لم يعد نظام دمشق مسؤولا عن أي شيء غير موت السوريين. في الكلامولوجيا الدعائية، السوريون كلهم معه ووراءه، وهو لا يفعل أي شيء من دون مشاورتهم ومشاركتهم، أليسوا هم من يختارون قياداته بملء إرادتهم، ويدافعون عنه بالأرواح والمهج، ولا يرضون بديلا عنه؟! أما في الواقع، فالنظام لم يقصر يوما في ملاحقة الشعب والقضاء عليه، وعمل ما في وسعه كي يطرد بعضه بالقنابل والصواريخ إلى تركيا والأردن ولبنان ومصر وليبيا والجزائر والسودان وأوروبا وكندا… إلخ، ويحاصر بعضه الآخر داخل منازله المقصوفة والمهدمة في جميع قراه ومدنه، ويشرد من بقي منه داخل وطنه، ليتشارك مع القسمين الآخرين في الموت والجوع والمرض. بقوة هذا النمط الفريد من حب النظام لمواطناته ومواطنيه، هلك مئات الآلاف من السوريين في البراري والقفار، داخل البلاد وخارجها، ودمرت قرى ومدن بكاملها، وشنت غارات متعاقبة في الليل والنهار على آمنين لا ذنب لهم غير إعلان رغبتهم في أن يكونوا أحرارا، تطبيقا لشعار يرفعه النظام منذ نيف وستين سنة فقط يعدهم بالحرية، وسوى تعلقهم بكرامتهم الإنسانية، التي أفقدهم إياها لفترة طويلة ودفعهم اليأس من فقدانها إلى المطالبة باستعادتها سلميا وقانونيا. لا عجب أن هذا النمط من حب السلطة الأسدية لسوريا حوّلها إلى مقبرة، وقضى ليس فقط على ما تم بناؤه في عهد الأسدين المشؤوم، بل على كل ما بنته أجيالها المكافحة خلال القرون، وعلى رأسه العلاقات الوطنية والإنسانية التاريخية بين بناتها وأبنائها، الذين عاشوا دوما في ظل تفاعل مفتوح بينهم قام على قبول تنوعهم فجعل منهم شعبا واحدا، قاوم موحدا الغزوات والغارات الأجنبية والخارجية، ونجا بجلده ووحدته من مهالك تاريخية مرعبة كغزوات وحروب الفرنجة والمغول والعثمانيين والاستعماريين الأوروبيين، وها هو يبدي اليوم أيضا قدرا كبيرا من المقاومة ويحبط خطط النظام لتأليب أطرافه بعضها ضد بعض، ولتحريض الأخ ضد أخيه، وإنكار الحق في الحياة على كل من ليس معه أو تابعا له أو خاضعا لسطوته.
يواجه النظام العالم وشعب سوريا بأكذوبتين؛ أولاهما أنه نظام شرعي يواليه «شعبه» الرسمي الخاص، الذي يدين له بالطاعة العمياء، وثانيتهما أن شعب سوريا غير الرسمي متمرد وعديم الوفاء، لأنه منساق وراء أصوليات متنوعة مذهبية وطائفية الطابع، تشوه الحقائق حين تجعل منه ممثل أقلية مذهبية، وتنكر هويته كنظام شعبي وطني، علماني وتقدمي. استخدم النظام أكذوبة الشعب الخاص، الموالي له، لتبرير عدوانه الدائم على الشعب الآخر، الرجعي والأصولي، ورفض دوما محاولات تنبيهه إلى ما في أكذوبتيه من تناقض، وتمسك بأن ولاء شعبه له وصمت الشعب الآخر عنه هما مصدر شرعيته الوطيدة التي لن تتزحزح، ويسوقها تارة باسم ولاء «شعبه» له، وأخرى باسم حماية الشعب الآخر مما هو راسخ في نفسه من فوات تاريخي وآيديولوجيات مذهبية – أصولية.
بهاتين الأكذوبتين يصير كل شيء مسوغا: تجاهل الشعب ومطالبه باسم ولائه، والقضاء عليه باسم محاربة أصوليته ورجعيته. بهذه الآيديولوجيا، يسمح النظام لنفسه بإتيان جميع أنواع الممارسات الممنوعة قانونيا ودوليا ووطنيا وإنسانيا حيال السوريين. وبما أنه يستهين به كموالين ويعاديهم كإرهابيين، فإنه يرفض الإقرار بأن لهم حقوقا، وينتهج سياسات ثابتة تقوم على تجويعهم وتعذيبهم وقتلهم، ترغم كل فرد منهم على أن يكون مسؤولا أمامه، من دون أن يكون هو مسؤولا بأي صورة من الصور أمامهم أو تجاههم، فإن قطع الكهرباء والماء عنهم بمناسبة وبلا مناسبة كان ذلك أمرا عاديا وطبيعيا، وإن اعتقل أولادهم كان اعتقالهم لغرض لا حق لهم في السؤال عن مسوغاته، وإن دفنهم أحياء، فلأنهم اقترفوا ذنبا عظيما يعاقبهم كي يحمي غيرهم منه، وإن قصف بيوتهم ودمر أحياءهم فذلك مكرمة من مكارمه، التي لا يدركون كنهها وليس من حقهم معرفته.
كان سوريون كثيرون جدا يخشون أن يكون النظام قد نجح في قتل روحهم المعنوية، وكانوا يؤمنون أن تصرفاته انصبت جميعها على كسرها. واليوم، وقد بينت الثورة أنها حية ومقاومة، فإنه يصب حقده على حياتهم ذاتها، ويقضي عليها بجميع وسائل الحرب التي في حوزته، مستخدما قدرا من العنف لا سابقة له في علاقات أي حكومة بشعبها، أذهل العالم الذي لم يعرف مثيلا له حتى خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما وقع في تاريخه القديم والحديث من حروب دام بعضها سنوات وعقودا، لكنها خلت من الممارسات الوحشية التي تميز حربه ضد من يسميه «شعبه».
إذا ما قارنا حجم تقدمات النظام للشعب السوري بحجم الضحايا الذين سقطوا على يديه منه، كان من حقنا القول: إنه نظام موت وطني وليس ما ادعته أجهزة الكذب المدربة عنه، والدليل: ما إن انطلقت الثورة حتى بان على حقيقته، عاريا ومفضوحا، وتأكد أنه نظام يديره قتلة يكرهون الحياة والإنسان، لذلك لم يتركوا له أي خيار غير أن يقضى على أيديهم، أو ينال حريته منهم بالقضاء عليهم، بعد أن أيقن أن حريته هي ضامن وجوده الوحيد!
منقول عن الشرق الاوسط