نشأت العقيدة الزرادشتية على اساس فكرة الصراع المستمر بين قوتين رئيستين هما ,, أُهرمزد ,, او ,, أهورا مزدا ,, اي ,, الخير ,, و ,, أهرمان ,, او ,, أهرمي نيو ,, اي ,, الشر ,, وكان هذان العنصران الرئيسان توأمين [قرينين] ، وكان عليهما ان يختارا بين الخير والشر، وذلك في بداية الخليقة ، حيث اختار أهرمزد الخير ، بينما اختار أهرمان الشر.
تبدو فكرة التوائم السماوية موحية بمساواة اصلية في المنزلة ، كما ان هذا لايفتقر الى المساواة اذ يجب ادراك حدود التفسير الواسع المتنوع القائل بوحدة الوجود الكامن وراء ,, غاثا ,, لدى زرادشت ، والذي تم وفقه ايجاد ,, أهرمزد ,, و ,, أهرمان ,, بوساطة مخلوق سماوي أولي هو ,, زروان ,, الذي كان إلهاً زمانياً مكانياَ خنثوياً .
وأيد الرهبان الزرادشتيون الميديون هذه العقيدة الزروانية بقوة فريدة في القرن الثالث الميلادي حينما كانت مسيطرة في العهود الاخمينية ، وكان هذا ايضا الحد الفاصل للدين الايراني ، التي تصادمت معه الديانة المسيحية في أرمينيا وبلاد الرافدين الشمالية ، فقد كان كهنة الكنيسة ينتقدون الزورانية ، وذلك عندما هاجموا التعاليم الزرادشتية .
لقد عالجت الميثولوجيا الزروانية الرئيسة مولد التوائم السماوية بدقة ، وقالت:
ان زروان اراد ان يكون له ابن ، فانتظر لمدة طويلة من الزمن لتحقيق هذا الهدف ، ثم استولت عليه الشكوك فيما اذا كان بالفعل سيخلف ذرية له باعتباره مخلوقا سماويا خنثويا، وأدى هذا الى حمله بأهرمان الشرير الذي انجبه في البداية ، وكان قبيحاً كريهاً ، ثم ولد التوأم الثاني,, أهرمزد,, وكان جميلا وطيباً ، وبما ان أهرمان قد ولد اولا ، فقد كان باستطاعته ان يطالب بحقوق البكورة في الإرث كله ،وتلقى الكثير من قوة ابيه زروان على نصف مجالات العالم ، وعلى هذا الاساس فان أهرمزد اصبح ملكا هناك ، اي,, شاه ,, اما أهرمان اصبح حاكماً مطلقا ,, فانكس شاه,, ومنح من جانبه نفوذا وسيطرة على النصف الثاني من العالم ، ولذلك فان انتصاره على توأمه سيكون في النهاية انتصارا له . [ نلاحظ هنا بان عنصر الشر له طغيانا اكثر من عنصر الخير ، وهذه هي حقيقة نشوء وبروز الديانات المختلفة لتجعل الشر هو السبب لظهور المخلّص ليطهّر الناس من افعاله ، ويظهر لنا هذا المخلّص بهيئة آلهة او رسل وانبياء ] .
والى هذا الحد نجد ان وجهة النظر الازدواجية الموجودة في تطور الزروانية والداعية الى وحدة الوجود تخفف من غلواء الثنائية المتزمتة بجعل أهرمان شاه فقط ، وبجعل أهرمزد فانكس شاه هذا من ناحية ، وتقضي من ناحية اخرى بان يكون الانتصار النهائي لأهرمزد المنتصر في النزاع بين حاكمي العالم ، وانه صاحب الافضلية منذ البداية .
وليس هناك من شك ان أهرمان قد عدّ ربّا حقيقيا في هذا النظام الديني ، وليس مجرد شرير فقط ، وكان الكتاب الاغريق قد اعلنوا مرارا ان أهرمان لم يكن ربْا بل شريرا ، ومع ذلك فان المجادلات المسيحية تؤكد انه قد نظر اليه بمثابة رب ويجل ، كما وعدّ ,, رباً قادراً في غضبه ,, وان ,,المثراوية ,, التي كان قد تحقق امر ارتباطها مع ,, الزروانية ,, منذ وقت طويل قد اكدت ذلك وكرست له ,, المذابح ,, وقد كتب عليها ,, الى الرب أهرمان ,, وقدمت الاضاحي على هذه المذابح اليه بتقديره ربّاَ .
كان النور العنصر الهام للمخلوق الاسمى حيث سيطر عليه ، واعتُقد انه مادة المخلوق السماوي ، او بشكل ادق ; مادة يمكن فهمها ، وهي مختلفة كليا عن العقل والمادة وله ـــ النور ـــ في الوقت ذاته له صفة التجلي . وكانت مملكة النور مؤلفة من نور الارض ، وضوء الفضاء ، وهي مندمجة تماما ومتطابقة بشكل جوهري مع الاله الاسمى لتصف حالة الابداع السماوي .
ان مفهوم زرادشت للكائن الاسمى ــ اي زروان ـــ كإله ذا وجوه اربعة هي (( زروان ، النور ، القوة ، والحكمة )) بجعله اله السيطرة والتحكم ، وهذه الصفة تبدو اكثر وضوحا في النصوص الايرانية المتوسطة ، كما تظهر كلمة ( الله ) في اللسان الفارسي المتوسط واللغة الصغدية باسم,,زروان ,, .
كانت مملكة النور مترامية الاطراف وغير محدودة على ثلاث جهات الى الشمال ، والى الشرق ، والى الغرب، وقد تلاقت مع الظلام في الجنوب .
لقد ساد السلام والانسجام المطلقان في مملكة النور، كما تم وصف جمال الاله المكلل بالورود باقوال جزلة، ووقف امامه اثنا عشر فصلا جميعها مغطاة بالورود ايضا ، وقد غطته بمزيد من الورود والازهار، ودعيت هذه الفصول باسم ابنائه ، وقد جرى توزيعهم بان قام ثلاثة ارباب منهم في منطقة سماوية محددة ، وذلك ضمن مخطط ذي مجموعات ثلاثية اربع تتوافق من جديد مع النموذج الرباعي ، وتم دفع ريح لطيفة واهبة للرخاء عبر المناطق السماوية حيث جرى الرحيق باستمرار من خلالها .
وتباينت حالة مملكة الظلام تباينا تاما وحادا مع تناسق ووئام مملكة النور، حيث ثار سكان عالم المادة ( عناصر الظلام )، ودفع بعضهم بعضا الى هنا وهناك ، وكانوا دائما يركضون باستمرار ، وادت حركة الدوران وعدم الاستقرار هذه فيما مضى الى ديمومة عدو الظلام نحو الحافة القصوى للمملكة ، حيث ارتكز الظلام على النور وعندما لمح الشرير واعوانه مملكة النور استبد بهم شوق عنيف الى هذه المملكة السامية الرائعة ولهذا اوقفوا نزاعاتهم وتشاوروا بعضهم مع بعض حول كيفية التسرب الى وسط النور ومن ثم الاندماج به ، واعدوا انفسهم وسلحوها استعدادا للهجوم ، وانقضوا من الاسفل على مملكة النور، فاصبحت بذلك محاطة بالتهديد والاضطراب الخطير.
وتحتم الان على ملك النور والهه ان يخرج عن صمته المهيب ورقوده الذاتي وعن فيض وجوده ، لكي يدافع عن نفسه وعن مملكته ، حيث يجب عليه ان ينتقل من وجود التأمل الى وجود العمل .
روى المؤرخ الكلاسيكي ,, بلوتاخ ,, اثناء اقتباسه من مذكرات الكاتب ,,ثيويومبوس,, كيف هاجم أهرمان مع اعوانه الشريرين العالم العلوي ، وكيف اختلط بذلك الخير مع الشر وفق وجهة النظر الزرادشتية التي شهد بصحتها كتاب الحكمة ,, اكسرات,, المكتوب باللغة الايرانية الوسيطة ، وهي تقول ان العالم كان على شكل بيضة ، وذكر بلوتاخ هذا ايضا .
ومن ناحية اخرى كان الاله ـــ الكائن الاسمى ـــ تقياً ، ولذلك لم يكن ,, اهلا للصراع والنزاع,, اذا ماكان عليه ان يعمل ليحبط قوة الظلام؟ لقد استدعى ,, ام الحياة ,, [ وهنا لم يُستخدم تعبير ـــ خلقَ ــ بل الفعل ــ استدعى ــ مثلما جرى استخدام كلمة ,, قيرا ,, باللغة السريانية ، ومثلما استخدم المندائيون الاسم نفسه ايضا بهذا المعنى الخاص ، ثم ان تسمية ,, ام الحياة ,, تذكر بحقيقة الحياة الاولى والحياة الثانية ، وهي تسميات ظهرت مرتبطة مع ,, الطهارة ,,] .
وبعد ما تم استدعاء ام الحياة الى الوجود استدعت بدورها الانسان الاول المعروف باللغة السريانية ,, نشاقدا مايا ,, وهي عبارة تعني حرفيا ,, الانسان القديم ,, الذي كان من ناحية اخرى هو ,, أٌهرمزد ,, في التقاليد الايرانية أي ابن ,, زروان ,, الرب ذو الوجوه الاربعة التي وصفته بالانسان تجسيدا لمشهد الصراع الدائم بين الخير والشر ، والذي هو صراع بالاصل في داخل الانسان نفسه.
[ ان النصوص المكتوبة باللغة الايرانية الوسيطة قد تحدثت عن ,,الابن الحنون,, او استخدمت الكلمة الفرثية ,, كومارا,, وهي كلمة دخيلة من اللغة السنسكريتية وتعني ,, الشاب المراهق ,, وكما تعني في الديانة الهندوسية ,, الشاب المراهق ,, او ,, اله الحرب,, الشاب المسمى ,, شاندرا ,,] .
لقد ارتدى الانسان الاول درعه وشرع بالقتال مع قوى المادة والظلام والشر، وتكون درعه من خمسة من عناصره النورانية ، لم يشكل مجموعها درعه فحسب بل شكل ايضا جوهره وروحه وذاته الحقيقية ، ولذلك يمكن وصفها بشكل رمزي على انها ,, ابناؤه الخمسة ,, . وقد بذل الجهد خلال عملية انتقاء مجموعة متنوعة من الرموز للتعبير عن علاقة كانت في الحقيقة صعبة ومستحيلة فعليا ، ولا يمكن تحديدها داخل اطار صيغة منطقية . وعرفت العناصر النورانية باللغة السريانية باسم ,, زيواني ,, ــــ وهي; ، والريح ، والتراب، والضوء ، والماء ، والنار ـــ .
وهزم ,, امير الظلام ,, وحشوده الانسان الاول ، وسلبوه درعه ، او وفق ماذكرته رواية رمزية اخرى [ التهمت حشود أهرمان ابناءه الخمسة ] .
ومع ذلك كانت هذه الهزيمة مقدمة للانتصار، فقد عدت طوعية ـــ اذا جاز التعبير ـــ اذ نزل الانسان الاول بمحض ارادته الحرة الى عالم الظلام والمادة ، وسمح بتبديد عناصره النورانية ، وكانت نيته ان يصبح بذلك سمّاً قاتلاً للمادة; لقد التهم الظلام العناصر النورانية ، وقدم لنفسه بفعله هذا مادة ذات اختلاف جوهري كانت لاتطاق ، كما انها لم تفتقر الى التشابيه الاخرى وحصل هنا كما يحصل مع القائد الذي يضحي بطليعة الجيش ويقدمها لقمة سائغة لعدو متقدم لكي ينقذ الجزء الاساسي من جنوده او باستعارة ريفية ، مثل الراعي الذي يتخلى للذئب عن شاة من قطيعه كي لا يخسر القطيع كله ، وبالطريقة نفسها ضحّى الانسان الاول بروحه لقوى الظلام وسمح لها ان تلتهم ابناءه الخمسة ، واحاطت به الوحوش المفترسة وابناء الظلام الاشرار ، وقيدته ، وباتت مستعدة لان تلتهمه .
صحا الانسان الاول من غيبوبته ، واطلق دعاء تكرر سبع مرات ، وبعدها استدعى إله العظمة ثانيا ، الى حيز الوجود ، انه صديق النور الذي استدعى ,,البناء العظيم ,, الذي استدعى ,, الروح الحية ,, .
وتقدمت الروح الحية نحو حدود الظلام مع ابنائها الخمسة الذين استدعتهم ، واطلقت من ذلك المكان صيحة مدوية الى الانسان الاول المحتجز تحت الارض ، والذي اجاب بهتاف مدوّ ، وعُدت هذه ,,الدعوة ,, وهذه ,, الاستجابة,, ، على انهما شخصيتان سماويتان مقدستان ، وهما ستتحدان و تصعدان الى,,ام الحياة,, والى ,,الروح الحية,, .
كان الحوار الذي تطور بين ,,الدعوة,,و ,,الاستجابة,, ذا اهمية كبيرة لانه ارسى اساس الحالة التي تتكرر مراراً ، وفي كل مرة تجد روحاً على الارض ذاتها في ضيق ، فتطلق صيحة تنشد فيها الخلاص ، لتتلقى هتاف الحرية ….
لقد حددت الروح الحية ، التباين بين الوضع الحالي للانسان الاول وبين اصله الحقيقي وقدره ، وان اول سؤال يدل على قلق الانسان الاول قد خص به اقرباءه ابناء النور ، ويعني ، هل كانت تضحياته عديمة الجدوى ، ام تم انقاذهم ؟
هذا ماسنعرفه في الموضوع القادم من ,, عودة الانسان الاول ,, ..
المصادر
——–
ماري يويس و فرانس غرينيت ــــ الزرادشتيون ومعتقداتهم الدينية ـــ المجلدان الاول والثاني ـــ لندن ــ 1979.
محمد دنداميف ـــ التاريخ السياسي للإمبراطورية الأخمينية ــ 1989.
وليم مالندرا ــ الزرادشتية ــ استعراض تاريخي ـــ نيويورك ـــ2005 .
احسان يارشاتر ــ زرادشت ــ طهران ـــ 1975.
روبرت زهنير ــ معضلة الزرادشتية ــ اكسفورد ــ1955.
موضوع هام جدا شكرا لكم