وسام سعادة
حليفان رئيسيان لبشّار الأسد على الأرض اللبنانية: حسن نصر الله، وميشال عون. كان وقت لمْ يرَ فيه الرجلان أمراً يحدث في سوريا. ثم كان وقت رأيا فيه حسماً سريعاً للوضع لصالح النظام. الأوّل اتصل “بأصدقائه” في أيّام “الحسم النهائي” في بابا عمرو فأخبروه بأنّ لا شيء في حمص، فلم يكذّب خبراً، الى ان “وجد نفسه” بعد ذلك ببضعة أشهر، يعترف بأنّه يقاتل في حمص، دفاعاً عن “القرى اللبنانية” على الأراضي السورية. والثاني، وعدنا بـ”ذات ثلاثاء” تنتهي فيه العملية التأديبية البعثية للشعب السوريّ، لكنه وجد نفسه بعد ذلك، مثلاً في أيلول الماضي، يحذّر بجدّية من سقوط النظام الأسديّ ويقول بالحرف “ان تغيير النظام في سوريا قد يقضي علينا وعلى لبنان لأن الأنظمة التي ستأتي تفكيرها يرجع الى القرن الرابع عشر”.
اللافت في هذا القول، ومن بعد الذعر الذي يطبعه من حتمية انتصار الثورة السورية، ان صاحبه يعتبر الموقف من تغيير النظام في سوريا مسألة تعني الداخل اللبناني. وكان عون نفسه، برّر نقلته من “سيادي” الى “اسدي” بعد عودته من المنفى، بحجة ان تغيير النظام في الشام ليس بمسألة تعني الداخل اللبناني، بل حاول ان يروّج وجماعته العكس. اللافت هو ربطه “فكر” الثورة السورية بـ”القرن الرابع عشر” الميلادي. وهذا يعيدنا بشكل أو بآخر الى بعض من اطروحة “الصراع على تاريخ لبنان” لأحمد بيضون. فالقرن الذي اختاره عون لنبذ الثورة السورية بحجة انتسابها اليه هو قرن اصطنعت له كل جماعة لبنانية تاريخاً خاصاً لنفسها، ولتاريخ منطقة كسروان بالأخص فيه. فالشيعة يرون ان المماليك اخرجوهم وقتها من كسروان وجبيل، وبعض الموارنة يرون ذلك ايضاً، وثمة من يرى العكس، اي ان الموارنة كانوا المستفيدين في بعد زمني معيّن من هذا التهجير المملوكي للشيعة. أما ميشال عون فهو من حيث يدري او لا يدري يضغط كل هذا فوق بعضه بعضاً ويسقط على القرن المذكور ثنائية الكراهية التي يروّج لها اليوم. فمن جهة، المماليك وابن تيمية والثورة السورية وتيار المستقبل، وكل هؤلاء من القرن التاسع عشر، أما محمود احمدي نجاد وبشار وماهر الأسد وحسن نصر الله فمن عصر ما بعد الحداثة. وعندما يقيم عون الدنيا ويقعدها ضد “شريعة الاخوان” كما يسمّيها، فكما لو انه لم يوقع اتفاقاً تبعياً مع “حزب الله” قبل ست سنوات، او ان “حزب الله” حزب ديموقراطي ليبرالي علماني، لا شريعة غيبية له، ولا ولاية فقيه، ولا حرساً ثورياً هو امتداد له. اكثر من ذلك: ان لم تكن عقلية “أحكام أهل الذمّة” هي تلك التي تجعل الجماعة المسيحية في قيد الجماعة الشيعية المسلّحة التي يحصر بها السلاح، وتناط بها الحماية، فما الذي تكونه “الذميّة”؟!
أم انه “تحالف الاقليات”؟
لكن حينها هو تحالف بين اقليات مسلّحة ومقاتلة وبين اخرى لا تملك السلاح ولا تملك غير كيل المدائح للسلاح الاقلوي، البعثي او الخميني، وكيل الأهاجي لمن يقف بالمرصاد.
وتيار العماد عون كان عمد بالفعل الى محاكاة هذا التصور لتحالف الاقليات قبل سنوات عديدة. منذ عودته وتفاهم مار مخايل، وصولا الى سفره لسوريا ولقائه بشار الاسد وحجّه الى براد. فاذا كان حسن نصر الله وجد ضالته في ما اسماه “قرى لبنانية في سوريا”، فان ميشال عون قبل ذلك بكثير كان لجأ الى التلاعب بالهويات الوطنية على هواه: فالأقلوي السوري شريك اللبناني (المحض) في “المشرقية”. أما الأكثرية السنية فعنصر دخيل، قدم الينا بالفتوحات. هذا أيضاً معنى آخر لحديث ميشال عون عن “العودة الى القرن التاسع عشر”. عنده ان الاكثرية السنية ليست من هذه البلاد، وانها اما دخيلة واما مؤقتة. أمّا نظام بشار الاسد فأصيل سواء تحت عنوان “ما في شي صير بسوريا” وما تحت عنوان “ستطول الى ابد الآبدين”.
حسن نصر الله لا يمكنه في المقابل ان يستعير تماماً العبارات نفسها. هو في النهاية قائد لجماعة دينية مهدوية مسلّحة، ولا يمكنه ان يتظاهر بحمل مشعل التنوير والعقلانية في مواجهة الاسلاميين السوريين. لكن الغريب ان هذا تحديداً ما يفعله. يحدّثك عن ظلامية المسلحين الاسلاميين في سوريا، ثم يتحدّث الى مقاتلي القاعدة او من هم مشتبه بهم بعلاقتهم معها، فيقول لهم انهم قد غرّر بهم.
العام الماضي كان عام البدع في طريقة تناول “السيد حسن” للثورة السورية. بدأه باستعجال الحسم لصالح النظام وانهاه بالاطمئنان الى انها “طويلة، طويلة”، ملقياً مسؤولية ذلك على المعارضة التي ترفض الحوار.
المدهش هنا، ان نصر الله القى المسؤولية على هذه المعارضة بهذا الشكل، لكنه اختزال الثورة في جبهة النصرة والنصرة في تنظيم القاعدة دون اي تخصيص او تمييز، فهل انه يدعو مثلاً لحوار وطني بين النظام البعثي وتنظيم القاعدة، ام انه يعوّل على “تفاهم مار مخايل” بين النظام والتنظيم في وجه متن الثورة السورية؟
هو اكتفى بمخاطبة التنظيم. وكان فعلها سابقاً ذات يوم، ايام التفجيرات المروعة في العراق. النصيحة التي يسديها للمسلحين العابرين للحدود انهم مغرّر بهم، وانه نصب لهم شرك من طرف الامبريالية الغربية لكي يجري اصطيادهم واستئصالهم.
من حيث “لا يدري” تطوّع زعيم “حزب الله” بذلك لاعتبار تنظيم القاعدة وليس تنظيمه هو الد اعداء الاستكبار العالمي. والا، لماذا تنصب لهم الامبريالية مثل هذا الشرك الدموي المتواصل؟ طبعاً، كان يمكن لنصر الله ان يكون اكثر انسجاماً مع منطقه لو قال: يا اخوتي في تنظيم القاعدة، ان الاستكبار العالمي ينصب شركاً دموياً لنا ولكم كي نتقاتل نحن ويفوزوا هم. لكنه لم يقل شيئاً من هذا القبيل. هو خارج المصيدة. هذه قناعته. هو شريك في الصيد. هذه ايضاً قناعته. هو عدو الاستكبار. نعم، لكن كيف؟
في المقابل، سجّل حسن نصر الله سابقة هذا العام: اعترافه بأن حزبه ضحى بخيرة شبابه على مذبح اهواء الضباط الاسديين في لبنان، كما حدث في مجزرة ثكنة “فتح الله”، وانه بذل كل ذلك فداء للمقاومة، والوجهة الاساسية للصراع، أو قبلته، فلسطين. قالها نصر الله في معرض محاججة الاستقلاليين اللبنانيين الذين عبثاً “يؤلبون” الماضي نابشين في ذكرى ثكنة فتح الله. لكنه لم ينتبه الى انه ما كان ليجرؤ على هذا الكلام لولا بطولات “الجيش السوري الحرّ”.
ولأن الوجهة “فلسطين”، فقد تعرّض “حزب الله” لمأزق جديد مع اتضاح موقف “حركة حماس” من الموضوع السوريّ، علماً ان مشكلته الكبرى تبقى ازدواجية موقفه، وموقف ايران من الصعود “الاخواني” في طول العالم العربي وعرضه. من جهة، هذا الصعود يوحي في مكان ما، بمحاكاة ولو نسبية للثورة الايرانية، رغم ان هناك الف فارق وفارق، وكان المرشد علي خامنئي قد استبشر منذ ثورتي تونس ومصر قرب قيام “شرق اوسط اسلامي”. ومن جهة ثانية، يركّز “حزب الله” اكثر فاكثر اتهامه للثورة السورية بأنها “اسلامية” بعد ان كان يتهمها بأنها “اطلسية” في المقام الاول. الآن، صار يكتفي بتوسيع وتمغيط حجة واحدة ضد الثورة: وهي ان “جبهة النصرة” صارت على لائحة الارهاب الأميركية. هل فاته انها على هذه اللائحة، الى جانبه؟
“شَاوُلُ وَيُونَاثَانُ الْمَحْبُوبَانِ وَالْحُلْوَانِ فِي حَيَاتِهِمَا لَمْ يَفْتَرِقَا فِي مَوْتِهِمَا. أَخَفُّ مِنَ النُّسُورِ وَأَشَدُّ مِنَ الأُسُودِ”، هذا ما جاء في المرثية العتيقة.
نصر الله وعون لم يفترقا في موقفهما المعادي لثورة الشعب السوري لكن هذه الثورة جعلتهما يقولان على التوالي الشيء ونقيضه: خارطة كاملة من الأمثلة على تهافت المنطق. اكتفينا بايراد نتف منها قليلة.