صناعة نصرالله بدأت في الماكينات الإيرانية والسورية (البعثية) وشاركت قناة الجزيرة ، في عمليات إبراز صورة المجاهد اللطيف خفيف الدم.
العرب :إبراهيم الجبين
نصرالله صعد سلالم الزعامة بعد اغتيال عباس الموسوي
“أيها الإخوة أيتها الأخوات أيها العلماء.. ابحثوا ودققوا وستتأكدون أن مشروع أبي سفيان منذ بعثة محمد إلى وفاة أبي سفيان كان في الحرب الظاهرية، أو في مواقع النفاق كان مشروعه دائماً كيف يقضي على دين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، كل دين محمد، ثم جاءت تطورات وأحداث”
كانت تلك الكلمات من خطاب لحسن نصرالله، من على منبر كتب عليه (حسين مني وأنا من حسين) وكان ذلك قبل أن تبيضّ لحية نصرالله بسبب حربه على إسرائيل التي اكتسب مجده من مقاومتها، وجلبها كلّ مرة لتدمير لبنان، ولم يقل نصر الله يوماً قبل الثورة السورية شيئاً يفسّر تلك الحرب الظاهرية التي يتحدّث عنها والتي لا نعرف كيف يستمر في البحث عنها اليوم؟ ولا يقول لنا كيف يمكن أن تساعده ملايين المسلمين من الظاهريين في الانتصار فيها.. حرب الظاهر على الباطن؟ حرب من على من؟
ولكن حسن نصرالله في هذا الخطاب يريح المحللين والمشرحين، فيلخّص المهمة التي جاء من أجلها يوماً ذلك الرجل متوسط القامة، متورّد الخدين، الذي ينظر إليك من خلف نظّارة تقليدية التصميم، سميكة العدستين، بعينين لا تقولان الكثير لمن أراد قراءة الملامح، ويمكنك أن تجد نسباً موثقاً لكثير من علماء الشيعة في لبنان والمنطقة، ولكن سيصعب عليك العثور على شجرة تنسب حسن نصرالله إلى بيت النبوّة.
ولكنه سيّد، بفضل أمور كثيرة ساهمت في تسييده على المشهد اللبناني، أوّلها دون شك رفضه للحوزة اللبنانية (التشيّع اللبناني العربي) وانحيازه إلى مدرسة (قم) التي غادر إليها حسن نصرالله الشاب في ذروة العمل اللبناني المقاوم سنة احتلال إسرائيل للبنان واجتياحها لأول عاصمة عربية بعد القدس، حيث فضّل الشاب ذو الاثنين والعشرين عاماً حمل سلاح الحوزة الفارسية على سلاح المقاومة الذي حمله معظم الشعب اللبناني بمسلميه ومسيحييه، بعلمانييه ومتدينيه، بمواطنيه ولاجئيه من فلسطينيين وعرب.
درس نصرالله العلوم (لم يقل يوماً ماذا كانت وفي أي اختصاص نمت ونبغ فيها) في قم بعد النجف في العام 1982، بعد أن انضم إلى أستاذه عباس الموسوي كفيله الشرعي عند محمد باقر الصدر، وبعد أن خلعا بيعة الولاء لأفواج المقاومة اللبنانية التي أسسها الإمام موسى الصدر بالشراكة مع الثعلب السياسي نبيه بري، منفصلين في تكتّل أطلق على اسمه دون حياء (حزب الله) في استناد إلى حديث الفرقة الناجية، الذي ينسب زوراً إلى النبي محمد، لتصبح كل الفرق الأخرى في ضلالة وفي سعير جهنم إلا هذه الفرقة، فحزب الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولا يحاسبون ولا يُسألون، ولا يفعلون ما يقولون.
وكان لسلسلة من العمليات التصفوية في لبنان، والتي تجلّت في تطهير لبنان من وجوهه المدنية، ومفكريه وسياسييه ذوي البعد القومي أو الإسلامي أو المسيحي المنفتح، أثرها في إخلاء الساحة لوكيل المرشد الخامنئي حسن نصرالله.
فكيف يمكن لشاب عائد من إيران المنهكة في حربها مع نظام صدام، إلى لبنان الذي اتخذ كلّه صورة بيروت المدمّرة، أن يحتل مقعده على طاولة عريقة لطالما ضمّت كبار شخوص لبنان وأعيانها، شركاء في التاريخ وفي الدم المراق، شركاء في اللعبة السياسية أو في الخراب اللبناني الذي تواصل من أوساط السبعينيات، حتى مجيء المخلّص ذي العمامة السوداء، والذي وجد في كرسي (عدو إسرائيل) مدخلاً له ولتياره، ولم يكن تياره سوى عصبة من المتطرفين الرافضين للفكر المدني الذي تمسّكت به حركة أمل، حاضنهم الأساسي، والذي ميّز لبنان وصار بصمة له، فلم تشهد بلاد الجبل والبحر انجرافاً فكرياً نحو التشدّد إلا على يد تلك العصبة التي (تلقّت علومها في النجف وقم.. دون أن ندري ما هي تلك العلوم وهل هي في الحديث أم الفقه أم التفسير أم مقاصد الشريعة أم سواها).
ولم يكن قبلها حسن نصرالله سوى بائع خضار بسيط في دكوانة بيروت، أجيراً عند والده عبد الكريم نصرالله، ساعياً ربما إلى مكانة بين رفاقه وأقرانه لعل التديّن يأتي بها أو يخفف لهيب التعطّش إليها، ولم يكن هذا ليضيره، أو ينتقص منه، فطامح كهذا لابدّ أن تتلقفه الأيدي، سواءً بسواء، أيدي الشر أم تلك الأيدي البيضاء التي كانت توثّق شهادات صبايا لبنان وسوريا وشبابهما في طريقهم إلى عمليات فدائية وطنية (غير دينية) دفاعاً عن حرية لبنان، كان جمرتها ووقودها المؤمنون بالفكر القومي السوري ـ آنذاك ـ واليساريون من المعجبين بغيفارا وكارلوس وأبي جهاد وأبطال المرحلة المتأججة.
وبدءاً من مرحلة ما بعد اغتيال عباس الموسوي أخذ نصرالله يصعد سلالم الزعامة، ولم تتردّد صحف النظام القومي العلماني في دمشق بوصفه (السيد حسن نصر الله سيرة ذاتية.. قوة شخصية وعبقرية) كما أوردت صحيفة الوحدة السورية الرسمية على سبيل المثال فقط وليس الحصر، في عددها الصادر في الخميس 3 / 8 / 2006.
ولم يتورّع الصحفي الناصري العلماني محمد حسنين هيكل في الكتابة إلى حسن نصرالله معزياً بوفاة نجله البكر (هادي): (لا أعرف ماذا أقول لك؟ فلا أنا راضٍ عن كلمة عزاء أواسيك بها، فأيّ كلمة عاجزة، ولا أنا قادر على الصلاة من أجلك، فصلاتك أقرب إلى عرش الله من أيّ قول أو همس يصدر عنّي أو عن غيري).
وبدأت صناعة نصرالله في الماكينات الإيرانية والسورية (البعثية) وشاركت قناة الجزيرة التي تتقاطع عند كل المفارق حين يعلو الصوت بالحديث عن الحركات الدينية، في عمليات إبراز صورة المجاهد اللطيف خفيف الدم وتظهيرها، صاحب الطرف في حواراته، الخجول في ظهوره التلفزيوني الأول مع المذيع التونسي غسان بن جدّو بعد القرار الإسرائيلي بالانسحاب من جنوب لبنان، في العام 2000، (إسرائيل التي لم تكن بعيدةً تماماً عن ذلك التصنيع المنظّم لكاريزما نصرالله وهي التي صنعت خصومها بامتياز ليكونوا المعادل الموضوعي لتطرفها الديني) وكان بن جدّو حريصاً على إظهار انبهاره الكبير بضيفه عشية انسحاب إسرائيلي سلميٍّ تلقائي، حققت منه إسرائيل مكاسب كبرى مثّلها الاستقرار والهدوء في الجليل، وانتعاش نهضة اقتصادية وزراعية وسياحية في المناطق التي كانت متوترة والحياة فيها مقتصرة على الضرورات، حيث توقفت العمليات العسكرية والقصف بالكاتيوشا إلا في مناطق مزارع شبعا (السورية والتي لا يعترف نصرالله بسوريتها لتبرير وجوده حزباً عقائدياً مسلحاً في الساحة السياسية اللبنانية).
وتراجعت الخسائر الإسرائيلية من 22 ـ 23 قتيلا في السنة إلى مجرّد جنود مخطوفين، و لم يكن أحد أخطر صانعي الواقع في خارطة الشرق الأوسط من الموافقين على ذلك الانسحاب الإسرائيلي، إلى الشرق من بيروت حيث (الشام) وحافظ الأسد الذي استشاط غضباً حين علم بنية إسرائيل سحب جنودها وآلياتها من الجنوب، الأمر الذي اعتبره إحراجاً كبيراً له، فهو لم يتمكن من استعادة الجولان بعد أن خسرها شخصياً حين كان وزيراً للدفاع في العام 1967 أو طيلة سنوات حكمه الثلاثين، وفي الوقت ذاته، لم تكن شخصيته الفريدة، لتقبل بظهور فتى يعدّه هو أحد أدواته في المنطقة، ليتحوّل إلى زعيم ترفع الملايين صوره، في مسيرات خرجت من المحيط إلى الخليج محتفيةً بالبطل الجديد.
وقد كتب حينها مارتن إنديك ، الدبلوماسي الأميركي الإسرائيلي المعروف، ونائب رئيس معهد بروكينجز حالياً، ومبعوث السلام الأميركي إلى الشرق الأوسط، أن الفارق ما بين حافظ الأسد وبشار الأسد في التعامل مع حسن نصرالله، أن الأب لم يكن يتعاطى مع نصرالله بأفضل من تعاطيه مع أي شخصية لبنانية أخرى تحقق المصالح اللبنانية، وهو الذي عرف بتعاليه العسكري على جميع المتحدرين من منابع السياسة والفكر والدين، في الوقت الذي احتفظ فيه ابنه بشار الأسد بإعجاب شخصي بنصرالله، الأمر الذي سينعكس على طبيعة العلاقة ما بين الاثنين بعد وصول بشار إلى السلطة، وهو ما كان، فقد تحوّل التنسيق المسبق الذي بناه حافظ الأسد على أساس السمع والطاعة، إلى انصياع كامل من قبل ابنه لمشروع نصرالله ومن يقف خلفه في قم.
ولن ينسى التاريخ لحسن نصرالله، جريمته الأخطر والأكثر وحشية من احتلال القرى السورية في القصير، وقصف المدنيين السوريين، وغزو الأراضي السورية، ومحاولة زع خلايا لحزبه (حزب الله) في أكثر من عاصمة عربية وإسلامية وأوروبية، ألا وهي تكريسه لشكل جديد من التشيّع وتمزيقه لجميع أواصر المودة والعيش المشترك التي ألفها السنة والشيعة في العالمين العربي والإسلامي، وصناعته للموت والكراهية في خط نارٍ صنع بعناية وخبث شديدين، ليفصل ما بين فئتين من المسلمين، ما كانت لتفرّق بينهما حربٌ طاحنة دارت رحاها تسع سنين ما بين عراق صدام حسين وإيران الخميني، فبقي الشيعة والسنة خارج تلك المعادلة، وظلّت حساباتها سياسية استراتيجية، غير مذهبية، على الأقل عند الشعوب، رغم محاولة إعلام الطرفين توظيفها بأي صورة، ولكن عالم ما بعد ظهور سيد المقاومة، لم يعد فيه ما كان قبله، من شفافيات رائقة خلطت الشيعة والسنة في العراق وإيران والخليج وبلاد الشام، فلم تكن تثير حساسية أحد الأغنية الشهيرة التي صدح بها ناظم الغزالي منقولة عن تراث العراق العريق (أريد أبكي بالعباس وألطم بالحسين) التي انتشرت في الأصقاع وما تزال أكثر وسائل الإعلام العربية تعصباً للسنة تبثّها دونما تحفّظ، ولم نتعرّف على الفكر الشيعي إلا عبر كبار ناقليه ومؤرخيه من عرب ومسلمين ومستشرقين، قدّموه كنهرٍ صوفي مبنيّ على المحبة لآل بيت رسول السنة والشيعة معاً، قدّمه هنري كوربان، وقدمه لويس ماسينيون، وقدّمه الفيلسوف المصري الكبير عبدالرحمن بدوي كحركة تحرّر وتطوير عربية وإسلامية، ولم نعرف الفكر الشيعي الثأري إلا مع ظهور ثمار مشروع الخميني في المنطقة، وأحد أخطر تلك الثمار وأهمها منتظر صاحب الزمان نصرالله ذاته، وكيف يمكن أن نبيع نصر الله كل ذلك الإرث المشترك، الذي بدأه سعدي الشيرازي، وعمر الخيام، وانتهى إلى الوزير المثقف سيد عطاء الله المهاجراني، ومن قبله المغنية الإيرانية الخالدة (كوكوش) التي تنفسنا في طفولتنا شذاها ونعيد اليوم اكتشافها بعد حين من الدهر، (من أوماده آم.. من أوما ده آم.. .) ( أنا مقبلة على انتفاضة الحب.. .أتمنى يا حبيبي أن تعمّر مئة سنة.. .بقربي وتكون جاري .. .لتكون جاري وتظلل عليّ.. .علّك تكون من نصيبي أنا المسكينة.. .الحب جاء مخيماً في صحراء قلبي .. .رابطاً سلسلة الوفاء إلى قدميّ.. .يا حبّ إن لم تدرك نداء قلبي.. .يا ويح قلبي لنرحل من هذه الديار كلينا.. .أنت تمسك بيدي وأنا أتعلّق بثيابك.. لنصل إلى مكان يحل التعب فيه بنا.. .فتصاب أنت بهم الوحشة وأنا أصاب بهمّك أنت) كوكوش التي رقصت طويلاً رقصة (بابا كرم) الفارسية الساحرة، ولعلّ أكثر ما سيذكره موثّقو الربيع العربي للكاتب السياسي السوري حبيب صالح، اجتراحه لتعبير (جدار برلين الشيعي السني) الذي اتهم ببنائه نظام بشار الأسد والمحور الإيراني كلّه، جدار الفصل الذي مزّق المنقطة، وأعادها إلى الوراء إلى عصر أبي سفيان!
جريمة شق الأمة، وتمزيق خلايا المجتمعات العربية والإسلامية، جريمة ضد الإنسانية، وجريمة إبادة، وهتك أخلاقي واجتماعي كبير، وبثٌّ لمناخ الكراهية والحقد والبغضاء بين مكونات الشرق، إذ لم تنحصر جرائم نصرالله وفرقته الناجية، بالاغتيال المباشر الذي مارسه في لبنان جازّاً رؤوس رموز الحرب السفيانية، حتى لو كانوا من غير المذهب السني، أو من أتباع غير الدين الإسلامي أو حتى من غير المتدينين مثل اغتيال جورج حاوي الزعيم الشيوعي رفيق غيفارا، هو من الخسارة الكبرى للبنان والعالم.
وليس من حق العالم العربي والإسلامي بسنته وبقية طوائفه محاسبة حسن نصرالله على جريمته تلك، بل إن على الشيعة العرب وإخوتهم في المذهب في أنحاء العالم، واجب أخلاقي يتمثّل في ردع نصرالله ومن يقف خلفه، ووضعهم في قفص اتهام تاريخي حقيقي، جديرٍ بمن ينظرون إلى أنفسهم على أنهم من مفارق التاريخ، ومن الخارجين على الظلم في كل زمان، ولن يصمد تيار الوفاء لـ (المقاومة) الذي أسس له حسن نصرالله على ترسانة من الكراهية، أمام تيار الوفاء لـ (الحب) الذي أسّست له كوكوش والمولعون بالحرية في أرض الشرق، ومن سيذكره التاريخ بعد قرنٍ من الآن لن يكون صوت نصر الله الأجش المرتبك وهو يهدّد بمحاربة الشعب السوري بنفسه على الأرض السورية، بل سيكون صوت العقل والتحرّر والجمال والتقدّم إلى الأمام وليس في سراديب مظلمة لا أول لها ولا آخر.