هذه قصة يعرف البعض أجزاءاً منها ولكنني سمعتها مباشرةً من أحد طرفيها الرئيسيين، فارتأيت روايتها لأنها فصل معَبٍر وساخر من تاريخ بلدنا.
زارنا في أواخر ستينات القرن الماضي في بيروت أحد سياسيي حلب المشهورين في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، السيد أحمد قنبر.
سألته عن واقعة لقائه بحسني الزعيم بعد انقلابه الشهير فحدثني بإسهاب قائلاً:
كان الزعيم ضابطاً جسوراً وطموحاً ومتهوراً في جيش الشرق الذي شكّلَه الفرنسيون أثناء الإنتداب، وكان يقود كتيبة من الجند التي تعسكر في لواء اسكندرون، فسمع عن حفلة يقيمها الضباط الفرنسيون في أنطاكية وبما أنه كان يجيد الفرنسية كأبنائها فقد قرر الإنضمام إلى الحفل.
في الحفل استرعت انتباهه سيدة جميلة هي زوجة قائد الموقع الفرنسي فدعاها لكي ترقص معه، فأجابته بإزدراء:
Je ne danse pas avec un salaud Syrien.
أنا لا أرقص مع نذل سوري.
صعد الدم الى رأسه وانسحب ليحضر كتيبته ويحاصر مكان الحفل ثم دخل مع جنوده وسط دهشة الضباط الفرنسيين، وتقدم من السيدة نفسها وقال:
Putain, viens danser avec moi !
أيتها العاهرة، تعالي وارقصي معي !
وأمام الخطر الداهم، وقفت السيدة فراقصها رقصة قالس ثم رقصة تانغو حتى قُبض عليه.
حُكم بالسجن وأُرسل الى سجن بعلبك حيث جمعته زنزانة واحدة مع أحمد قنبر السجين السياسي الوطني الحلبي.
تصادق الإثنان ولكن الملل الشديد دفعهما الى ابتداع لعبة أوحاها إليهما وجود عِش نمل في الزنزانة.
رسموا خطاً في وسط الزنزانة المستطيلة وصار كل واحد منهما يمسك بنملة في أحد طرفيْ الزنزانة. وكان شرط اللعبة أن يضع كل واحد نملته الى جانبه ثم يطلقها محفزاً إياها بضرب الأرض حولها والصراخ لكي تسبق الأخرى وتقطع قبلها الخط المنصف للزنزانة. وفي كل جولة كان المنتصر يحوز من الآخر على متليك.
قال لي أحمد قنبر،’ كانت نملتي تتهادى دائماً ببطء ولا سبيل الى تسريعها، أما نملة الزعيم فكانت تنطلق كالصاروخ وتكاد تصل الى الخط، لكنها تقرر فجأةً الانعطاف والعودة بالاتجاه المعاكس، لتربح نملتي البليدة تقريباً في كل الجولات.
خرج الاثنان وعاد الزعيم الى جيش الشرق الذي دُمِج بالجيش السوري الوليد بعد الإستقلال، ثم قام بانقلابه الشهير الذي فتح صفحة الإنقلابات المشؤومة في سورية.
وفي صبيحة اليوم الرابع للانقلاب، رَنّ الهاتف في منزل أحمد قنبر في حلب، وقال له المتصل من مكتب الرئاسة:
الزعيم يريد أن يراك، أرسلنا لك سيارة “جيپ ” الى حلب. استقلها فهو بإنتظارك ولا يهم إن وصلت متأخراً.
قال قنبر لنفسه: لا بد أنه تذكّر أيام البهدلة وصداقة الزنزانة وسيعرض عليّ وزارة أو ربما أكثر.
انطلقت الجيپ من حلب بعد الظهر ووصلت الى القصر الجمهوري قبيل منتصف الليل وتقدم قنبر ليفتحوا له مكتب الرئيس، فبادره الأخير بالقول:
أحمد! ما خليت بجيوبي متليك أصفر… تلحس ط…ي، مع السلامة.
صُعق أحمد قنبر لكنه تمالك نفسه وأجاب:
‘كنت لَحِسْني ياها عالتلفون، ضروري تجيبني من حلب؟’.
وعاد خائباً إذ كان يتوقع مثل كثيرين بأنه سيحظى بالتكريم والأوسمة نتيجة خدماته ووطنيته وبفضل … نملة الزنزانة.
وعندما سألته ‘هل انزعجت؟’
قال لي: يا ولدي، منيح هللي انقضت بتلحيسة !!