د. رياض السندي
– تمهيد
إرتبط تاريخ كنيسة المشرق بتاريخ المشرق العربي والجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين. ومن البديهي أن تنتشر المسيحية أولاً في جزيرة العرب نظراً لأن المسيحية ديانة شرقية ، وكان ظهورها بالقرب منها، وبالتالي كان لها تأثير كبير على أرض العرب، لا بل نجد أن هذا التأثير قد حفظه لنا القرآن الكريم الذي أورد لنا العديد من قصصهم، مثل قصة أهل الكهف وقصة أصحاب الأخدود، ونقل لنا قناعاتهم الفكرية وطروحاتهم الفلسفية آنذاك في نظرتهم لعيسى (المسيح) وأمه مريم، وفي حياة الرهبان وسلوكهم. لذا فلا مندوحة من إلقاء نظرة تاريخية موجزة عن تلك العلاقة، عبر تطورها في مراحل تاريخية مختلفة لاحقة.
المبحث الأول
نبذة تاريخية عن الكنيسة الشرقية
نشأت هذه الكنيسة في بلاد ما بين النهرين ضمن الإمبراطورية الساسانية وانتشرت بعدئذ في معظم أنحاء آسيا. ووصلت أوج قوتها بين القرنين السادس والرابع عشر حيث كانت حينئذ أكبر كنيسة انتشارا جغرافيا ممتدة من مصر إلى البحر الأصفر شرقا كما شملت بالإضافة إلى السريان المشارقة الذين احتفظوا بالبطريركية تقليديا الملايين من الفرس والترك والمغول والهنود والصينيين. لقد كانت كنيسة المشرق من أكثر الكنائس تبشيراً طيلة القرن الرابع الميلادي وصولا إلى القرن الثالث عشر، بدأ الوهن يتسرب إلى هذه الكنيسة الأصيلة. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت هذه الكنيسة هدفاً للتبشير الغربي. وهنا يثور التساؤل عن السبب الذي حدا بالنساطرة إلى اللجوء إلى جبال هكاري؟ وما هو السبب الذي أدى إلى إعتماد نظام التوريث البطريركي؟
تشير معظم المصادر التاريخية إلى أن كنيسة المشرق كانت قد إنتشرت في بلاد الرافدين وجزيرة العرب، لا بل أن مقرها البطريركي كان في منطقة قطيسفون (المدائن) في منطقة سلمان باك اليوم جنوب بغداد، وكانت تحت سلطة الإمبراطورية الفارسية، لذا سميت بكنيسة فارس. وقد تقاسمت كنيستي النساطرة واليعاقبة نفوذهما على جزيرة العرب قبل الإسلام، وكانت الحيرة حاضرة نسطورية ، فيما كانت نجران حاضرة يعقوبية (المذهب المونوفيزي). وأن المسيحيين قد فرحوا وساعدوا على إنتشار الإسلام الذين وجدوا فيه محرراً لهم ومخلصاً من إضطهاد الإمبراطوريات الأخرى مثل الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية، لذا يذكر أحد مؤرخي الكنيسة وهو ميخائيل السرياني في تاريخه المعروف قائلا: “…لذلك حينما رأى إله النقمات شرّ الروم الذين حيثما حكموا كانوا يعيثون في الأرض فساداً، فينهبون كنائسنا وديورتنا ويعاملوننا بالتعسف، أتى من الجنوب بأبناء إسماعيل، لكي ينقذنا بواسطتهم من أيدي الروم”. وورد في تقويم قديم للكنيسة النسطورية، أن النساطرة أقاموا في يثرب مطراناً وأسقفين، وكان لهم فيها ثلاث كنائس وعدد كبير من المؤمنين. ونظرة القرآن إلى المسيحية وعيسى ومريم وألوهيتهما توحي بالتأثير النسطوري والمونوفيزي وصراعات الفلسفة الكنسية في تلك الفترة.
إلاّ أن فرحة المسيحيين لم تدم طويلا حتى بدءوا يتذمرون من الجزية الباهظة وحروب الفتوحات والمعاملة السيئة إبتداءً من عهد يزيد الثاني (720-724) حيث أصدر في عام 723 مرسوما يقضي بإزالة جميع الصور من المعابد والكنائس وحتى البيوت.
– في ظل الخلافة العباسية حتى سقوطها
وظلت أمور الكنيسة طيلة خمسة قرون تسير بشكل مضطرب وقلق يسودها الشّد والجذب وفقاً لمزاج الخلفاء ونصيحة مستشاريه، وتبعاً لشخصية البطريرك أو الجاثليق، منذ ذلك العهد وصولا إلى القرن الثالث عشر، وكان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور قد أسس في السنة الثامنة لحكمه مدينة بغداد باسم (مدينة السلام-المدينة المدورة). وكان بطريرك النساطرة طيمثاوس الأول (780-823) الذي بقيّ في منصبه أكثر من أربعين عاماً، قد عاصر خمسة خلفاء عباسيين وأقام معهم صلات وثيقة وكان محل تقدير وإحترام منهم جميعاً نظراً لقوة شخصيته.
توالى على كنيسة المشرق بعد طيمثاوس الكبير بطاركة لم يكونوا بمستواه، فإنحسرت العلاقة بينهم وبين الخلفاء المسلمين، وساءت شيئاً فشيئاً. فعادت حملات الإضطهاد والتضييق الديني، “ويروي لنا ميخائيل السرياني أن أحد أبناء المعتصم يدعى “أبو داود” إتخذ إجراءات مجحفة بحق المسيحيين ودفع أباه إلى منع ظهور الصلبان خارج الكنائس وقرع النواقيس ورفع الصوت في الصلاة أو في المآتم في الشوارع، والى منع ظهور الخمور في كل مكان”. وكذا الحال مع الخليفة المتوكل وغيره وصولا إلى نهاية العصر العباسي بعد تعاظم نفوذ الترك والفرس والروم وغيرهم من الغرباء الذين دخلوا الإسلام عن قناعة أو إكراه، وبدا الإنقسام المذهبي بين السنة والشيعة واضحاً بعد سيطرة البويهيين. فدبّ الضعف في جسد الدولة الإسلامية، وأصبح الخليفة ألعوبة بيد هؤلاء المتنفذين، وكان لهذا الإنحطاط أثر كبير مهّد لسقوط عاصمة الخلافة بغداد زمن الخليفة المستعصم بيد المغول بقيادة هولاكو عام 1258، الذي لعب وزيره الشيعي مؤيد الدين أبن العلقمي المتواطىء مع المغول الذي ضَمّ إلى وفده المفاوض لهولاكو الذي زحف من خانقين بجيشه المغولي المؤلف من 200 ألف مقاتل، جاثليق النساطرة بأمر من الخليفة لعرض الصلح على هولاكو وثَنيِه عن الهجوم. ويبدو أن الخليفة قد أساء اختيار أعضاء وفده، فإبن العلقمي وجدها فرصة للإنتقام من حكم العباسيين فخان الخليفة، والجاثليق تقَّرب من المغول بحكم الصلة الدينية ومهّد لما بعد السقوط. فزوجة هولاكو دقوز خاتون، ووالدته سركوتي باجي.. كانتا تدينان بالمسيحية.
وعلى الرغم من أن هولاكو قد رفض مقابلتهما، وإنه كان وثنياً، إلا أنه أظهر تعاطفاً مع المسحيين، وعامل الجاثليق النسطوري مكيخا الثاني (1257-1265) معاملة حسنة، الذي جمع المسيحيين في كنيسة سوق الثلاثاء ببغداد، ولم يصبهم أي أذى. وأنعم هولاكو على مكيخا فمنحه دار الخليفة المعروفة بالدويدار على نهر دجلة، فبنى فيها بيعة جديدة، ولما مات في 18 نيسان 1265 دفن فيها. وهذا لم يمنع هولاكو من أن يصدر أمراً بإبادة جميع المسيحيين التكريتيين صبيحة أحد الشعانين في 17 آذار 1258 بعد وشاية أحد المسلمين بأن المسيحيين قد حافظوا على ودائع أموال المسلمين بطلب منهم لإعادتها لهم بعد إستقرار الأوضاع. ولم ينج منهم سوى عدد قليل من العجائز وكاهنين.
ولم يَحُل عام 1281 إلا وكان منصب البطريرك النسطوري من نصيب يهبالاها الثالث المغولي (1282-1318) في مراغة.
وهذا ما دفع أحد الباحثين الأكراد إلى إعتبار زوجة هولاكو المسيحية كارثة وقعت على رؤوس المسلمين، وإنها كانت هي المحرض الرئيس لحملات هولاكو على العراق، بقوله: “إن وجود زوجة هولاكو خان بجواره في الحكم كان يمثل نكبة بل كارثة وقعت على رؤوس المسلمين، ليس فقط داخل الإمبراطورية المغولية، بل أيضاً في بلاد فارس والعراق وبلاد الشام. وكان وجودها يمثل العصر الذهبي الثاني للنصارى داخل الإمبراطورية المغولية بفارس، وخارجها. وكانت هي المحرض الرئيس لحملات هولاكو على العراق والتي أدت إلى إسقاط بغداد وتدمير الخلافة العباسية، ثم حملاته على بلاد الشام ومحاولته أيضاً غزو مصر، فيما يعرف بالحرب الصليبية المغولية ضد المسلمين في الشرق الأدنى…، وبحيث يمكن أن نطلق عليها بحق اسم المرأة الرهيبة، وتلك المرأة هي دوقوز خاتون، زوجة هولاكو خان.” ويقول في موضع آخر: “وعندما مات هولاكو في ربيع سنة 1265م /664هـ، ولحقت به زوجته دوقوز خاتون في صيف نفس العام «وقد شمل المسيحيون في كلِّ العالم حزناً شديداً على وفاة هذين النبراسين العظيمين المعززين للدين المسيحي».
– في ظل حكم المغول
“وكان خليفة هولاكو إسمه أبغا (1260-1265) متسامحاً مع النساطرة في فارس مثلما كان سلفه، ولكن النساطرة قد أساءوا إستخدام ما منحوا من حرية بأن وضعوا القانون في جيوبهم وتجاوزوا الحدود. وذلك ما حدث في عهد الجاثليق دنخا الأول (1265-1281م) الذي ساعد في تهريب أحد النساطرة الذي كان قد إعتنق الإسلام من تكريت الى بغداد حيث أمر بإغراقه في نهر دجلة. كذلك كان هذا البطريرك الأهوج يقود مواكب نسطورية في العاصمة بغداد تحت حماية الجند المغول لمشاهدة جرئم المغول ضد شعب بغداد الأعزل…إن هذه الأحداث من جانب النساطرة جعلت خانات المغول يتأففون من مسلك النساطرة…وظلت معاملة إيلخانات فارس للنساطرة طيبة حتى وفاة الخان بنيماتو (1291-1295م). وبعد وفاة هذا الأخير تنازع أميران مغوليان على العرش، الأول بيدو الذي كان متعاطفاً مع النساطرة وأمر بإعادة بناء الكنائس المهدمة، والثاني هو الخان غازان (1295-1304م) الذي قام بإغتيال بيدو وإستولى على العرش، ثم أعلن بصفة رسمية إعتناقه للإسلام. وهكذا تبدل الحال بالنسبة للنساطرة في فارس، وأجبر البطريرك على ترك قصر “دار الدويدار”، ثم بدأ النساطرة يتعرضون للمناوشات من جانب العرب والأكراد في عامي 1295-1296.
لقد بقي ملوك المغول يتعاطفون مع المسيحيين حتى مجيء السلطان غازان 1295- 1303م الذي دخل الإسلام وتزمّت في قراراته، وغيّر سياسته تجاه المسيحيين، وبدأ باضطهادهم، وصمم على استئصالهم وهدم كنائسهم، وأوقف احتفالاتهم. يقول الأب العلامة انستاس ماري الكرملي في كتابه: ” الفوز بالمراد في تاريخ بغداد “: ” إن المحن التي عاناها المسيحيون في عهد هذا السلطان لا يفي القلم بوصفها، فان هذا السلطان منع الرجال المسيحيين من الظهور في الشوارع، واستولى على دار البطريركية الدويدار، وأزيل ما بها من التماثيل والخطوط السريانية.. ” (ص 67). ولقد حذا الخان المغولي خربندة خان حذو غازان خان، إذ فرض الإسلام على المسيحيين القاطنين في البلاد أو يدفعوا المال ووضع علامات عليهم لتمييزهم.. ولقد تحمّل المسيحيون كل الإهانات ودفعوا الضرائب للمغول.. وتشتت المسيحيون من مدن العراق نحو الجبال باستثناء الموصل إذ دفعوا المال بتبرعات الأهالي إلى الأبرشية وكادت بغداد تخلو من المسيحيين.. لقد عانى العراقيون جميعا من المآسي على العهد الإيلخاني المغولي مقارنة بما كانوا عليه أيام الحكم العباسي. يقول المؤرخ هرمز م. أبونا في كتابه: صفحات مطوية من تاريخ الكنيسة الكلدانية: ” أما فترة التسامح المغولي.. فإنها في الواقع لم تكن ترقى إلى مستوى التسامح الذي شهدته كنيسة المشرق خلال حكم العديد من الخلفاء الأمويين والعباسيين. إلا أن الصراع بين القطبين المسيحي والإسلامي في الإمبراطورية الإيلخانية التي أسسها هولاكو انتهى بهزيمة التيار المسيحي حين اعتنق المغول للإسلام وقاموا بفرضه دينا رسميا للدولة سنة 1295 م. ومنذ ذلك الحين فان مسألة القضاء على الوجود المسيحي الكثيف في بلاد ما بين النهرين كانت قد أصبحت جزء من السياسة اليومية للمغول وحلفائهم الأكراد، وسار عليها خلفائهم من الدويلات التركمانية لغاية الاحتلال العثماني لبغداد سنة 1536م ” (هرمز أبونا، ص 33).
– المغول يقلبون ظهر المجن للمسيحيين
ومع نهاية القرن الثالث عشر تعرض النساطرة مرة أخرى للمتاعب بشكل أكثر عنفاً من جانب الأهليين، رغم أنف الإيلخانات أنفسهم…ويبدو أن الأمور كانت قد أفلتت من أيدي الخان غازان نفسه…وما إن حلّ القرن الرابع عشر حتى بدأت إيلخانية فارس بالتمزق والفوضى، فلقد شهد عهد آخر الإيلخانات أبو سعيد (1316-1335م) إضطرابات في مدينة ديار بكر، حيث أقتيد 12,000 من النساطرة الى أسواق النخاسة، وتم قتل البعض منهمن كما تعرض الاسقف مار جريجوريوس للضرب حتى الموت، في حين أن كنيسة مريم العذراء قد أضرمت فيها النيران فأتت عليها (1317م).
ولقد جاءت أحداث القرن الرابع عشر لتضيف المزيد من المآسي على النساطرة في فارس، فقد زحف تيمورلنك (1396-1405م) بجحافله يدّمر كل شيء. ولم يكن تيمورلنك مغولياً ولكنه كان تركياً من قبيلة قبرلاس…هذا وكان تيمورلنك وخلفاؤه قد فرضوا ضرائب غاية في التعسف على النساطرة بوجه خاص…لقد إنهارت الكنيسة النسطورية تحت حوافر خيل تيمورلنك ، إذ أبيد قسم كبير من النساطرة، وفقد قسم أخر منهم كل شيء، في حين لاذ قسم ثالث وأخير بالفرار لا يلوي على شيء الى جبال كردستان ما بين بحيرتي أورميا وڤان. وأصبحوا منذ ذلك اليوم نسياً منسياً حتى إكتشفهم الرحالة والدارسون في العصر الحديث. يقول المؤرخ روفائيل بابو اسحق في كتابه (تاريخ نصارى العراق): ” أما المسيحيون، فكانت حالتهم يرثى لها، فقد تبدد جمعهم وهربوا لاجئين إلى القرى والجبال النائية خوفا من القتل والذبح.. “. و” قبل الهجرة الكبرى في القرن الخامس عشر، كان في بغداد وضواحيها ستة عشر ألف بيت مسيحي.. أما نهاية القرن السابع عشر خلت بغداد من المسيحيين إلا من نزر قليل “. “وأدت سلسلة اضطهادات شنها قادة الترك والمنغول الداخلين حديثا في الإسلام إلى انهيار المجتمعات المسيحية في آسيا الوسطى وبلاد فارس وانحسار كنيسة المشرق في مناطق نشأتها في شمال بلاد ما بين النهرين. وكانت مجازر تيمورلنك الحدث الذي أنهى كنيسة المشرق كمجموعة دينية مؤثرة.” وعمل تيمورلنك في حملاته إلى استهداف المسيحيين منهيًا بذلك وجود كنيسة المشرق بشكل نهائي في آسيا الوسطى.
” أما فترة التسامح المغولي.. فإنها في الواقع لم تكن ترقى إلى مستوى التسامح الذي شهدته كنيسة المشرق خلال حكم العديد من الخلفاء الأمويين والعباسيين. إلا أن الصراع بين القطبين المسيحي والإسلامي في الإمبراطورية الإيلخانية التي أسسها هولاكو انتهى بهزيمة التيار المسيحي حين اعتنق المغول للإسلام وقاموا بفرضه دينا رسميا للدولة سنة 1295 م. ومنذ ذلك الحين فان مسألة القضاء على الوجود المسيحي الكثيف في بلاد ما بين النهرين كانت قد أصبحت جزء من السياسة اليومية للمغول وحلفائهم الأكراد، وسار عليها خلفائهم من الدويلات التركمانية لغاية الاحتلال العثماني لبغداد سنة 1536م “.
ويمكن القول، بأن تيمورلنك هو الذي ألجا النساطرة الى الإقامة والعيش والإستقرار في جبال هكاري طيلة خمسة قرون، بعد شهر عسل قصير مع هولاكو، ولم ينزلوا منها إلا بتأثير الروس والبريطانيين بداية الحرب العالمية الأولى (1914-1918) ومطلع القرن العشرين. ويعتبر حملاته ضد المسيحيين من أولى حالات الإبادة الجماعية، وبالمثل، فإن الفاتح المغولي التركي تيمورلنك كان معروفا له بالوحشية المتطرفة وفتوحاته كانت مصحوبة بالإبادة الجماعية والمجازر. كتب وليام روبنشتاين: “في آشور (1393-4) – تيمورلنك قتل كل المسيحيين الذين تمكن من العثور عليهم، بما في ذلك جميع الموجودين في مدينة تكريت المسيحية، وبالتالي عمليا قام بتدمير كنيسة المشرق الآشورية. ودون تحيز، ذبح تيمورلنك أيضا المسلمين الشيعة واليهود الكفرة، والمسيحية في بلاد ما بين النهرين كانت حتى الآن محصورة في تلك المجتمعات الآشورية في الشمال الذين نجوا من المذابح. وما نظام ناطر كرسيا إلا بتأثير إرهاب تيمورلنك الذي حصر مسيحيي بلاد الرافدين في جبال هكاري الحصينة طيلة ستة قرون متوالية.
– مبررات إقامة نظام ناطر كرسيا
في الوقت الذي ظَلَّت أسرة مار شمعون تردد بأن مَرَّدُ ذلك يعود إلى سببين رئيسيين، بالقول: “وساد سببان لإنشاء الخلافة داخل أسرة واحدة. ففي بعض الحالات على مر التاريخ، وبسبب الظروف، تركت الكنيسة بدون بطريرك. وبدلا من المخاطرة بالتعرض للتدخل الحكومي، ومع المحافظة على معايير أدارة الكنيسة، اتخذ قرار بالإبقاء على الخلافة الأبوية في أسرة واحدة. ومن خلال القيام بذلك، تم القضاء على تدخل الحكومة مما أدى إلى وقف اقتحامها لشؤون الكنيسة. وأدت هذه الممارسة البارزة إلى اعتماد هذا النظام أيضا على بعض أسر المدن الرئيسية، بل وحتى على الأساقفة.” وإذا كان لهذين التبريرين بعض الوجاهة والمقبولية في العصور الوسطى، عندما تعفف الناس عن تولي المناصب خشية تحميلهم المسؤولية في مواجهة السلطان، وبالفعل شهدت بعض الفترات فراغ في سلطة هذه الكنيسة في أزمنة الحروب والإضطهادات والمجازر، وشغر كرسي البطريركية المشرقية مرات عديدة، من بينها، وأطول مرة لهذا الشغور إستمر لمدة 42 سنة متواصلة، وهي الفترة الممتدة من وفاة البطريرك بربعشمين عام 343م وحتى إنتخاب البطريرك تومرصا من أهل كشكر عام 393م. كما غدا كرسي البطريركية شاغرا بعد وفاة مار شمعون الثاني عام 1395، حتى إنتخاب مار شمعون الثالث عام 1403، أي طيلة ثمانِ سنوات.
أما بصدد التبرير الثاني، فمن البديهي أن يتدخل السلطان أو الحكومة لملء فراغ إحدى المؤسسات داخل الدولة، وهي الكنيسة المشرقية النسطورية العريقة، ولطالما شهدت الكنيسة مثل هذا التدخل الحكومي على مدى تاريخها الطويل، لا بل وحتى يومنا هذا بأشكال ودرجات متفاوتة.
من جانب أخر، يذهب معارضو البيت البطريركي إلى إن القصد من التحجج بالظروف القاهرة لإقامة نظام ناطر كرسيا، إنما كانت حجة واهية لإحتكار السلطة البطريركية ضمن عائلة واحدة حصراً هي (عائلة أبونا) نظراً لحب السلطة والظهور بمظهر القائد الأوحد الذي لا منازع له، والتعامل مع القيادات المدنية في كل زمان ومكان، والتمتع بمزايا السلطة وإمتيازاتها. وهكذا فقد ذهب بولص يوسف ملك خوشابا وهو حفيد رئيس عشيرة تياري والذي كان جده (الملك خوشابا) من أوائل المعارضين لعائلة البطريرك مار شمعون، فيقول:
“لقد كثر الكلام والكتابة عن التوريث في العائلة البطريركية والذي كان يصب في خانة التفنن في إيجاد التبريرات للوراثة البطريركية حالها حال التبريرات الأخرى للأخطاء القاتلة التي ارتكبتها هذه العائلة والتي لم يسلم من دمويتها حتى أبناء عمومتها حيث بدأت عهدها بالدماء وأنهته بالدماء وان من يطالع كتاب (تاريخ بطاركة البيت الأبوي ) لمؤلفه المطران إيليا ابونا وترجمة بنيامين حداد سيجد إن التشبث بالظروف القاهرة كتبرير لإرساء التوريث ما هي إلا حجة غير حقيقية والحقيقة كما ترويه الأحداث هو الإستماتة في الحفاظ على الكرسي البطريركي داخل العائلة الواحدة.”
وقد أدى هذا النظام لاحقاً الى الجمع بين السلطتين الروحية-الزمنية، أو الدينية-الدنيوية، وحصرها في عائلة واحدة، هي عائلة (أبونا)، مما قاد الى إحتكار هذه الوظيفة الدينية بيد جماعة معينة، كما دفع قسم كبير من أتباع هذه الكنيسة الى الإنقسام والإنفصال عنها، حتى ألغي هذا النظام في عهد البطريرك دنخا الرابع عام 1976.
فقد “توفي البطريرك شمعون الخامس سنة 1551 وخلفه شمعون السادس (1551 – 1558) استمر خط بطاركة المشرق من البيت الأبوي حسب النظام الوراثي في القوش وعلى العقيدة الشرقية النسطورية، حيث انتقلت البطريركية إلى إيليا السادس (1558 – 1591) خلفه إيليا السابع (1591 – 1617) ثم إيليا الثامن (1617 – 1660) وهنا حدث انشقاق في البيت الأبوي حيث انقسمت العائلة إلى شعبتين، شعبة بطاركة القوش (إيليائيين) وشعبة بطاركة قوذشانوس (الشمعونيين).”
ومنذ الإنشقاق الكلداني تزايدت الدعوات لهجر نظام ناطر كرسيا والتخلي عنه لما فيه من عيوب كثيرة، خاصة وأن النظم السياسية الحديثة قد تخلت عن التوريث السياسي للسلطة تحت تأثير الأفكار اللبرالية والديمقراطية، بينما إحتفظت الكنيسة الشرقية القديمة بهذا التقليد رغم تَصدُّعِها وإنقسامها لأكثر من مرة. وريما يعود السبب في ذلك إلى ما تتمتع به السلطة الكنسية من قداسة بخلاف السلطة السياسية.
وتكررت تلك الدعوات مرة أخرى بعد إغتيال بنيامين مار شمعون عام 1918. وكانت وصية خليفته بولص مار شمعون بعد التوريث من عائلتهم “أبونا” مرة أخرى. “وتذكر روانا مار شمعون لويگرام:
قال مار بولص العشرون قبل موته: لا تدعوا الناس يرسمون أي واحد من عائلتنا بطريركاً. وفي ذلك الوقت لم يكن هناك في بعقوبة غير خال وأم البطريرك إيشاي. وعندما جاء الرؤساء لاختيار البطريرك الجديد حصلت توسلات ووساطات حامية باختيار بطريركاً من عائلة أخرى. إلا إنهم عدلوا عن ذلك وقالوا إنه سيحصل شغب وإضطراب كبيران بين الناس في حالة إقدامهم على ذلك. وتركت الأم الاجتماع وذهبت إلى خيمة أخرى وبدأت تبكي. لقد شبعت الأسرة من قيامها بإنتاج البطاركة.
إلا أن الرسامة كانت على أية حال عملاً حزبياً من قبل أولئك الذين كانوا يحرصون على إبقاء التعاقب الوراثي البطريركي لكنيسة الشرق، لكن الشقاق تضخم وإتسع لا سيما جماعة آغا بطرس. على أن (ويگرام) المارّ ذكره وأحد المدافعين الكبار القليلين عن الأشوريين وكان مشرفاً على شؤونهم وإليه يرجعون بالمشورة -كان يرى الوراثة البطريركية في تلك الفترة من الزمن أفضل نقطة إستقطاب للوحدة الأشورية ولذلك أوصى بإبعاد بطرس آغا الذي توفّي في باريس في كانون الثاني 1931. وبهذا ثبت الأمر للبطريرك المنتخب باسم البطريرك مار (إيشاي) الحادي والعشرين.
وفي رأينا، فإن البريطانيون وبتأثير مباشر من ويگرام عرّاب كنيسة المشرق القديمة منذ عام 1898، والذي ظَلّ يفرض سيطرته عليها، ويتدخل حتى في إختيار بطاركتها، هو الذي ظلّ مصراً على الإبقاء على نظام ناطر كرسيا للتوارث البطريركي في هذه الكنيسة، مستمداً قناعته من نظام التوارث الملكي البريطاني وسعيه إلى إستنساخه على الأثوريين دون مراعاة الفرق بين ظروف المجتمعين. فالبريطانيون راضون على نظامهم الملكي وأسلوب توارثه ولا يوجد من يعارضه. في حين أن نظام التوارث البطريرك الشرقي قد شهد معارضة شديدة منذ خمسة قرون، وأدى إلى إنشقاقات كبيرة وخطيرة، وخلف نكبات ومآسي، كما خلف إنتكاسات كبيرة في مرات عديدة. وإسلوب إستنساخ الغرب لتجاربهم على المجتمعات الأخرى وفي جميع المجالات بضمنها المجال السياسي والدستوري، قد أثارت إنتباهنا منذ زمن بعيد، ونبَّهنا لها أكثر من مرة على الصعيد السياسي، وخير مثال على ذلك، أن الاحتلال البريطاني قد بذل كل جهوده لإقامة النظام السياسي في العراق عام 1921 نظاماً ملكياً على غرار النظام الملكي البريطاني.
– يليه القسم الثاني –
د. رياض السندي
كاليفورنيا في 15 آذار 2018