نظام قمعي يلفظ أنفاسه
المستقبل اللبنانية
ألبير خوري
بعدما قرعت واشنطن وبعض العواصم العربية والغربية طبول الحرب وما رافقها من ضجيج إعلامي نبّه على حريق شرق أوسطي جديد، فجأة تغيّرت المعادلة وتبدّلت المواقف.. وحده الرئيس بشار الأسد صعّد من عناده وعنفه في وجه ثوار سوريا الأحرار.
صحيح أن الديبلوماسية الروسية المرنة اقتصرت على الضربة الأميركية العسكرية في سوريا. عادت موسكو بقوة الى المياه العربية الدافئة وسط غليان دولي وإقليمي من بوابة دمشق.. صحيح أيضاً أن الرئيس السوري استعاد بعض أنفاسه المتقطعة جراء مجزرة السلاح الكيميائي التي أودت بحياة مئات الأطفال والنساء والشيوخ، تضاف الى مئات المجازر التي اقترفها النظام القمعي السوري على امتداد أربعة عقود حكم فيها بالبطش والاستبداد، بدءاً من الرئيس الأب حافظ الأسد، الى وريثه الابن بشار الأسد وثالثهما “الروح الشريرة”، لكن الأصح أن ما ذاقه الشعب السوري الحر خلال الثلاثة أعوام الأخيرة، وتحديداً منذ اندلاع الانتفاضة السلمية في بداياتها وتحولها الى الكفاح المسلح، يفوق كل خيال وتصور: قتل بشر وتدمير حجر بأعصاب باردة والحبل على الجرار. ذلك أن آلة القتل السورية “الشرعية” إذا جاز الوصف لم ولن تتوقف عن طحن معارضيها جسدياً ونفسياً، وطالما ظلت اصوات أحرار دمشق وحلب وحماه وحمص تصدح بالحرية والعدالة والاستقرار.
على هذا الواقع العنفي المتصاعد من أجهزة النظام في مواجهة أكثرية سورية ذاقت الأمرين على مدى أربعة عقود، أسقط الرئيس بشار الأسد من ذاكرته طغاة سبقوه الى نفايات التاريخ. لم يعِ ويتّعظ من أن القوة والبطش لن يوقفا طموح الشعوب المقهورة الى قيام أنظمة ديمقراطية حقيقية تتعدى في علاقاتها لقمة عيش ذليلة وطبابة ممكنة بالحد الأدنى ودراسة مجانية مشروطة بثقافة حزبية تقرب الى غسل الأدمغة، الى لقمة حرة كريمة في أجواء من الأمان والاستقرار.
أسقط الرئيس الأسد بمكابرة وتعاظم التجربة الأميركية الحديثة في العراق، وما استهلكته من قوات وأسلحة وأجهزة عسكرية ومخابراتية وإعلامية، فشلت مجتمعة في كسب ثقة العراقيين. وأسقط أيضاً تجربة واشنطن المريرة في حرب فيتنام وعجزها عن مواجهة الثوار. خرج “أونكل سام” بكل جحافله البشرية والمعدنية ذليلاً من مستنقع فيتنام لتبقى حربه فيها كابوساً يتعاظم مع تقادم الأيام والسنوات من ذاكرة الأميركيين شعباً ومؤسسات.
انطلاقاً من هذه النماذج وغيرها كثير، خطير ومرير في تاريخ الدول الاستعمارية قديمها وحديثها، بما فيها إن لم يكن الكيان الصهيوني على رأسها، يصح السؤال: كيف يمكن لبشار الأسد رئيس دولة الصمود والتصدي، وجراح العيون على مقاعد الجامعة البريطانية، أن يفقد بصره وبصيرته فيغضّ نظره عن جرائم تتكرر يوماً بعد آخر على يد “شبيحة” العسكريين والمدنيين ضد أحرار سوريا الذين يشكلون الأكثرية الساحقة في البلاد؟ وكيف لأسلحته الثقيلة بما فيها الطيران الحربي والسموم الكيميائية أن تغتال عشرات آلاف الأبرياء على مرأى عينيه، جريمتهم الكبرى الوحدة ومطالبتهم بالحرية والعدالة والمساواة!..
أسئلة كثيرة يمكن طرحها في هذا الواقع المأساوي تؤكد أن الأسد الذي أسقطت عنه أكثرية السوريين شرعية رئاسته، واعتبرته الشرعية الدولية “مجرم حرب”، حاول على سلوكه الباطني المعتاد، وبأوامر مباشرة منه، القضاء المبرم على معارضيه الثوار من كل التيارات السياسية والطوائف والناطق بكل ما أوتي من حقد وطغيان ودعم إقليمي ودولي. راهن على العنف المتمادي كخطوة أولى ظناً منه أن الإرهاب يخيف أعداءه، وبالترغيب في خطوة لاحقة وتابعة، اعتقل وعذّب واغتصب كل من عاند النظام من مراهقين وشباب وعجز، ومن مثقفين وفنانين وعمال ورجال أعمال.. أمعن في الظلم والاستبداد ليذكّر مواطنيه بالقاعدة الذهبية “السكوت من ذهب” وأن المتمردين الى موت محتّم في القبور أو في المعتقلات. لعبت ماكينته الإعلامية المتشعبة دوراً إضافياً في ساحات الحرب، فتبث منذ الأسابيع الأولى للانتفاضة أخباراً من انتصارات وهمية سرعان ما كذبتها الحقائق على الأرض. انفتحت الساحات المغلقة أمام الثوار لتتحول الى مواقع استراتيجية شكلت جسر عبور الى إنجازات أكبر، صعّدت المقاومة الوطنية هجومها على “الشبيحة” من داخل النظام وخارجه. ضباط من الحرس الثوري الإيراني. خبراء وأجهزة مخابرات من روسيا. مجنّدون من حزب الله اللبناني ومجموعة قوى تكاتفت لإخراج الأسد منتصراً من أتون حرب تتمدد سريعاً الى جيرانه العرب والدول الإقليمية. فشلت كل المساعي باستثناء المبادرة الروسية التي قلبت المعادلات رأساً على عقب، ومن خلالها استردّ الأسد بعض عنفوان فقد الكثير منه بالتنازل عن أسلحته الكيميائية وإخضاعها لمراقبين دوليين بعدما كانت تشكّل على حدّ زعمه توازن رعب مع اسرائيل.
في المحصلة، أنقذت موسكو رأس الأسد، أقلّه حتى اللحظة، بانتظار حكم المراقبين الدوليين، لكنها فشلت في وضع حل نهائي لمجازره ضد مواطنيه. السفير السوري السابق في واشنطن عماد مصطفى أكد قدرة دمشق على الصمود عشرات السنين في وجه معارضيه طالما يتلقى كل أشكال الدعم من حلفائه الروس والصينيين والإيرانيين، وأخيراً من حزب الله.
قد يكون السفير مصطفى مغالياً في تفاؤله: يؤكد ذلك ما يحققه الثوار على الأرض، وحيث ثلاثة أرباع سوريا، جغرافياً وبشرياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً خرجت عن شرعية الأسد. ففي تقرير أخير أصدره معهد الدراسات الحربية في واشنطن تناول فيه الأزمة السورية المتمادية قتلاً وتدميراً، “ما يؤكد أن الرئيس الأسد فقد كل مقومات بقائه رئيساً مطلق الصلاحيات في الجمهورية السورية، وبالتالي لم يبق أمامه سوى اعتماد خطة “فرّق تسد” بتأليب الأقليات السورية على بعضها البعض من مسيحيين وعلويين وأكراد ودروز..” لكن هذه الإستراتيجية كما يكشف التقرير أدت عكس مرادها. فالمعارضة السورية على تنوع أشكالها وأسمائها وعملياتها لن تتراجع عن مساعيها باقتلاع النظام القمعي. صحيح أن اختلاف المجموعات الثورية، وخصوصاً الإسلامية المتطرفة قد يشكّل حاجزاً أمام انتصار الأحرار وتحقيق أهداف الربيع السوري، لكن الثورة مستمرة حتى تعود سوريا لأبنائها الوطنية، وليس ملكية خاصة لـ”آل الأسد” ومن يشاركهم في نهب الأرواح والأرزاق. لقد حاول الرئيس بشار الأسد إخماد الثورة خلال الثلاث سنوات الأخيرة بكل ما امتلك من وسائل سياسية ودعم عسكري، لكن جميع محاولاته باءت بالفشل، ولم يبقَ أمامه سوى اللعب على وقت قد لا يطول كثيراً حتى يجد نفسه كما الطغاة أمثاله حاضراً وماضياً، في نفايات التاريخ.