“ها إنَّ دمشق تُزالُ مِن بَينِ المُدُن، فَتَكونُ رُكامًا مِنَ الأَنْقاض”. انه “القول على دمشق” للنبي أشعيا (17/1)، بحرفيته. وعندما اثاره اخيرا انجيليون غربيون مصنفون بانهم “اصوليون”، وربما متصهينون، عبر مواقعهم الالكترونية، فذلك لكي يؤكدوا ان تلك النبوءة تتحقق اليوم. وبموجبها، “ستُدَمَّر دمشق بانفجار نووي”، و”انتم تشهدون نبوءة عن نهاية الازمنة”… لا بل “انها فرصتكم للارتداد قبل رجوع يسوع المسيح”، و”دمشق هي الانذار الاخير لله قبل البلية”.
بشيء من الدراما المسرحية، يبرز احد المواقع “هذا النبأ” بالابيض والاحمر، على خلفية سوداء، مع صورة مخيفة لانفجار نووي. ويعزز آخر اقتناعه بربط النبوءة بالحوادث الدامية في سوريا: “تابعوا الاخبار فقط… النبوءة واضحة… الله يحذرنا”. وفي آخر، كلام عن ان سوريا حاليا “ملجأ لقادة ارهاب كثيرين في العالم… وباندلاع حرب بين تلك الجماعات الارهابية واسرائيل، فان نبوءة اشعيا ستحقق التاريخ”.
ولمزيد من التأكيد، يستعين مفسر آخر، عرّف عن نفسه بانه “فاحص مسيحي لنبوءات الكتاب المقدس”، بالمزمور 83، كعنصر مؤكد لتحقق النبوءة حاليا. وما يستنتجه هو ان “جيوشا من الاردن والضفة الغربية ولبنان وسوريا وقطاع غزة ستجتاح اسرائيل، بعد تدمير شمالها ودمشق. وكل هذه المناطق مكتظة بسكان هم اعداء لاسرائيل”… ويصل في “قراءته” الى طرح امكان وقوع حرب اشمل، اوسع.
وامام خرائط للمنطقة، يقدّم قس آخر “تعليمه”، وفيه ان “الحوادث الحالية في غاية الأهمية. أستطيع أن أرى تحالفا، اتحادا (مستقبليًا). نحن لا نتحدث عن غزو، لكن يمكن أن يحصل. المنطقة حاليا تثيرها الكراهية والمرارة، وهذا من شأنه ان يشمل لبنان الحديث الذي كان السوريون احتلوه بطريقة غير قانونية”. وقد توصل الى هذا “التوقع”، بقراءته الشخصية لنبوءة اخرى لاشعيا (19/23-25).
واذا كان الضجيج الاصولي عبر الانترنت يثير اهتمام الاتباع، فقد قوبل بابتسامات ساخرة لدى اختصاصيين بالكتاب المقدس، الى حد وصف تلك التفسيرات بانها منافية للعقل، سخيفة. والسبب انه لا يمكن قراءة الكتاب المقدس ونبوءاته في الشكل الذي يعتمده هؤلاء الاصوليون.
“من الفصل 13 من النبوءة، يبدأ اشعيا اقواله على الشعوب الغريبة: بابل، اشور، الفلسطينيين، موآب، دمشق، كوش، ومصر…”، يشرح استاذ مادة الكتاب المقدس في كليات اللاهوت الكاثوليكية الاب انطوان عوكر الانطوني الاطار العام للنبوءة. وما يُفهَم، لاسيما بقراءة الحواشي المرافقة، “هو ان بني اسرائيل كانوا آنذاك منقسمين بين مملكتي الشمال والجنوب، وكانت لكل واحدة تحالفات متعارضة مع تحالفات الاخرى”.
تجاه هذا الواقع، “اراد اشعيا ان ينبههم الى انهم يستخدمون ممالك غريبة كي يقوموا على بني شعبهم. وبقوله ان مصر لن تبقى، كذلك اشور، وان دمشق ستزول، فذلك ليحضهم على عدم التحالف مع اي من تلك الامم الغريبة، وعلى الاتحاد بينهم والاتكال فقط على الله خالقهم”، يشرح. “اذاً، في قول اشعيا على دمشق وغيرها تنبيه نبوي لبني اسرائيل من ان تحالفاتهم مع تلك الشعوب ليست مستحبة عند الله، وان تلك الشعوب زائلة، بينما وعد الله لهم باق ابداً”.
يُعتَبر اشعيا اعظم الانبياء. المعروف عنه انه “بدأ يتنبأ في السنة التي مات فيها “عزيّا”. إنه اذًا ولد ما بين 770 و760 ق.م. وحين جاءته الدعوة (النبوية)، كان متزوجا، لانه حين مثل أمام “آحاز”(735) كان يمسك ابنه بيده. تذكر التوراة ولديه… ويعتقد العلماء عموما انه انتمى الى ارستوقراطية اورشليم. غير ان البراهين عن اصله الرفيع وموطنه اورشليم غير مقنعة”(1).
وفيما لا يفيد سفره باي اشارة واضحة الى بيئته، يروي كيف أُرسل كنبي، وكيف وعى “انه في حضرة الله، خلال رؤية في الهيكل”(1). 3 اجزاء يُقسَم، مع فروق واضحة بينها، “بحيث يُعتقد ان المؤلف يعود الى مدرسة واحدة، او بالاحرى الى تيار كان البادىء به نبي من القرن الثامن، واستمر 3 قرون على اقل تقدير”(2).
على مرّ القرون، استحوذت نبوءاته على اهتمام العلماء: قُرِئَت كثيرا، وكُتِبَ عنها الكثير. في اللغة الكتابية، القراءة التي يقدمها هؤلاء الانجيليون تسمى “قراءة اصولية”. “الكنيسة الكاثوليكية تحذر منها وترفضها”، يؤكد عوكر. العام 1993، اصدر “المجلس البيبلي الحبري” وثيقة بعنوان: “تفسير الكتاب المقدس في الكنيسة”، حدد فيها 12 منهجا لقراءته، منبّها في ضوئها من القراءة الاصولية. “هذه القراءة مرفوضة من المجلس”. وبموجب ذلك، من الخطأ التعامل مع تلك النبوءة وغيرها من نبوءات الكتاب المقدس على انها توقعات مستقبلية. “انها قراءة واقع”، يقول.
تبيان مفهوم النبوءة ودور النبي موجب لاستكمال الشرح: “النبي هو الشخص الذي يقرأ ارادة الله في واقع الشعب. فينبهه الى تباعد ما بين سلوكه وكلمة الله، الى الويل الذي سيلحق به من جراء هذا التباعد… النبي لا يتكلم على المستقبل انطلاقا من لا شيء، اي على طريقة “بصارة براجة”، بل يتكلم انطلاقا من واقع الشعب ومن كلمة الله”. وكان اشعيا حسن الاطلاع على عصره، معلنا لكلمة الله في حاضر شعبه.
امر اخير يتوقف عنده عوكر. “عندما يقال ان يسوع المسيح جاء ليتمم العهد القديم والانتظارات، فمعنى ذلك انه يتمم الانتظارات الايجابية. الانتظارات السلبية كانت واقع الشعب. فالله لا يعطي سلبيات، بل ايجابيات. وعندما لا يختار الشعب الله ولا يمشي في خياره، يضع نفسه في المصيبة. وهذا يعني ان الانبياء لا يهددون الشعب بويلات سينزلها الله به، بل الويلات هي نتيجة السلوك غير المتناغم للشعب مع كلمة الله”.
منقول عن النهار اللبنانية