مقتل الملك غازي
أولاً:بريطانيا ونوري السعيد وعبد الإله يتآمرون على الملك غازي:
لم تكن بريطانيا راضية عن تولي [الملك غازي] المُلك بعد وفاة والده الملك فيصل الأول، فقد أصيبت بخيبة أمل كبيرة منه أثناء توليه منصب [ نائب الملك] ،بحكم كونه ولياً للعهد، أثناء غياب والده عن البلاد، والأسلوب الذي اتبعه في معالجة قضية ثورة لآشوريين بقيادة المار يوسف].
كما أن بريطانيا كانت تراقب العلاقات المتنامية بين الملك غازي ودكتاتور ألمانيا [ أودولف هتلر] بشئ كبير من الشك والريبة، خوفاً من أن تحصل ألمانيا على موطئ قدم لها في العراق، ومنطقة الخليج الغنية بالنفط .
كما كانت محاولة الملك غازي احتلال الكويت بالقوة أثناء غياب رئيس الوزراء نوري السعيد، والذي كان قد سافر إلى لندن لحضور مؤتمر حول القضية الفلسطينية، في 7 شباط 1939، حيث كان قد استدعى رئيس أركان الجيش الفريق [حسين فوزي ] عند منتصف الليل،وكلفه باحتلال الكويت فوراً، كما اتصل بمتصرف البصرة، داعيا إياه إلى تقديم كل التسهيلات اللازمة للجيش العراقي للعبور إلى الكويت واحتلالها.(1)
وهكذا تجمعت كل تلك العوامل لتفعل فعلها في تصميم بريطانيا على التخلص من الملك غازي بأسرع ما يمكن، وكان رجل مهماتها الكبرى [نوري السعيد] ،الذي حاول بكل جهده منع الملك غازي من تولي العرش بعد وفاة والده الملك فيصل، واستبداله بالأمير[ زيد] عم الملك غازي على كامل الاستعداد لتنفيذ مهمة التخلص من الملك غازي بالتعاون مع[عبد الإله] وشقيقته [ الملكة عالية ] زوجة غازي التي كان قد هجرها دون أن يطلقها بصورة رسمية.
كانت هناك الكثير من الدلائل التي تشير إلى النية للتخلص من الملك ، فقد ذكر السفير البريطاني [ باترسن ] في كتابه
Both sides of Curtain
حول تصرفات غازي ما يلي :
{ لقد أصبح واضحا للعيان أن الملك غازي إما يجب أن يُسيطر عليه، أو أن ُيخلع من العرش، وقد ألمحت إلى ذلك، وبهذا المقدار في زيارتي الوداعية للأمير عبد الإله }!!. (2)
أما العقيد صلاح الدين الصباغ فيذكر في مذكراته [ فرسان العروبة] أن نوري السعيد الذي كان يقيم في القاهرة كان قد أرسل إليه، والى العقيد فهمي سعيد، ولده صباح، بعد مقتل بكر صدقي بأسبوعين ليستفسر منهما عما إذا كانا يريان قتل الملك غازي، وإلحاقه ببكر صدقي، وتخليص البلاد من عبثه أمرٌ ممكن !!.
وقد رد عليه فهمي سعيد بصوت جهوري قائلاً:
{ لا يا صباح لن يحدث هذا أبداً}.
أما صلاح الدين الصباغ فقد رد عليه قائلاً:
{ أما بصد اغتيال الملك غازي، فنحن أبعد الناس إلى التطرق لمثل هذا العمل، ولا نسمح بأن يذكر أمامنا، ونصيحتي لكَ أن لا تكرر ما قلته لي وأن لا تفاتح به أحد بعد اليوم}. (3)
وجم صباح السعيد وتلعثم، وأدرك خطورة ما تفوه به أمام الصباغ وفهمي سعيد عن أفكار والده نوري السعيد.
وتطرق توفيق السويدي إلى نفس الموضع في مذكراته المعنونة [ نصف قرن من تاريخ العراق، والقضية العربية] قائلاً:
{أتذكر بهذا الصدد أنني عندما كنت في لندن،والتقيت بالمستر[ بتلر] وكيل وزير خارجية بريطانيا الدائم، وقد أبدى لي شكوى عنيفة من تصرفات الملك غازي فيما يتعلق بالدعاية الموجهة ضد الكويت من إذاعة قصر الزهور، وقال لي بصراحة:
{إن الملك غازي لا يملك القدرة على تقدير مواقفه لبساطة تفكيره، واندفاعه وراء توجيهات تأتيه من أشخاص مدسوسين عليه، إن الملك بعمله هذا يلعب بالنار، وأخشى أن يحرق أصابعه يوماً ما}. (4)
كما استدعى الملك غازي صباح اليوم التالي نائب رئيس الوزراء [ناجي شوكت] بحضور وزير الدفاع، ووكيل رئيس أركان الجيش، ورئيس الديوان الملكي، وأبلغهم قراره باحتلال الكويت، لكن ناجي شوكت نصحه بالتريث، ولاسيما وأن رئيس الوزراء ما زال في لندن، وأبلغه أن العملية سوف تثير للعراق مشاكل جمة مع بريطانيا، والمملكة العربية السعودية وإيران، واستطاع ناجي شوكت أن يؤثر على قرار الملك غازي، وتم إرجاء تنفيذ عملية احتلال الكويت. (5)
فلما عاد نوري السعيد إلى بغداد، وعلم الأمر، سارع بالاتصال بالسفير البريطاني، وتداول معه عن خطط الملك غازي، فكان قرار الاثنان التخلص من الملك بأسرع وقت ممكن، وهذا ما صار بعد مدة وجيزة ،حيث جرى تدبير خطة لقتل الملك والتخلص منه، والمجيء بعبد الإله وصياً على العرش، نظراً لصغر سن ولده الوحيد [فيصل الثاني] الذي كان عمره لا يتجاوز الخمس سنوات آنذاك. (6)
ثانياً : مقتل الملك غازي :
في صباح يوم الخامس من نيسان 1939 فوجئ الشعب العراقي ببيان رسمي صادر عن الحكومة نقلته إذاعة بغداد جاء فيه :
{ بمزيد من الحزن والألم، ينعي مجلس الوزراء إلى الأمة العراقية انتقال المغفور له سيد شباب البلاد [جلالة الملك غازي] الأول إلى جوار ربه، على اثر اصطدام السيارة التي كان يقودها بنفسه بالعمود الكهربائي الواقع في منحدر قنطرة [نهر الخر]،بالقرب من [قصر الحارثية] في الساعة الحادية عشرة والنصف من ليلة أمس.
وفي الوقت الذي يقدم فيه التعازي الخالصة إلى العائلة المالكة على هذه الكارثة العظمى التي حلت بالبلاد يدعو الله سبحانه وتعالى أن يحفظ للمملكة نجله الأوحد جلالة الملك فيصل الثاني، ويلهم الشعب العراقي الكريم الصبر الجميل، وإننا إلى الله وإننا إليه راجعون}. (7)
بغداد في 4 نيسان 1939
لم يكد خبر مقتل الملك غازي يصل إلى أسماع الشعب حتى هبت الجماهير الغاضبة في مظاهرات صاخبة اتجهت نحو السفارة البريطانية وهتافات التنديد بالإمبريالية البريطانية ورجل مهماتها الكبرى [نوري السعيد] تشق عنان السماء، وامتدت المظاهرات الشعبية الهادرة إلى سائر المدن العراقية من أقصاه إلى أقصاه، وظهرت المنشورات التي وزعتها الجماهير، والتي تقول أن الملك لم يصطدم بالسيارة كما تدعي حكومة نوري السعيد، وإنما قتل بعملية اغتيال دبرتها الإمبريالية البريطانية ورجالها، وعلى رأسهم نوري السعيد بالذات، وكانت الجماهير بحالة من الغضب الشديد بحيث أنها لو ظفرت بنوري السعيد في تلك اللحظات لفتكت فيه ومزقته إرباً، ولذلك فقد هرب نوري السعيد، بعد إتمام مراسيم دفن الملك غازي في المقبرة الملكية في الاعظمية، حيث استقل زورقاً بخارياً من المقبرة إلى داره في جانب الكرخ.
حاول الإنكليز إبعاد التهمة عنهم، وادعوا أن الدعاية الألمانية هي التي تروج مثل هذه الدعاية ضد بريطانيا، كما ادعوا أن موظفي السفارة الألمانية، والأساتذة الجامعيين، هم الذين يحرضون جماهير الشعب ضد بريطانيا، وضد حكومة نوري السعيد.
كان رد فعل الجماهير الشعبية في الموصل شديداً جداً، حيث خرجت مظاهرة ضخمة، وتوجهت نحو القنصلية البريطانية وهاجمتها، وقتلت القنصل البريطاني في الموصل، المستر [مونك ميسن ]، وكانت الجماهير تهتف بسقوط الاستعمار البريطاني، وحكومة نوري السعيد ، وكانت الجماهير بحالة من الغضب الشديد بحيث أنها لو ظفرت بنوري لمزقته.
لكن ما يؤسف له هو قيام الجماهير الغضبة بمهاجمة الحي اليهودي في بغداد والموصل، ووقوع عمليات النهب، وحرق مساكن اليهود.
استغل نوري السعيد الأحكام العرفية التي كانت قد أعلنت في البلاد قبل شهر من مقتل الملك، وقام بنشر أعداد كثيفة من قوات الشرطة لقمع المظاهرات، وجرى اعتقال الكثير من المتظاهرين. ولتغطية جريمة الاغتيال سارعت حكومة نوري السعيد إلى إصدار بيان رسمي يتضمن تقريراً طبياَ صادراَ عن هيئة من الأطباء عن سبب وفاة الملك غازي، وجاء في البيان ما يلي :
{ ننعي بمزيد من الأسف وفاة صاحب الجلالة الملك غازي الأول، في الساعة الثانية عشرة والدقيقة الأربعين من ليلة 3 / 4 نيسان 1939 متأثراً من كسر شديد للغاية في عظام الجمجمة، وتمزق واسع في المخ، وقد حصلت هذه الجروح نتيجة أصطدم سيارة صاحب الجلالة عندما كان يسوقها بنفسه بعمود كهرباء بالقرب من قصر الزهور في الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً، وفقد الملك شعوره مباشرة بعد الاصطدام ولم يسترجع وعيه حتى اللحظة الأخيرة}. (8)
3 /4 نيسان 1939
الدكتور جلال حمدي الدكتور صبيح وهبي الدكتور سندرسن
الدكتور صائب شوكت الدكتور أبراهام
وعلى اثر إعلان وفاة الملك غازي، تولى مجلس الوزراء حقوق الملك الدستورية، وفقاً للمادة 22 من الدستور، وجرى الإعلان عن تولى الملك فيصل الثاني الملك،على أن يسمى وصياً عليه، نظراً لصغر سنه، بعد دعوة مجلس النواب الذي سبق أن صدرت الإرادة الملكية بحله، وقرر مجلس الوزراء تعين الأمير عبد الإله وصياً على العرش، وادعى نوري السعيد أن ذلك القرار كان بموجب وصية الملك غازي نفسه،غير أنه لم يثبت أن هناك أي وصية من هذا القبيل، وكان معروفاً آنذاك أن الملك غازي كان يكره عبد الإله كرهاً شديداً، ولذلك فلا يعقل أن يوصي بالوصاية لعبد الإله ويأتمنه على طفله، كما أن الملك غازي كان حسبما ورد في التقرير الطبي قد فقد شعوره فوراً ولم يسترجعه حتى وفاته.
والحقيقة أن وصاية عبد الإله قد رتبت من قبل السفارة البريطانية وحكومة نوري السعيد. (9)
كما أن أحداً لم يقتنع بما أذاعته الحكومة عن اصطدام سيارة الملك ومقتله في الحادث، وهناك شواهد عديدة على أن الملك قد قتل نتيجة تدبير مؤامرة حبكتها السفارة البريطانية، وجرى تنفيذها من قبل نوري السعيد وعبد الإله، وأهم الشواهد على ذلك ما يلي:
1 ـ قبل مقتل الملك بتسعة أشهر، وبالتحديد في 18 حزيران 1938، وُجد خادم الملك غازي الشخصي مقتولاً داخل القصر، وجاء تقرير خبير التحريات الجنائية البريطاني أن القتل كان نتيجة إطلاق النار بالصدفة من مسدس القتيل نفسه !!.
سبّب قتل الخادم رعباً في نفس الملك غازي لازمه لأيام، وبدأت الشكوك تنتابه حول مؤامرة لقتله فيما بعد، وكان شكّ الملك يحوم حول عبد الإله ونوري السعيد، وزوجته الملكة عالية ـ شقيقة عبد الإله ـ المنفصل عنها بصورة غير رسمية، وكانت تضمر له الكراهية والحقد. (10)
2ـ إن أي حادث لسيارة يؤدي إلى الوفاة،لابد أن تكون إصابة السيارة شديدة وكبيرة، إلا أن الواقع كان عكس ذلك تماماً، فقد كانت الأضرار التي لحقت بالسيارة طفيفة جداً، وهذا ما يثير الشكوك حول حقيقة مقتل الملك.
3ـ كان بمعية الملك في السيارة كل من خادمه، وهو شقيق الخادم السابق القتيل، وعامل اللاسلكي، جالسين في المقعد الخلفي بالسيارة، ولكنهما اختفيا في ظروف غامضة، ولم يعرف أحد عن مصيرهما نهائياً، وقد أثارت عملية اختفائهما شكوكاً كبيرة حول مقتل الملك، وحول صدقيه حادث الاصطدام، واستمرت تلك الشكوك تحوم حول عبد الإله ونوري السعيد والسفارة البريطانية.
فقد ذكر الفريق نور الدين محمود، الذي كان قد شغل منصب رئيس أركان الجيش ثم رئيساً للوزراء عام 1952 حول حقيقة مقتل الملك غازي ما يلي:
{ إنه اصطدام غامض وعويص، لا يسع الإنسان مهما كان بسيطاً في ملاحظته إلا أن يكذّب زعم الحكومة وهو يقارنه بالأدلة التي يراها في مكان الحادث}. (11)
أما العقيد صلاح الدين الصباغ فيقول في مذكراته:
{ قضت المصالح البريطانية اغتيال الملك غازي، فتم في ليلة 3 / 4 نيسان 1939 وهو في السابعة والعشرين من عمره}. (12)
ويقول الأستاذ [ جان ولف ] في كتابه [ يقظة العالم العربي ] :
{ مات الملك غازي على أثر حادث غريب، فقد اصطدمت سيارته دونما سبب وجيه، بينما كان يقودها بسرعة معقولة، فتعالى الهمس في بغداد بين أبناء الشعب متهمين بعض الجهات بتدبير الحادث}. (13)
وقال الأستاذ [كارتاكوز ] في كتابه [ ثورة العراق ] ما يلي :
{ لعل مأثرته الرئيسية ـ يقصد الملك غازي ـ انه قد لاقى حتفه بشكل عنيف في حادث سيارة يٌعتقد أن البريطانيين وأعوانهم من العراقيين هم الذين فعلوه}. (14)
وجاء الدليل القاطع بعد سنوات طويلة، عندما التقى الأستاذ [عبد الرزاق الحسني] مؤلف تاريخ الوزارات العراقية في 8 نيسان 1975 بالدكتور [صائب شوكت ] طبيب الملك غازي الخاص، وأول من قام بفحصه قبل وفاته، وسأله عن حقيقة مقتله فأجابه بما يلي:
{ كنت أول من فحص الملك غازي بناء على طلب السيدين [نوري السعيد] و[رستم حيدر] لمعرفة درجة الخطر الذي يحيق بحياته، وأن نوري السعيد طلب إليّ أن أقول في تقريري أن الحادث كان نتيجة اصطدام سيارة الملك بعمود الكهرباء. وأنا أعتقد أنه قد قتل نتيجة ضربة على أم رأسه بقضيب حديدي بشدة، وربما استُخدم شقيق الخادم الذي قُتل في القصر، والذي كان معه في السيارة لتنفيذ عملية الاغتيال.
فقد جيء بالخادم فور وقوع العملية إليّ وكان مصاباً بخلع في ذراعه، وقمت بإعادته إلى وضعه الطبيعي، ثم اختفي الخادم ومعه عامل اللاسلكي منذ ذلك ليوم وإلى الأبد، ولا أحد يعرف عن مصيرهما حتى اليوم. (15)
كما التقى السيد عبد الرزاق الحسني بالسيد [ ناجي شوكت ] الذي كان وزيراً للداخلية آنذاك وسأله عن حقيقة مقتل الملك غازي ما يلي:
{ لقد احتفظت بسر دفين لسنين طويلة، وها قد جاء الآن الوقت لإفشائه، كانت آثار البشر والمسرة طافحة على وجوه نوري السعيد، و رستم حيدر، ورشيد عالي الكيلاني، وطه الهاشمي، بعد أن تأكدوا وفاة الملك، وكان هؤلاء الأربعة قد تضرروا من انقلاب بكر صدقي، واتهموا الملك غازي بأنه كان على علم بالانقلاب، وأنا أعتقد أن لعبد الإله ونوري السعيد مساهمة فعلية في فاجعة الملك غازي}. (16)
وهكذا أسدل الستار على مقتل الملك غازي، وتم نقل جثمانه إلى المقبرة الملكية في الأعظمية، في الساعة الثامنة من صباح يوم الخامس من نيسان على عربة مدفع، وسط موجة من الهياج اجتاحت جماهير بغداد الغاضبة، والمنددة بالاستعمار البريطاني وأعوانه القتلة، وانهمك المتآمرون بعد دفنه، بترتيب الأمور لتنصيب عبد الإله وصياً على العرش وولياً للعهد.
ثالثاً: فيصل الثاني ملكاً، وعبد الإله وصياً على العرش وولياً للعهد:
كان مقتل الملك غازي هو الجانب الأول من مؤامرة نوري السعيد وأسياده الإنكليز، وكان الجانب الثاني يتمثل بتنصيب عبد الإله وصياً على العرش وولياً للعهد. فمنذ الساعات الأولى لمقتل الملك غازي عمل نوري السعيد جاهداً ليقنع مجلسا النواب والأعيان، والشعب العراق بما ادعاه بوصية مزعومة للملك غازي بتكليف عبد الإله بالوصاية على العرش فيما إذا حصل له أي مكروه له.
إلا أن[ طه الهاشمي] قال في مذكراته:
{أن الوصية التي عزاها نوري السعيد إلى الملك غازي كانت مزيفة دون شك }. (17)
أما وزير الدولة السيد [ علي الشرقي ] فيقول في كتابه [الأحلام ] ما يلي: { أوعز نوري السعيد إلى الملكة عالية أن ترفع كتاباً إلى مجلس الوزراء المنعقد للنظر في إقامة وصي على العرش تشهد فيه أن الملك غازي قد أوصاها أن يكون عبد الإله وصياً على العرش إذا ما حدث له أي مكره}. (18)
وقال السفير البريطاني [ سندرسن ] في كتابه
[Both Side of Curtain]:
{ كان معروفاً أيضاً أن الإنكليز كانوا يميلون إلى عبد الإله أكثر من ميلهم إلى الملك غازي }. (19)
ويقول الدكتور [ صائب شوكت ] طبيب الملك غازي الخاص ما يلي:.
إنه عندما تأكد من وفاة الملك غازي، كان عبد الإله وتحسين قدري بالقرب مني. دنا تحسين قدري مني وهمس في آذني أن الأمير عبد الإله يرجوك بأن تقول بأن الملك أوصاك قبل وفاته بأن يكون عبد الإله وصياً على ولده الصغير فيصل، ولكني رفضت ذلك رفضاً قاطعاً قائلاً له:
إن الملك غازي كان فاقداً الوعي فور وقوع الحادث وحتى وفاته}.(20)
ويقول طبيب الملك البريطاني [ سندرسن ] في كتابه المعنون:
[Thousand and One Night] حول مقتل الملك :
{ في خلال 20 دقيقة من وفاة الملك غازي طلب إليّ[ رستم حيدر] أن أعلن أن الملك غازي قبل أن يموت قد عّبر عن رغبته بأن يتولى عبد الإله السلطة كوصي على العرش،غير أني رفضت أن أفعل ذلك، لأن الملك لم يستعيد وعيه لحظة واحدة، وحتى لو ارتكبت جريمة مثل هذا الإدعاء الكاذب فلابد أن يكون هناك الكثير من المستعدين لتكذيبه}. (21)
ورغم كل ذلك فقد اجتمع مجلس الوزراء، واتخذ قراره بتولي عبد الإله الوصاية على العرش وولاية العهد، ودعا نوري السعيد مجلسا النواب والأعيان إلى عقد جلسة مشتركة في يوم الخميس المصادف 6 نيسان 1939، وكان عدد الحاضرين 122عضواً فقط من مجموع المجلسين، وكلهم من مؤيدي نوري السعيد، حيث قاطع الجلسة عدد كبير من النواب والأعيان لكي لا يكونوا شاهدي زور على جريمة الاغتيال، وقد عرض عليهم نوري السعيد قرار مجلس الوزراء، وتمت الموافقة عليه بإجماع الحاضرين، وبذلك تم تنصيب عبد الإله وصياً على العرش ،وولياً للعهد.
رابعاً: نوري السعيد يقدم استقالة حكومته،وتكليفه من جديد
على اثر انتخاب عبد الإله وصياً على العرش، قدم نوري السعيد استقالة حكومته في 6 نيسان 1939، وتم قبول الاستقالة، وعلى الفور كلف عبد الإله نوري السعيد من جديد بتأليف الوزارة التي جاءت على الشكل التالي:
1 ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء ووزيراً للخارجية .
2 ـ ناجي شوكت ـ وزيراً للداخلية.
3 ـ رستم حيدر ـ وزيراً للمالية .
4 ـ محمود صبحي الدفتري ـ وزيراً للعدلية .
5 ـ طه الهاشمي ـ وزيراً للدفاع .
6 ـ عمر نظمي ـ وزيراً للاقتصاد والمواصلات .
7 ـ صالح جبر ـ وزيراً للمعارف .
وهكذا جاءت الوزارة من نفس الأعضاء السابقين باستثناء إضافة ناجي شوكت لوزارة الداخلية، حيث استوزره نوري السعيد لكونه شقيق طبيب الملك غازي الخاص[ صائب شوكت] لكي يأمن من عدم فضح صائب شوكت لدوره في مقتل الملك غازي، وفرض عبد الإله وصياً على العرش بأساليب الكذب والافتراء. (22)
خامساً: السعيد يحل البرلمان ويجري انتخابات جديدة:
كانت أولى المهام التي أخذ نوري السعيد على عاتقه تحقيقها هي إجراء انتخابات جديدة. فقد سبق أن حصل إرادة ملكية بحل البرلمان في أواخر أيام الملك غازي، لكي يؤمن لوزارته الأغلبية المطلقة، ويصبح طليق اليدين للمهمات الخطيرة التالية، والتي كان على رأسها مشروعه للتآمر على سوريا، ومحاولة ضمها إلى العراق. وبعد أن تم له ما أراد وأجرى الانتخابات في 29 نيسان 1939 بأسلوبه المعروف في التزوير والممارسات غير المشروعة، وجاء بالمجلس كما يريده، عقد المجس أولى جلساته في 12 حزيران بحضور عبد الإله، الذي ألقى خطاب العرش لأول مرة، ودافع في ذلك الخطاب عن إجراءات نوري السعيد ضد حكمت سليمان، والضباط الموالين للفريق بكر صدقي، بدعوى وجود المؤامرة السالفة الذكر. كما برر إعلان الأحكام العرفية في الموصل، إثر مقتل القنصل البريطاني فيها، بعد إعلان مقتل الملك غازي، وإحالة أعداد كبيرة من المواطنين الموصليين إلى المجالس العرفية التي أصدرت بحقهم الأحكام الجائرة والقاسية، والتي وصلت إلى حد الحكم بالإعدام على بعضهم. كما برر عبد الإله لجوء نوري السعيد إلى حل المجلس النيابي، وإجراء انتخابات جديدة.
سادساً:السعيد وعبد الإله يتآمران على سوريا لضمها للعراق
بعد أن انتهى نوري السعيد من الانتخابات، وأمّن له الأغلبية المطلقة في المجلس أنصرف إلى المهمة الأساسية والخطيرة، إلا وهي مشروعه للتآمر على سوريا ومحاولة ضمها إلى العراق بالقوة.
كان باكورة مشروعه تكليف وزير الداخلية[ ناجي شوكت] بالسفر إلى تركيا، واستطلاع موقفها من مشروعه، وبالفعل غادر ناجي شوكت إلى تركيا، وأجرى محادثات مع أركان الحكومة التركية حول المشروع، ولم تعارض الحكومة التركية رغبة نوري السعيد بضم سوريا، بعد أن ضمنت لنفسها ضم لواء الاسكندرون السوري إليها. (23)
وفي الوقت الذي كان ناجي شوكت في تركيا يجري مباحثاته مع الحكومة التركية،أجرى نوري السعيد تعديلاً على وزارته، أخرج بموجبه ناجي شوكت من وزارة الداخلية وأسندها لنفسه، كما أسند وزارة الخارجية التي كانت بعهدته إلى [علي جودت الأيوبي ]، وهكذا تخلص نوري السعيد من ناجي شوكت، ولما يمضي على تشكيل الوزارة سوى أيام قلائل، وهذا ما يؤكد كون نوري السعيد استوزر[ ناجي شوكت] حينذاك لغرض في نفسه. (24)
وفي 10 تموز من ذلك العام قُتل مدير الشرطة العام [ هاشم العلوي ] في الرطبة،عندما كان في طريقه إلى لبنان، وأحيط مقتله بظروف غامضة، حيث قالت الحكومة أنه انتحر، ولكن الحقيقة التي كان يتداولها العارفون ببواطن الأمور آنذاك يقولون أن هاشم العلوي كان يعرف أسرار مقتل الملك غازي، وأراد نوري السعيد أن يتخلص منه بأسرع وقت خوفاً من أن يقوم بإفشاء تلك الأسرار لدى وصوله إلى لبنان، نظراً لكونه كان يشغل أعلى منصب أمني في البلاد، وانه كان مطلعاً على كل شيء. (25)