إنها المرة الأولى في كل شيء، ليس ابتداءً بفوز الموسيقى عن فرع الآداب بجائزة نوبل السويدية، وليس انتهاءً بتغيير الأكاديمية موعد تسليم جائزة الآداب، لتكون الأخيرة تسليمًا من بين جوائز نوبل العريقة هذا العام.
ينتبه الناس لفروع نوبل الأخرى، يكتبون قليلاً عن الفائز بجائزة الطب، وأقل قليلاً عن الفائز بفرع الاقتصاد، ويستمرون بالحديث أيامًا عن كل فرع، لكن القارات تسهر ليلة إعلان نوبل للآداب، ويسهر الناشرون، ولا ينام الشعراء والروائيون في تلك الليلة الطويلة من خريف كل عام.
كان محمود درويش ساخرًا وهو يقول في آخر مقابلاته حين سئل عن تطلعه لجائزة نوبل: «لست مهتمًا، ولا أصاب بالحمى التي تصيب صديقًا لي في كل خريف».
ذهب المفسرون والساخرون، يومها، إلى أن محمود، كان يقصد أدونيس، وقد تحسب لدرويش هذه النكتة التي أصبحت شائعة في خريف كل عام.
كتب كثيرون عن أدونيس، منذ بدأت أوراق الشجر تتساقط هذا العام، بعضهم سخر من تحيزه للدم وتلطيخه بالأدب، بينما لم يكن ثمة مرشح عربي آخر هذه السنة.
بنظارة سوداء، وجيتار معلق على الكتف، قادمًا من حدود كندا الباردة، تاركًا خلفه تاريخًا من جولات الأغاني، في الحانات الخلفية في نيويورك، راسمًا صوته كمعارضٍ دائم، وكاتبٍ لكلمات تناهض العنصرية، وتقف مع الأقليات وتندد بأميركا، التي تقصف في الخارج، فتزيد من عزلة المواطن الأميركي في الداخل.. غنى بوب ديلان لخمسين خريفًا.. حتى أينعت الأزهار هذا العام!
اشتهر ديلان منذ مطلع الستينات. أثارت كلماته نفوس الشباب، حيث كافح الحروب والدمار، من خلال صوته الأجش، وأغانيه المثقفة، فمن بين أغاني الألبوم الأول له «في مهب الريح»، يقول: «وكم من القنابل ينبغي أن تقذفها المدافع.. قبل أن تُحظرَ إلى الأبد؟»، فأشارت «الإندبندنت» إلى تلك الأغنية خلال موضوع نُشر لها بعنوان «70 سببًا لأهمية ديلان في تاريخ البوب الأميركي»، وجاءت الأغنية ضمن تلك الأسباب السبعين.
أصبح ديلان الأميركي الأول الذي يربح جائزة نوبل للأدب، منذ حصول توني موريسون – أول روائية أميركية سوداء – تحصل على الجائزة في 1993. يأتي انتصاره بعد تعليقات من هوراس إنجدال، السكرتير الدائم للجنة تحكيم جائزة نوبل حينها، إذ قال إن «الولايات المتحدة منعزلة جدًا، ومنفصلة جدًا. إنهم لا يترجمون بما يكفي، ولا يشاركون حقًا في حوار الأدب الكبير.. ذلك الجهل المقيّد».
بررت الأكاديمية السويدية، مفاجأتها هذا العام، بتبريرات كثيرة، لكن أجملها كان تعليقًا مفاده: «إنه يكتب أغاني للأذن»، والأذن تعشق قبل العين أحيانًا، وحين اشتد الحوار، نصحت سارة دانيوس – رئيسة الأكاديمية السويدية – من لا يعرفون أعمال ديلان، وأنا منهم، بالبدء بألبوم صدر في عام 1966، بعنوان: «بلوند أون بلوند».
ثم قالت: «إنه مثال غير عادي على طريقته العبقرية في النَظْم، وتركيب اللازمة، وطريقته الصورية في التفكير»، واعترفت بأنها عندما كانت صغيرة لم تكن حقًا من معجبي ديلان، وكانت تفضل أعمال ديفيد باوي، خاتمة بالقول: «أعتقد أن المسألة مسألة أجيال – اليوم أنا من محبي بوب ديلان».
لم ينتصر ديلان فقط للموسيقى، التي ظُلمت كثيرًا، بوصفها أعظم الفنون، حتى قبل المسرح، بل انتصر للشعر الغنائي، وقدرته على التطور حينًا بعد حين، وانتصر على قدرة المثقف على التعبير، ولو بأغنية، لن يسمعها أحد، كما قال ديلان نفسه، ذات تصريح.
الموسيقى هي الوطن الأول، واللغة البكر بين كل اللغات، والوعاء الكوني الأجمل. الموسيقى أولاً، ولو جاءت متأخرةً، مفاجئةً في الليلة الأخيرة من ليالي خريف نوبل.
* نقلا عن “الشرق الأوسط”