“الإنسانية ليست دين إنما رتبة يصل إليها بعض البشر”…. سقراط
رغم أن سيرة تنظيم داعش غدت كسيرة الفايكينغ بفظائعهم وانتهاكاتهم وغرابة كل ما يصدر عنهم، حيث تنتقل أخبار تحركاتهم وجرائمهم كالنار في الهشيم عبر مئات المواقع الالكترونية وآلاف الصفحات الشخصية، مع ذلك تأنيت في الكتابة عن خبر وحشيتهم الأخيرة المتعلقة بحرق الفتيات الأيزيديات على طريقة الطيار الأردني معاذ الكساسبة، إلَّا بعدما تأكد للقاصي والداني شناعة ما قاموا به بحق الفتيات من جهة، ومن جهة أخرى ردود الأفعال السلبية على ما كتبه الشيخ أحمد معاذ الخطيب على صفحته الشخصية من قبل اخوانه المسلمين، الذين لا يعتبرون أفعال داعش ذا أهمية مقارنة بالذي يهدد دينهم ويعمل على تشويهه من خلال ذلك القطيع المأجور حسب زعم أغلب المدافعين عن الدين، وبدورنا نقول لهؤلاء الحريصين على دينهم مما يُلصق به أو يُنسب إليه بغير حق: إذا كان واحدكم غيوراً فعلاً على دينه الحنيف فليسعى جاهداً لتطهير دينه ممن يحاربون باسمه من ألوية التطرف أمثال الدواعش ومن يدورون في فلكهم، كما فعلها الأوربيون يوماً وخلصوا المسيحية مما علِقَ بها من قاذورات التطرف والإرهاب الديني.
فالمذكور أعلاه كان الدافع للكتابة عن فايكينغ العصر بالرغم من أن التنظيم المذكور لم يتبنى العملية رسمياً، إذ أتذكر بأني أشرت بهذا الصدد في مكانٍ آخر: (بأن من إحدى فضائل هؤلاء القتلة أنهم لا يجعلون الناس حيارى بعد كل جريمة يقترفونها)، ولا يدعوَن القاتل مجهولاً كعادة باقي التنظيمات الارهابية في العالم، إنما نراهم يسارعون إلى تبني أية عملية ينفذونها مهما كانت فظيعة، ففضيلتهم إذاً كامنة في الإقرار بما فعلوه ويفعلونه وعدم ترك الناس للتخمين وتبادل الاتهام والاتكال على جعبة التكهنات.
وبخصوص فلسفة الدواعش فلا شك بأن كتب تراثنا تؤكد بأن تصرفاتهم لم تأتي من فراغ إنما سلوكهم هو امتداد تاريخي لتصرفات من كانوا مثلهم عبر التاريخ، أو من سبقوهم في إرساء قواعد الاجرام وطرائقه، إذ يقال بأن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك “أرسل إلى واليه بالكوفة خالد بن عبدالله القعري أمرا بحبس جعد بن درهم، وإذا بكتاب آخر من هشام يأمره بقتله، وصادف ذلك عيد الأضحى حيث وقف الوالي خالد يخطب على المنبر وفي نهاية الخطبة قال: أيها الناس اذهبوا وضحوا بضحاياكم، تقبل الله منا ومنكم، أما أنا فإني مضحٍّ اليوم بالجعد بن درهم، ثم نزل واستل سكيناً وذبحه أسفل المنبر”، ولتبرير هذه الشناعة جاء في كتب التراث أن الجعد بن درهم كان مبتدع ضال، وقال بخلق القرآن، وأنه أول من نفى صفات الله تعالى، لذلك استوجب ذبحه، وأين أسفل المنبر كالنعاج! بالضبط كما يفعل دواعش اليوم وهم يهمون بذبح من يريد، وأينما امتد سلطان دولتهم الخرافية، بناءً على ذلك التراث الذي يُمجد القتل والتنكيل، عموماً ففي هذا السياق يمكن للقارئ العودة متى ما أراد إلى المفكر العراقي الراحل هادي العلوي وكتابه “التعذيب في الاسلام” ليعرف بأن الدواعش لم يبتدعوا، إنما اتبعوا من سبقوهم في هذا المنحى الاجرامي الذي تخلصت المسيحية منه بعد ابتلائها بشناعة التطرف مدة تاريخية لا يُستهان بها.
وبالعودة إلى العنوان أعلاه فما الذي يربط الغيشا أو الجيشا بالجواري؟ ولكن قبل تبيان العلاقة لا بد لنا من مقارنة تاريخية بسيطة بيننا وبين امبراطورية هيروهيتو، فحسب الويكيبيديا أن اليابان نالت استقلالها في 28 أبريل 1952، أما استقلال العراق فكان في الثالث من تشرين الاول 1932، أما استقلال سوريا المحتفل به رسمياً فهو في 17 أبريل 1946م، أي أن سوريا والعراق نالا استقلالهما الفعلي قبل دولة اليابان هذا من ناحية التطور الطبيعي للأمم، وومن جهةٍ أخرى فاليابان لا وجود للأديان السماوية فيها، إنما أديانها وضعية صرفة ومن صنع البشر، لذا بإمكان المرء اللجوء الى المقارنة بيننا وبينهم من حيث الخلاص من الاستعمار، وثانياً وباعتبار أن ديننا سماوي فكان حريٌ بنا بأن نترفع بعض الشيء عن ممارسة كل أشكال الوحشية والاجرام والانحطاط القيمي، طالما أننا وحسب معتقداتنا مربوطين روحياً بإلهٍ كليِّ القدرة منزه، بينما الجماعة دينهم أرضي لا علاقة له بالسماء وقصصه، ولكن مع ذلك فإن ذلك الدين الأرضي لم يعرقل مسار تقدمهم ولا حضهم على سفك الدماء كما هو الحال بالنسبة لنا!.
أما فيما يخص الجيشا فهي ظاهرة متأصلة في الثقافة اليابانية وهي قد تقترب في بعض النواحي من مفهوم الجارية لدى المسلمين، وقد كتب الأديب الأميركي آرثر جولدن رواية باسم (اعترافات غايشا) بعد أن قضى 15 عاما في دراسة الفنون اليابانية في أميركا ودراسته الطويلة في اليابان فنون الجيشا، ليستطيع بعدها كتابة روايته تلك عن حياتهن، إذ تعني الجيشا باليابانية الفنانة وتتمثل فكرتها في مجموعة من المضيفات يجالسن الضيوف في بيوت الشاي ويقدمن لهم مجموعة من الفنون اليابانية التقليدية الراقصة، بما فيه الغناء والعزف على الآلات الموسيقية اليابانية القديمة، وتمتاز فتيات الجيشا بثقافة عالية تمكنهن من تبادل الأحاديث مع رجال الأعمال والمثقفين، وقد تكُلف حفلة الجيشا آلاف الدولارات لإقامتها، وعادة ما يقيم هذه الحفلات رجال الأعمال والساسة والمقتدرون على دفع مبالغ طائلة، كما كان الحال عليه في العصر الذهبي لممتلكي الجواري بعد أن حوصرن في القصور وبيوت الأمراء، حيث كان مطلوب منهن على غرار الجيشا تعليم اللغة وفنون الطبخ والمأكولات العربية، إضافة إلى الأمور المنزلية والعناية بالأطفال، وكان يتم تعليم الجواري على يد المتخصصين في الغناء والرقص الشرقي والمساج والتدليك وكيفيىة العناية بالرجل، ومثلها مثل فتاة الغايشا فكلما كانت للجارية تلك الميزات المذكورة زاد ثمنها وازاد الطلب عليها.
وحسب المراجع المتوفرة أن (فتيات الجيشا أو فتيات الترفيه) وفق المراحل المبكرة من التاريخ الياباني كنَ من العائلات المشردة والمعدمة اقتصادياً وحسب بعض القراءات أن بعض هؤلاء الفتيات قمن ببيع أجسادهن مقابل الجنس، بينما البعض الآخر تلقين تعليماً أفضل وكسبوا معيشتهم من خلال العمل في الترفيه في مناسبات اجتماعية للطبقات المخملية، ويقال بأنه بعدما نقل البلاط الإمبراطوري للعاصمة (كيوتو) عام 794 ساعدت الظروف بتشيكل الثقافة اليابانية المعروفة بالغيشا، وقد أصبحت مركزاً للنخبة المهووسة بالجمال، أي بمعنى أن الجيشا غدت حرفة ومهنة وفن، ولا يجلب اسمها أصلاً الاهانة أو العار عند التذكير بها كما هو الحال بالنسبة إلي الجارية التي كانت أصلاً سبية من سبايا الحروب الاسلامية، وقد اغتصبت عفتها رغماً عنها بالعنف والإكراه، ولكن مع ذلك ففي أذار 2006 أثار فيلم مذكرات فتاة الجيشا ردود فعل كبيرة لدى اليابانيين عند بدء عرضه في صالات السينما في اليابان وخارجها، حيث أثار الفيلم غضب اليابانيين لرأيهم بعدم مصداقية الفيلم في نقل الصور الصحيحة عن ثقافتهم وعاداتهم، حيث انتقد اليابانيون إظهار الفيلم بأن فتيات الجيشا يتاجرن بأجسادهن كبائعات الهوى في المواخير الأميركية، قائلين بأن هذه الظاهرة منافية لعادات الجيشا وثقافتهن التاريخية.
إذ أن الصورة السلبية للجيشا لم يقبلها اليابانيون لأنهم شعروا بأنها تحط من كرامتهن وكرامة المجتمع الياباني ككل، ولكن اسوةً بالجيشا وتاريخ الجيشا أما كان حريٌ بالانسان الشرق أوسطي أن يسعى قبل اليابانيين للتخلص من آثار الانحطاط القيمي لثقافة الجواري؟ إذ أننا وبعد المقارنة بينهن نلاحظ بأن فتاة الجيشا تبقى حرة ومالكة لكامل إرادتها، بينما الجارية عند المسلمين هي مجرد شيء ومتاع بضاعة لا كرامة لديها، لأن الظاهرة ومنذ نشوئها هي قائمة في الأساس على ذل الأنثى وانتهاك عرضها وهدر كرامتها.
وإذا كانت مهنة الغيشا ومنذ بدء ظهورها كان الدافع الرئيس لها هي الحاجة الاقتصادية، بينما بالمقابل ولمجرد معرفة كيفية ظهور الجواري يخجل الحرُ من نفسه، فكيف سيقبلها إذا كان إنساناً وحاملاً للقيم الانسانية النبيلة في الوقت الحاضر، خاصةً عقب معرفته بالمشوار التاريخي المخجل الذي بدأ مع الجواري، إذ وحسب المصادر التاريخية أن الجارية كانت تشترى مثلها مثل أية دابة، أو كانت تؤخذ بحد السيف رغماً عن إرادتها في الغزوات أو احتلال المسلمين لبلاد الآخرين، هذا عن بداية ظهور ظاهرة السبية التي تصبح جارية بعد انتزاعها من بين أهلها بالعنف والاكراه، أما الجواري في آواخر عهدهن فكانت هنالك أسوق نخاسة وهي الأسواق المخصصة لبيع وشراء الإماء، الجواري، السبايا… الخ، فمن خلال هذه المقارنة بين الجيشا والجارية نقول: ألم يكن حريٌ بالمسلمين التخلص من ثقافة النخاسة القميئة قبل غضب اليابانيين لمجرد ورود مقاطع مسيئة للغايشا في الفيلم السينمائي، علماً أنها بسيطة حقاً إذا ما قورنت بكنه فلسفة عشاق الجواري، وذلك باعتبار أن العراق نال استقلاله قبل اليابان، وكذلك سوريا نالت أيضاً استقلالها الأول قبل اليابان أي 8 مارس 1920 بُعيد سقوط الدولة العثمانية، والاستقلال الثاني كان 28 سبتمبر 1941 بعد استعادة الحلفاء سيطرتهم على سوريا خلال الحرب العالمية الثانية، بينما الذكرى السنوية هي احتفاءٌ بعيد جلاء الفرنسيين عن سوريا.
ومع أن الجارية أو السبية بخلاف الغيشا أو الجيشا ظاهرة لا تتلاءم حالياً حتى مع حقوق بعض الحيوانات فكيف بالانسان! ولكن مع ذلك وبناءً على الموروث الذي لم يتم تطهيره من شوائبه إلى تاريخ اليوم، أتي فريق من المسلمين وهو بفرحٍ نهمٍ راح يعمل جاهداً لإحياء تلك الظاهرة المقززة لنفسية الانسان المعاصر وما توصل إليه من القوانين الحضارية وقيم الحق والعدل والمساواة بين بني البشر، فهل من المعقول يا ترى ألا يكون هؤلاء الخارجين لتوهم من خلف كثبان الجاهلية، بأفكارهم العفنة، وتصوراتهم الوضيعة قد سمعوا بشيء اسمه الاعلان العالمي لحقوق الانسان، وما جاء في سياق ديباجة الجمعية العامة والإعلان المتعلق بشأن حماية النساء والأطفال في حالات الطوارئ والمنازعات المسلحة، الذي اعتمد ونشر على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 14 كانون الأول/ديسمبر 1974 والاتفاقية المتعلقة بشأن الحقوق السياسية للمرأة التي اعتمدت وعرضت للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 20 كانون الأول/ديسمبر 1952، حيث تعهدت الأطراف المتعاقدة ورغبة منها في إعمال مبدأ تساوي الرجال والنساء في الحقوق الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، وكذلك إعلان القضاء على التمييز ضد المرأة الذي اعتمد ونشر علي الملأ بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 1967، إضافة إلى البرتوكول الاختياري الملحق باتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والذي اعتمد وعرض للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 4 الدورة الرابعة والخمسون بتاريخ 9 أكتوبر 1999، وكذلك اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة التي اعتمدت وعرضت للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 18 كانون الأول/ديسمبر 1979م.
ختاماً وبعد كل هذه الاتفاقيات التي تحض على التساوي في الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة، فأية شريعة بربرية يا ترى هذه التي تدفع بالكائن البشري إلى إعدام بعض الفتيات لمجرد أنهن رفضن التحوّل إلى جاريات لخدمة غرائز ونزوات بعض الهمج المتطرفين؟ فيا ترى من أين ينهل هؤلاء الأنفار ثقافتهم اليومية، وفي أي كهفٍ يعيشون حيث يغيب عنهم العلم والاعلام والتطور التكنولوجي في العالم؟ أم أنهم بالعكس تماماً يستفيدون من أحدث ما توصل إليه الإنسان من العلوم المعاصرة والتكنولوجيا؟ ولكنهم فقط يعملون وفق أهوائهم العفنة وما يتناسب مع غرورهم وأنانيتهم وغطرستهم؟ والسؤال المطروح هنا فأين هي يا ترى المؤسسات التعليمية في الشرق الأوسط مما يجري في حواضرها كل هذه الآفات؟ وهل فعلاً يُعمم في مؤسساتها شيء عن حقوق الانسان، أو يُدرَّس في مدارسها شيء من بنود الإعلان العالمي لحقوق الانسان؟ أم أن هذه الدول مجتمعة توقّع على كل الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية فقط من باب مسايرة الدول الغربية وليس من باب الاقتناع بها؟ وأنه أصلاً ليس هنالك أي التزام من قبل أية دولة من كل دول المشرق بما جاء في سياق وديباجات تلك البنود والمراسيم المتعلقة بالمرأة وحقوقها، وإلّا لكان المواطن على الأقل على درايةٍ بتلك المواد القانونية، والتزم بها بعض الشيء، ولم يستعن بالتجارب التاريخية البشعة لإشباع غرائزه الحيوانية على حساب الآخر سواءً أكان الآخر من دينٍ آخر أم من قومية أخرى أم كان المختلف أو المدانُ ذكراً أم أنثى؟
المصدر ايلاف