآشورية, فقد برع الفنان الآشوري في حفر ونقش صفائح الرخام التي كانت تزيد في جلال جدران القصور, أما النحات البابلي فنظرا لفقدان هذا النوع من الحجر في بلاده لم يتقدم في معارج الفن بل اكتفى بتقليد زميله النينوي ومحاكاته في تجسيد الثيران ورسوم العنقاء بنقش بارز على قطع الآجر والواح الطينية خالية من الزخارف, وكان يطليها ليزين بها واجهات القصور.
ولما كان فقدان الحجر قد غل يد الملك البابلي عن اتيان الزخارف, أخذ على نفسه أن يجعل مدينته المحبوبة مثالا للبساطة ويقيم بها رمزا لظفر الآجر والزعفران والكهرب منافسا بتلك الأكوام القائمة من قطع الآجر العارية عن كل زينة ملوك نينوى الذين خصهم حسن حظهم بالحجر. يشاهد اليوم آثار تلك البساطة بادية على الاطلال التي ظلت شاخصة على مر العصور, فبقيت ماثلة للعيان تبعث في النفوس ذلك الوحي المؤثر الذي كان يبعثه جلال أبنية في منتهى الفخامة مشيدة من آجر بسيط.
كانت بابل رابضة في بقعة من الارض يبلغ محيطها 16 كم تحرسها من جهاتها الثلاث أسوار شاسعة ما عدا الغريبة منها فإنها كانت محمية بنهر كشقيقتها نينوى وكان في الجهة الشمالية من المدينة الرابية المعروفة اليوم (بابل) وعلى قمتها قصر يؤخذ من آثاره أنه كان لنبوخذ نصر وفي وسطها انشأت مجموعة كبيرة من الأبنية والهياكل الفخمة بينها قصر عظيم للملك وبوابة (عشتاروت) المزدوجة الشهيرة تناطح السماء بعلوها الشاهق التي قد يبلغ ارتفاعها 40 قدما مزينة بتسع صفوف من الصور البارزة للتنانين والثيران الحارسة. والى الجنوب قام برج هائل عظيم فاق كل ما حوله من الأبنية علوا يدعى (اي تيمن ان كي) وهو برج بابل الحقيقي التي حامت حوله التقاليد القديمة وكان مربع الشكل يبلغ طول إحدى الجوانب من قاعدته قدما 1362.
ان نبوخذ نصر في بابل وسنحاريب في نينوى كلاهما عملا بطريقة خاصة على ما يبهج النظر, غير أنه لم يكن لا لهذا ولا لذاك شيء من عبقرية آشور بانيبال الذي جمع بين ما تقر برؤيته العيون وترتاح اليه الخواطر وتكاد أهمية قصره القائم في منتصف التلال الشمالية في نينوى تتضاءل مقارنة بالمشروع العظيم الذي انجز في فترة حكمه, الا وهو جمع (مكتبة مسمارية) حوت من جميع صنوف المؤلفات المكتوبة على قطع الآجر في مواضيع مختلفة, ما عدا أناشيد الحب والروايات التمثيلية غير المصطبغة بصبغة الخرافات. فكان فيها قواميس متنوعة وتراتيل وتعاويذ ضد الأبالسة وكتب طقوس تشرح بإسهاب ما يجب على الكاهن عمله في الهيكل, وأشعار قصصية مطولة يدور البحث فيها حول تكوين العالم, وطواف البطل (كلكامش), واختطاف النسر الأميرة (هيتانا) الى السماء, وترحاب الاله السماوي (بآدابا ) من أجل كسره جناح الريح الجنوبية. أضف الى ذلك رسائل في الكيمياء, تعرف الكيماوي كيفية صنع الزجاج وتلوينه مع وصفات طبية وفصول في التنجيم وسجلات احصاء وتواريخ على اسطوانات كبيرة وعقود ورسائل أخرى تعد بالمئات.
هناك نسختان محفوظتان من كتاب بعث به آشور بانيبال الى أحد مساعديه, يخوله فيها حق التفتيش على سائر أنواع الكتب الممكن اقتناؤها من أي مكتبة مسمارية كانت في جواره جاء فيه: [لا يمسك أحد عنك لوحة, واذا عثرت على لوحة أو رقية مما لم أذكره أنا لك وكانت صالحة لمكتبتي, خذها وأرسلها لي].
وكان أعظم مسراته هو اقتناء الكتب ذات القيمة العلمية والادبية, وقد نجح في جمعها نجاحا باهرا, نستدل على ذلك من قطع آجر يربو عددها عن العشرة آلاف قطعة عثر عليها المنقبون مبعثرة في أطراف التلال الكبرى, وهي من بقايا تلك المكتبة فحملوا معظمها الى المتحف البريطاني حيث لا تزال محفوظة الى الآن. وأكثر المعلومات التي وصلتنا عن الآشوريين هي مستقاة من هذه المكتبة.
كان آشور بانيبال شديد الاعجاب بنفسه, وقد بذل جهدا كبيرا للاعداد والتهذيب استغرق وقتا طويلا كما يؤخذ من أقواله عن نفسه. ففضلا عن التربية البدنية التي هي من خواص القيادة, فقد كان ماهرا, على ما رواه, في الرماية بالقوس وركوب الخيل وسوق المركبة ومسك الزمام وأدعى أنه وقف على خفايا كنوز الأدب وتوصل الى حل مسائل رياضية عجز الغابرون عن حلها قبله. وبغض النظر عما اذا كان ادعاؤه هذا صحيحا او فارغا, فنحن نعلم أن حبه للكتب هو الذي دفعه لجمع هذه المكتبة التي تعد من عجائب المكتبات في العالم. مع هذا فإن جمعه لهذه الكتب لم يكن سوى ولع به وميل من ميوله التي كان يخفف بها أعباء الملك الملقاة على عاتقه.
كان الملك وهو على رأس الدولة مثالا للاستبداد. غير أن الاستبداد هذا لم يكن مطلقا بل كان مقيدا ببعض القيود الدينية التي كان لها التأثير الأعظم على (العقلية السامية) في سائر أدوارها. فكان من عادته أن يستشير الآلهة في الأمور الحربية الهامة املا بالحصول على رضاهم وتعاطفهم الموحى به على لسان الكهنة. وكما أن الأنبياء الاسرائيليين كانوا قادرين على صد ملوكهم عن اتباع سياسة غير رشيدة في الشؤون الخارجية كذلك الكهنة عند الآشوريين فقد كان في وسعهم ان يميلوا نوايا الملك السياسية الى أي جهة أرادوا لكونهم المعبرين عن أفكار الآلهة.
وأما شؤون الدولة فكان يديرها حكام محليون يقيمون في الولايات وقد ترتب على عاتقهم الكثير من الواجبات والمسؤوليات. ومن المرجح أن وظيفة الحكام كانت كثيرة الشبه بوظيفة (الوالي التركي) في العراق فترة الحكم العثماني. وكان الشعب منقسما الى ثلاث طبقات: (اولا) طبقة الاشراف, ومنها كانت ينتخب أمراء الجيوش وموظفي الدولة. (ثانيا) طبقة نقابات الصناع والكتبة والفخاريين والنحاسين, ولكل من هذه النقابات حي خاص بها في مختلف المدن. (ثالثا) طبقة العامة, وكان لأفراد هذه الطبقة من الحقوق ما يخفف عنها فقرها.
أن جانبا كبيرا من الأهالي من طبقة العامة كان ينتمي الى أصل أجنبي, وأن أكثر الولايات البعيدة كانت بلادا مغلوبة على أمرها تدار وتحكم بقوة السيف, وكما يبدو ان مسؤولية الحاكم كانت مضاغفة, وكان يحضر الى مكتبه كالوالي العثماني, ويصغي الى أقوال لا حد لها من رؤساء موظفيه, فيلخص ما يراه مهما من هذه المعروضات ويرفعه في تقرير للحكومة المركزية باسم الملك.
وكثيرا ما فرضت الضرائب على مقاطعة أحد هؤلاء الحكام كما فرضت على مقاطعة (حران) فأدتها هذه من محصولات البساتين والحدائق ومزارع (العنب) وغابات البلوط الذي ثمره العفص المستعمل في الدباغة. وعند حدوث حرب صغيرة في احدى الولايات البعيدة كان يفرض على الأهالي تقديم الخيل كضريبة في كثير من الاحيان.
كانت قيادة الجيش الفعلية بيد الملك الذي كان ينزل في أغلب الاحيان بنفسه الى ساحات الحرب. وان تخلف عن النزول كان ينتدب لتولي القيادة العامة ابنه (ولي العهد) او القائد الاكبر المسمى عندهم (تورتانو) ولم تزل الرسائل التي بعث بها سنحاريب لما كان أميرا فتيا يقود الجيوش على الحدود الشمالية الى أبيه سرجون موجودة, وهي تتضمن خلاصة الأنباء التي يمكن اقتناصها من أتباعه ومن رجال القبائل المحلية. ومما لا ريب فيه ان الآشوريين كانوا بارعين في تجسس الأخبار التي تعد من أصعب المهام الحربية, وأن دوائر الاستعلامات والاستخبارات عندهم كانت بارعة جدا في تأدية وظيفتها.
تعبئة الجيش: كان الجيش مؤلفا من قسمين: (اولا) الجيوش النظامية (ثانيا) الاحتياطيون (الرديف). وكانت هذه الجيوش مقسمة الى فرق وكتائب شتى بحسب أنواعها. فمنها فرق المركبات والفرسان والمشاة وكتائب الانشاءات والحصار. وكانت الجيوش النظامية تحاكي بأرديتها العسكرية ومناطقها وخوذها وتنانيرها وأحذيتها العالية فرق الانكشارية في الدولة العثمانية. وكانت تؤلف الحرس الملكي الخاص, وانحصرت وظيفتها في أيام السلم في مراقبة الاسرى المشتغلين في الأبنية الملكية, وحفظ النظام حول الساحة التي كان يصطاد فيها مولاها الملك الاسود بقرب المدينة. وعند نشوب حرب كان الاحتياطيون يستدعون لحمل السلاح. وامتازت هذه القوى بخوذها المخروطية الشكل للتفرقة بينها وبين الجيش النظامي.
اما كتائب المشاة, فكانت تتألف عادة من 25 صفا مقسومة الى خمسة أقسام على رأس كل منها عريف. وكانت الصفوف تسير خماس, والصف مؤلف من رام ورماح يحمل ترسا, ولم يكن هذا الاخير يفترق عن زميله مهما ضعفت وحدات القطعة من هول المعركة.
ان تجهيز الحملات كان يعد أمرا هاما عند ملوك الآشوريين. وكانت تسبق الحملة إشاعات عن اضطراب الامن على الحدود تحملها رجال القوافل, فيتناقلها عامة الشعب بعد أن يبالغوا فيها فيشتد امرها ويكبر صداها, إذ تنتشر أحاديث السخط والتذمر, ومعظم هذه الأحاديث كانت تدور حول عصيان قبيلة ثائرة تمنعت عن تأدية الضرائب أو عن تحرش إحدى الأمم المجاورة . وهكذا تظل الاشاعات متداولة على الألسنة حتى تستعلم الحكومة من اتباعها القريبين من منطقة الخطر عن حقيقة الأمر, وهؤلاء كانوا يوفدون الجواسيس الى مكان الحدث للوقوف على جلية الحال, ومن ثم يرفعون تقريرا مسهبا على لوحة يسردون فيها ما تمكنوا من الوقوف عليه من الأخبار, كحدوث تحالف بين الأعداء ضد سلامة الدولة وإمكانية نشوب الحرب مع تفاصيل عن القوى التي يمكن للأعداء تجهيزها وإيفادها الى ميادين الحرب, وكان هذا التقرير يتناقله السعاة في محطات مختلفة حتى يوصلوه الى الملك.
ونستدل من اللوحات المحفوظة حاليا, أن الملك كان يستولي عليه اضطراب عند نشوء الحرب, فيبادر الى سؤال الآلهة عما اذا كان سيرجع حيا من هذه الحرب, فيعود الى تجواله في أرجاء قصره ويظل مضطربا حتى يأتيه الكاهن بجواب مريح من الآلهة فيطمئن باله, وعلاوة على هذا يخبره بأن أحد مشاهير الكهنة قد عثر على علامة تدعو الى التفاؤل بالخير, وهي أن خنزيرة قد وضعت مولودا مزدوجا بثمانية أرجل واذنين, ولما كان في هذه الولادة الشاذة دليل قاطع على انتصار الملك على أعدائه كانت تحفظ بالملح وترسل الى البلاط ليزداد بها الملك اطمئنانا.
وعلى هذه الصورة كانت تتضاعف قوى الجنود المعنوية فتشاهد الجنود النظامية على استعداد تام وترى وحدات الاحتياط مجهزة بالخيل والمركبات وكلها على أهبة الرحيل, فكانت تتعالى إذ ذاك أصوات عويل النساء في شوارع نينوى فيأخذن في البكاء واللطم على الصدور والوجوه حزنا على رحيل أزواجهن ومهج نفوسهن.
ومن ثم تخرج مركبة الملك فتسير على أرصفة المدينة بقرقعة وهي بعيدة عن غبار مركبات الجنود تتبعها مركبات الامتعة اللازمة لراحته, وكان يرافق الملك رئيس ديوانه لتدوين أخبار الحملة, فيصف شجاعة الملك وكيف أنه ترجل وحمل في محفة على الأكتاف عند سفوح الجبال وكيف لما تعذر السير على هذه الطريقة تسلق على أقدامه العقاب وكيف روى غليله من العطش في قربة الجلد.
واذا اعترض طريق الجند نهرا, كانوا يلجأون اولا الى إله النهر فيستعطفونه بتوسلات أمواجه لكيلا يأخذ ضريبة من أرواح البواسل الذين يعبرونه. ومن ثم يشرع البناؤون من الجنود في أنشاء جسور عائمة من قرب جلدية مملؤة بالهواء مشدودة ببعضها, واما الأشداء من أفراد الجيش فكانوا يجتازونه سباحة على عوامات من الجلد.
كان اعتماد الآشوريين في تموين الجيش وامداده بالذخائر على سلب الفلاحين ونهبهم في البلاد التي يجتازونها شأن غيرهم من الجيوش الشرقية, فكانت ترسل مفارز من الجند الى القرى المجاورة للتفتيش عن عنابر القمح المخبأة في جوف الارض.
واذا ما صار الجيش على بعد رمية سهم من العدو يعسكر في مواضع محصنة بالابراج والقلاع تضرب فيها الخيام لإتقاء حرارة الشمس أو مطر الشتاء وريحه فيدخلها آمنا مع كامل معداته وذخائره. وكان موضع الملك يشيد في المكان الاكثر أمنا, ويجهز تجهيزا كاملا لا ينقصه شيء حتى من أصنامه وهياكله. وأما العدو فكان يحتشد في حصون مدينته هازئا من وراء قلاعه المنيعة بالمهاجمين, فيحيط اذ ذاك رماة السهام بأسوار المدينة احاطة السوار بالمعصم مستخفين بجبن أعدائهم, ويأخذون في رشق الاعداء بنبالهم من وراء مجانيق قوية بينما الرماة بالمقاليع يمطرون المحاصرين من بعيد بوابل من القذائف. !
ولا يمر كثيرا على هذه الحال حتى تتقدم المجانيق وغيرها من آلات الهدم والتخريب لدك أبواب المدينة دكا, وعبثا كان يحاول اذ ذاك المدافعون صد أعمال المجانيق أو عرقلتها بالسلاسل. وفي هذه الآونة كانت تنسل فصيلة من الجنود البنائين الى مقربة من الأسوار وتأخذ في نزع الآجر من الأسوار لفتح ثلمة يلج منها من يود أن يكون أول الداخلين الى المدينة قصد النهب والسلب. وفي تلك الساعة الرهيبة كان يحلّ البلاء ويزول الرجاء فتبدو علائم النصر والظفر في جانب الآشوريين وترتفع عندئذٍ الأصوات صارخةً أحرقوا المدن ! أنزلوا الويل بالمدينة والحقل ! الويل للمغلوب ! ولا تسل عما يحدث بعدئذٍ من الفظائع . زعماء وقوات يعذبون ، ثائرون يعدمون ، نساء حسان تخطف ، ومن تبقى من الأهالي يبعد الى اماكن بعيدة لإتقاء شرهم فيسود النهب والسلب والحرق ويرجع الظافرون بالأسلاب التي جمعها من المغلوبون التعساء بكدّ وجد في أيام الرخاء ولا عجب في ذلك كله لان هذا جزاء من يحاول ان يسخط الاله آشور والآلهة عشتاروت العظيمة !
كان الملك الآشوري ينظر الى الحرب والصيد نظره الى اللهو والسلوى فيختار احدهما اذا ما شعر بحاجة الى الانشراح وقت الفراغ !!
أجل ان صيد الاسود في الساحة المجاورة لجنائن القصر كان عند الملك من أهم بواعث السرور العظيم في أيام السلم، واذا كان الكريتيون,,اهالي كريت ,, يسرّون بمصارعة الثيران فالآشوريون كانوا يؤثرون الاسود على غيرها في ألعاب الميدان .
ومتى خطر على بال الملك الصيد ،كان ينتشر حرس مسلحون حول الساحة لإخلائها وحجز الاسود في نطاقها، ومن ثم كان يؤتى بالوحوش في أقفاص ويطلق سراحها بعد ما يكون الملك قد تهيأ في مركبته أو أمتطى جواده معداً للأمر عدته . وقد أراد أحد الرسامين الملاّقين ان يظهر سيده آشور بانيبال بمظهر القوة الدالة على عافية تامة فصوره ماسكاً بيده ذنب اسد … ومتى فرغ الملك من الصيد كانت تجمع الأشلاء لتقدم ذبيحة الشكران على هذه السلوى العظيمة الى الآلهة عشتاروت …
المصادر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هنري ساكز ـــ قوة آشورـــ لندن ـــ1957
س . سمث ـــ فصول التاريخ البابلي ـــ لندن ــ 1924
اي ــ كي ــ غرسون ــ الآشورية والبابلية(سقوط نينوى) ـــ نيويورك ــ1975
جيو وايد نغرين ـــ عناصر رافدية ـــ السويد ــ 1961