لن أكشف اسمك، أو حتى جنسك. أنت امرأة أو رجل، لن يعرفوا شيئاً. سيعرفون فقط أنك لم تعد تحيا بيننا، وأن الموت غيّبك قبل أن أعى بوجودك.
لو أن أحدهم أخبرنى أنك ستختفى.
لو أن مرسالاً يأتى من عالم الغيب لا ليخبرنا بأن الموت قريب، بل لينبّهنا بأن نتعنى بالمغدور.
لو أنك حىٌّ كنت سمعت بالعواصف التى زمجرت الدنيا بعد خروجك من الإطار، إطار الأكسجين الملوث. هذا الفرق بيننا وبينك: أنك لا تتنفس الأكسجين، أن رئتيك لم تعودا صالحتين لاستيعاب الهواء المكفهر الذى يغلف الأرض، لم تعودا تنكمشان وتنتفخان على وقع القتل والتفجير.
لا أعرف إن كانت مشاعرك أزهقت مع روحك، ومات الألم بداخلك، فلم يعد بكاء طفل يعذبك، ولم تعد صرخات الجياع تسد قابليتك عن الطعام، أو تنهدات الحرمان تغضبك وتستنزف أعصابك.
أنت باختصار ميت. مجرد شبح.
الفرق الآخر أنك لن تقرأ بعد اليوم. ربما لديك صحف من نوع آخر تُوزَّع فى عالمك الجديد القابع بالضفة الأخرى من الكون، لكنى لن أتخيلك تتصفح كتبنا وأشعارنا ومجلاتنا وصحفنا، أو ترتاد معارض كتبنا، أو تقرأ بيانات ويافطات توجَّه للحاكم قبل توجهها للمهملات.
ما نوع الكتب التى تقرؤها؟
ماذا يقرؤون فى العالم الآخر؟
عرفنا أنباء عن رفاهية مطلقة وعن عذاب مطلق، لكنى أتساءل أحياناً: هل يقرؤون؟ وماذا سيختار أبناء كل كتلة؟
لو عرف الإنسان بأمر موته، هل تكون القراءة ضمن نهايات تفكيره فى الاستمتاع قدر الإمكان من الحياة، أم تكون الأولوية للاستمتاع برؤية الأرض قبل فراقها. من يفكر بتثقيف نفسه استعداداً للموت؟
«أملك أن أهديك ألحاناً شعرية من إبداع الانقلابى اللاأبالى الذى أيقظ العالم (الخيام) الشرقى الذى لم يكن الشرق ليخلد قيمته لولا ترجمة الشاعر الإنجليزى إدوارد فيتزجيرالد لرباعياته».
لو سُمح لك باصطحاب كتاب، فأى عنوان سيلتقى بذاكرتك؟
وعلى النقيض، لو اشترطت الحياة دخول عامها الجديد بكتاب أو كتابين، فماذا تختارون؟
عن نفسى سأختار نسخة قديمة أملكها من رباعيات الخيام، لا أنام قبل قراءة شىء منها، وأختار سورتى الكهف ويوسف.
رجل أو امرأة. أتيت على خاطرى أمس. لا أعرف إن كنت قد اهتممت بك كما يجب.
كلما تذكرتك قلت: لم يخبرنى أحد أنك ستنتقل فجأة. عمرك ليس كهلاً. وشهيتك للحياة فى أوجها، فكيف تم الانسحاب؟
أملك أن أهديك ألحاناً شعرية من إبداع الانقلابى اللاأبالى الذى أيقظ العالم (الخيام) الشرقى الذى لم يكن الشرق ليخلد قيمته لولا ترجمة الشاعر الإنجليزى إدوارد فيتزجيرالد لرباعياته. والأبيات التالية من ترجمة الخالد أحمد الصافى النجفى:
إن كنت تفقه يا هذا الفقيه.. فلم تلحو فلاسفة دانو بأفكار
هم يبحثون عن البارى وصنعته.. وأنت تبحث عن حيض وأقذار
كن حماراً فى معشر جهلاء.. أيقنوا أنهم أولو العرفان
فهم يحسبون للجهل من ليس.. حماراً خلواً من الإيمان
لا توحش النفس بخوف الظنون.. واغنم من الحاضر أمن اليقين
فقد تساوى فى الثرى راحل.. غداً وماض من ألوف السنين
رحم الله الخيام. ورحمك يا صديقى. وأطال فى أعمارنا وأعمار من نحب وأسعدنا من الداخل.