في المقال السابق, استعرضنا بعض أوجه التناقض في الصورة المرسومة لشخصية يسوع الناصري, وذلك حسب الخلفية الإيدلوجية
لكاتب النص التاريخي المتعلق بهذه الشخصية, ولاحظنا التباين الكبير في الصورة التي ترسمها المصادر اليهودية عن تلك المرسومة في المصادر المسيحية, نتيجة الاختلاف العقائدي بين الفريقين.
وركزنا في المقال السابق ,على ملامح شخصية يسوع الناصري التي رسمتها نصوص الأناجيل القانونية الأربعة فقط واهملنا
– عن قصد- النصوص اليهودية, وكذلك نصوص جميع الأناجيل التي لا تعتمدها الكنيسة, و استعرضنا نماذج مختصرة وسريعة من التناقضات في أقوال يسوع الناصري, وحاولنا التوصل لفهم سبب هذا التناقض المنسوب ليسوع.
في هذا المقال ,سنستكمل بحثنا في نصوص الأناجيل القانونية المعتمدة – والتي تعتبرها الكنيسة جزء من كلمة الله –
وسنحاول مواصلة تتبع جميع أجزاء الصورة التي رسمها كتبة الأناجيل المجهولين – بشكل عام- ونرصد بعض التناقضات التي
نسبتها نصوصهم إلى شخصية يسوع الناصري.
يقول يسوع الناصري, في تعليم شهير تضمنته إحدى تطويباته العديدة ( طوبى لصانعي السلام لانهم ابناء الله يدعون)
لكن المثير للاستغراب أننا نجد في الاناجيل كلام منسوب ليسوع مناقض تماما للمقولة السابقة!
(
لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا) متى 10\34
(أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ؟ كَلاَّ، أَقُولُ لَكُمْ: بَلِ انْقِسَامًا) لوقا 12\ 51
فهل كان يسوع الناصري – كما يقول المثل – يعلم الناس على الصلاة …وهو لا يصلي؟!!
ومن التناقضات اللافتة في شخصية يسوع ,التي تصورها لنا الأناجيل, أننا نرى نفس الشخص الذي تحاول بعض النصوص تصويره على أنه جاء لخلاص كل البشر,
يتعامل – وهو الشاب اليهودي- بتعالي وعنصرية ممجوجة مع امرأة غير يهودية
– سورية- جاءت تتوسل اليه طلبا للمساعدة ,ونتفاجئ بكلام عنصري فج ينسبه كتبة الاناجيل الى يسوع!!
(ليس حسناً أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب) متى 15
والمقصود بالبنين هنا هم قومه اليهود, لانه يعتبر نفسه ويعتبرهم (أبناء الله الحي) …والكلاب هم باقي البشر من غير اليهود!
ولم يساعد يسوع الناصري تلك المرأة السورية المسكينة, الا بعد ان اضطرتها الحاجة, إلى مسح كرامتها – كانسانة- في الأرض والرضوخ لعنصرية يسوع, والقبول
بتوصيف الكلاب لها ولامثالها!
ومما يثير التقزز, هو تبريرات بعض اللاهوتيين المتنطعة لهذا الموقف الصادم والمخجل!, حيث نجدهم يحاولون الخروج من مأزق هذه القصة بادعاء مضحك, وهو
ان يسوع كان يختبر إيمان تلك المسكينة!!
وهي قد نجحت في الاختبار, لانها أرضت غرور وعنصرية السيد بجوابها!!, الذي كان مملوء حسرة وذلة وتسليم للامر الواقع ورضيت ان تكون موصوفة بوصف الكلاب
التي تأكل من بقايا طعام سادتها!!
(فَقَالَتْ: «نَعَمْ،
يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا!) متى 15\26
وإذا كان هذا الموقف العنصري المشين هو مجرد اختبار للإيمان! فهل كان تكرار يسوع وصفه للآخرين بأنهم
( كلاب او خنازير) اختبارا ايضا؟! أم هو تعبير عن نظرة دونية عنصرية لكل مختلف عنه؟ حيث نجده يوصي تلاميذه
(لاَ تُعْطُوا الْقُدْسَ لِلْكِلاَب، وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ، لِئَلاَّ تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ)
متى 6:7
يقول القديس (أغسطينوس) في شرحه لهذا النص العنصري الفج
( إذن لنفهم..ان -الكلاب- تشير إلى مقاومي الحق!..والخنازير إلى محتقريه!)
أي أن كل إنسان لا يقبل ويخضع للحق -كما يقرره المسيحيون- فهو من (الكلاب والخنازير) تطبيقا لقول يسوع الناصري!!
و ننتقل لمشهد آخر, يكشف لنا تباين تصوير النص الإنجيلي ليسوع, الذي كان يعيش حياة الزهد ويفضل الفقراء على نفسه في كل شئ, ويأمر أتباعه ببذل كل
ما لديهم للفقراء إلى درجة أنه طلب من الشاب الغني الذي أراد اتباعه ان يبيع كل أملاكه
(قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَاذْهَبْ وَبعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ،
وَتَعَالَ اتْبَعْنِي)
لكننا نرى في مشهد اخر,يسوع نفسه وهو متكأ وإلى جنبه الصبي(لعازر) متكأ معه! وإحدى النساء تغسل قدمي يسوع بدهن غالي الثمن وتقوم بتدليك قدميه بشعرها
المبلل بالدهن الثمين!!
(فَصَنَعُوا لَهُ هُنَاكَ عَشَاءً. وَكَانَتْ مَرْثَا تَخْدِمُ، وَأَمَّا لِعَازَرُ فَكَانَ أَحَدَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ. فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ
مَنًا مِنْ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ، وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ، وَمَسَحَتْ قَدَمَيْهِ بِشَعْرِهَا، فَامْتَلأَ الْبَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ!!!) يوحنا 12\2-3
هذا المشهد (السلطاني) الباذخ! كان من الطبيعي أن يثير تساؤل تلاميذه واستغرابهم, فلجأ كتبة الإنجيل إلى نسبة التساؤل إلى التلميذ (يهوذا) وشيطنوا
نيته , بعد أن علموا ما في داخل نفسه!!
( فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَهُوَ يَهُوذَا سِمْعَانُ الإِسْخَرْيُوطِيُّ، الْمُزْمِعُ أَنْ يُسَلِّمَهُ:
«لِمَاذَا لَمْ يُبَعْ هذَا الطِّيبُ بِثَلاَثَمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَ لِلْفُقَرَاءِ )
وكذلك نسبوا ليسوع جواب سطحي ومضحك ولا يقنع حتى السذج
(لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ) يوحنا 12\8
والغريب ان هذا المشهد لم يكن موقفا وحيدا او نتيجة لصدفة, وانما نجده يتكرر في مناسبة أخرى, حيث نجد امرأة من صنف النساء الخاطئات (بائعة هوى),
تقوم ايضا بنفس فعل غسل قدمي يسوع بالطيب وهو راضي ومرتاح !!
بل ونجد يسوع يقوم بلوم وتقريع الشخص اليهودي الذي استنكر هذا الموقف, لأن ذلك الرجل اليهودي – المستغرب والمندهش – لم يفعل مثل المرأة, ويبادر
الى غسل قدمي يسوع او يدهن رأسه بالعطور الفاخرة!!
(وَإِذَا امْرَأَةٌ فِي الْمَدِينَةِ كَانَتْ خَاطِئَةً!!، إِذْ عَلِمَتْ أَنَّهُ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِ الْفَرِّيسِيِّ، جَاءَتْ بِقَارُورَةِ طِيبٍ
وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً، وَابْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِالدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِالطِّيبِ!!!) لوقا 7\37
وفي الوقت الذي نقرأ في بعض النصوص, اشارات الى محبة يسوع الناصري للمجموعة التي اتبعته, نجد أيضا نصوص أخرى, تحض على البغضاء لكل انسان مختلف لا
يتطابق إيمانه مع هذه المجموعة, فنحصل على صورة عجيبة وغريبة تجمع في وقت واحد بين المحبة والكراهية في توليفة عقائدية متناقضة منسوبة إلى يسوع الناصري!!
( إِنْ جَاءَ إِلَيَّ أَحَدٌ، وَلَمْ يُبْغِضْ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَزَوْجَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وأَخَوَاتِهِ، بَلْ نَفْسَهُ أَيْضاً،
فَلاَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ تِلْمِيذاً لِي)
لوقا 26:14
وفي يوحنا 15 كلام اخر, فيه تحريض وغرس في أذهان الاتباع ان كل مختلف معهم هو يبغضهم بالضرورة!
(إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم.لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته. ولكن لأنكم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم،
لذلك يبغضكم العالم)
والاغرب اننا نجد نصوص منسوبة ليسوع تحث أتباعه على عدم السلام على أي إنسان يصادفوه في طريقهم
(وَلاَ تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي الطَّرِيقِ وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ، فَاخْرُجُوا إِلَى شَوَارِعِهَا وَقُولُوا:
حَتَّى الْغُبَارَ الَّذِي لَصِقَ بِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ) لوقا 10 4-9
وكذلك نجد يسوع الناصري الذي أوصى أتباعه أن يحبوا أعداءهم, هو نفسه الذي يتوعد كل من لا يؤمن به بالويل والثبور, و يعتبره عدوا له( من ليس معي
فهو ضدي ومن لا يجمع فهو يفرق!), فبالاضافة الى الشتائم والأوصاف الغير لائقة التي كالها يسوع للمخالفين له – المذكورة في المقال السابق- نجده يتوعد الذين لم تقنعهم دعوته, بكلمات تتضمن حقدا و نفسا ساديا, و رغبة في التشفي والانتقام !
( أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم؟) متى 23 / 33
فمصير كل من لا يقتنع هو الخلود في جهنم حيث (يكون البكاء وصرير الاسنان) بعد ان يسحقهم يسوع بقدمه
وبدلا من أن يصلي يسوع من أجل الذين لم يصدقوه ويسعى لخلاصهم, وجدناه يصف اليهود الفريسيين مثلا بأنهم أبناء جهنم!! (متى 23: 15)، وأنهم أنجاس!!
(متى 23: 27) وانهم ابناء ابليس!! يوحنا 8
والتناقض الاعجب ,ان يسوع الناصري الذي يتوعد كل من لا يتبعه ويصفهم بقلة الفهم والعمى, هو نفسه الذي يحرص على أن يكون خطابه للناس مشفرا و يحوي
على الالغاز لكي لا يفهموه فيخلصوا بالهداية !!
(وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِالأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ، لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ وَلاَ يَنْظُرُوا، وَيَسْمَعُوا
سَامِعِينَ وَلاَ يَفْهَمُوا، لِئَلاَّ يَرْجِعُوا فَتُغْفَرَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ!!!) مرقس 4\12
ومن التناقضات الأخرى التي ينسبها كتبة الأناجيل لشخصية يسوع الناصري, اننا نجده وهو المصلح الشجاع المتحمس والذي لا يأبه بالموت والأخطار والذي
يوصي تلاميذه قائلا:
(اقول لكم يا أحبائي: لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد وبعد ذلك ليس لهم ما يفعلون أكثر) لوقا 12: 4
نجد صورة مناقضة له في بعض النصوص, التي تظهره لنا خائفا واحيانا اخرى هاربا أو متهربا, كما فعل حينما انصرف الى الجليل بعد سماعه بخبر القبض على
يوحنا المعمدان (متى 4\12) واحيانا يهرب الى منطقة نهر الأردن ويتوارى هناك !
(فَطَلَبُوا أَيْضًا أَنْ يُمْسِكُوهُ فَخَرَجَ مِنْ أَيْدِيهِمْ،وَمَضَى أَيْضًا إِلَى عَبْرِ الأُرْدُنِّ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ يُوحَنَّا
يُعَمِّدُ فِيهِ أَوَّلاً وَمَكَثَ هُنَاكَ) يوحنا 10\ 39-40
ويؤكد إنجيل (مرقس) ايضا على تهرب يسوع, ولجوئه إلى أماكن نائية خوفا من أعدائه!
(حَتَّى لَمْ يَعُدْ
يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَدِينَةً ظَاهِرًا، بَلْ كَانَ خَارِجًا فِي مَوَاضِعَ خَالِيَةٍ) مرقس 1\ 45
وفي قصة (عيد المظال) رأينا يسوع و(خوفا) من ان يعرفه أعداءه, يصعد إلى العيد, وهو متنكر بعد أن خدع اخوته وكذب عليهم وأخبرهم أنه لن يصعد إلى العيد!!
وختاما , ومع الاضطرار إلى الاكتفاء بهذه النماذج من التناقضات, خشية الإطالة وملل القارئ, أكرر التأكيد على أن هذه التناقضات التي ينسبها السادة
كتبة الاناجيل الى يسوع المسيح, هي نتيجة لتعدد أشخاص الكتبة وتنوع خلفياتهم المعرفية, واختلاف ذهنياتهم ,ونظرتهم الشخصية الى يسوع الناصري, وكذلك نتيجة الإضافات والتغييرات التي أدخلت على النصوص, من أجل جعلها أكثر مواءمة مع تدرج الإيمان المسيحي بشكله المستحدث بعد
ارتماء الكنيسة في حضن الحكم الروماني والتمازج مع أساطيره وعقائده الوثنية!!
د. جعفر الحكيم