نبش القبور .. جمال باشا

nabshqoborjamalbasha

صورة تذكرية لجمال باشا والصحفي مراد غريب التقطت عند انتهاء المقابلة

؟18 تشرين الثاني – 1917

كان موعدي تمام الساعة 8:30 صباحاً في بهو فندق فكتوريا الكبير، ويمكنني القول بأنه كان البناء الأجمل الذي شاهدت في دمشق أو في مركز المدينة على وجه التحديد، حيث تجولت لأكثر من مرة خلال زياراتي السّريعة التي قمت بها في الأشهر الماضية.

بناءٌ ضخمٌ يقع على مساحة كبيرة نسبياً مؤلف من ثلاثة طوابق، أعطاه سقفه القرميدي فوق جدرانه المبنية من الحجارة البيضاء، شكلاً بديعا، أبوابه ونوافذه ضيّقة مزيّنة بتيجان منمنمة مرتفعة حتى السقف.

وكما علمت فقد شُيِّد الفندق منذ وقت قريب، حيث تم بناؤه قبل عقد من الزمن أو أكثر قليلاً، على يد رجل يدعى “الخواجة بترو”، وسُمّي الفندق بـ “فيكتوريا” لأنه شُيّد خصيصاً لزيارة لم تتم للملكة فكتوريا، ملكة بريطانيا، بعد أن وافتها المنية.

دخلتُ الردهة في الطابق الارضي قبل الموعد بحوالي الخمس دقائق، وكان بهو الفندق ذا سقف محمول على عواميد مرتفعة بيضاء ذات أقواس، ومفروش بأثاث مصنوع من الخشب المصدّف ( الموزاييك ) الذي اشتهرت بصناعته دمشق، وفيها خزائن زجاجية أنيقة ذات واجهة متسعة تحوي معروضات من المشغولات اليدوية للمدينة، أدوات فضية ونحاسية، أقمشة مطرّزة، سجّاد يدوي والبروكار الدمشقي الشهير.

وما إن خطوت بضع خطوات داخل الفندق، وقبل أن أصل لقسم الاستقبال، ناداني رجل بلباس عسكري ولحية ضخمة كثّة، وسألني فيما إذا كنت المدعو “مراد غريب”، وعندما أكدت له هويتي قال بأن سعادة الحاكم بانتظاري.

صعدنا إلى الطابق الثالث، طرق مرافقي الباب وفتحه عسكري آخر من الداخل، وأدخلني إلى “صالون” كبير، في آخره طاولة مكتب كبيرة أنيقة مصنوعة من الخشب المحفور يدوياً بقربها “جلسة” تضمّ مقعدين خشبيين متقابلين، لهما مسنداً عالياً وذراعين مرتفعين، وفي الوسط طاولة صغيرة واطئة طويلة تكاد تلامس قاعدة المقعدين. ويقع هذا الركن بقرب نافذة عالية بدا منها، من مكان وقوفي في بداية الغرفة، شارع المحطة كما كان يعرف حينها ( سعدالله الجابري) وكأنه شُقّ حديثاً وفي، نهايته يقف بناء محطة الحجاز الأنيق.

دخلتُ حتى منتصف الغرفة التي كانت تشغل زاوية الفندق الجنوبية الشرقية، و ما عدا الثريا الخشبية الضخمة التي كانت تتدلى من السقف، اتسم أثاث الغرفة بالبساطة والأناقة، وكان الفراغ فيها كبيراً نسبة للأثاث الموجود، وزُينت الجدران بصورٍ لعسكريين ميّزت من ضمنها رسماً للسلطان الخليفة “محمد رشاد” ( محمد الخامس)..

وهممت أريد التقدم باتجاه النافذة لأُشبع فضولي بالنظر باتجاه ساحة المرجة وإلى الجانب الآخر جهة التكية السليمانية و”المرجة الخضراء”. عندما فُتح باب جانبي وتقدّم منه جمال باشا وحيّاني مادّاً يده تجاهي، وكان لدي من التردد الكثير لأضع يدي بيد السفاح..!

صافحته وقد هز يده ببرود مرتين وسحبها من يدي، وتوجّه مباشرة إلى حيث الكرسيين جانب النافذة وأشار الي أن أتبعه، وثم جلس قبلي على الكرسي المطلّ على ساحة المرجة ودعاني للجلوس في الكرسي المقابل.

كان رجلاً ممتلئ الجسم قصير القامة نسبياً، بلباس عسكري يزدان صدره بالاوسمة في القسم اليساري من الجاكيت والجانب الاخر تدلت منه سلاسل مذهبة ، وكانت طرفا اكمامه مطرزة بخيوط ذهبية ، وعلى جانبه كان يتقلد سيفاً خلعه عندما جلس وجعل رأسه يمر بين ساقيه المثنيتين ويستقر عند قدميه المتباعدتين قليلا، ووضع يديه على قبضة السيف ممدودتين إلى أقصاهما نحوي، وظهره مستندٌ بشكل مستقيم على الكرسي ورأسه مرفوع قليلاً وكأنه ينظر إلى المشهد من الأعلى، عيناه دائريتان صغيرتان، نظراته قاسية، ثابتة ومتفرسة ، بدلته ممسدة ذات أزرار ذهبية، بنطاله فضفاض بعض الشيء يضيق من الأسفل، وينتعل حذاءً جلدياً أسود ملمّع ..

وبقدر ما كان فضولي يدفعني إلى تفحص هذا الشخص الذي كان سبباً رئيسياً في حصول تحوّل ضخم وكبير في تاريخ منطقتنا، بقدر ما كان هذا الفضول يشدّني إلى أن أسترق النظر من وراء الكرسي إلى البساتين ذات الأشجار المتنوعة المتشابكة الأغصان، الممتدّة في الأفق لتلتقي بجبل قاسيون دون أن يفصلها شيء عنه، ولم أميز في هذه الغابة الكثيفة بناءً غير بناء التكية السليمانية وبناء منخفض آخر يقع على الزاوية الأخرى المقابلة للفندق.

بادر مُضيفي بالحديث وقال:

” لقد حدثني محمد ( يقصد محمد كرد علي ) عن مشروعك وأعتقد بأنه مثيرٌ للاهتمام، إجراء لقاءات صحفية ونشرها بعد 100 عام فكرة ليست بالعادية.. وآمل ان تحفظ بأمانة ما يجري اليوم إلى الأجيال القادمة بدون تشويه.. وما أعجبني فيها بأنك لا تسعى من خلال هذه اللقاءات لتنال حظوة أو مكافأة أو مكانة خاصة.. .. دعنا نبدأ ونرى ما عندك ..”

بداية، أشكرك سعادة الحاكم.. وأقدم لك امتناني لإتاحة الفرصة للقائكم .. واسمح لي أن أسأل مباشرة ما أعتقد بأنه سيكون السؤال الأكثر إلحاحا في ذهن الأجيال التي ستعيش في المنطقة العربية في المستقبل. يقولون بأنك كنت أنت سعادة الحاكم جمال باشا ..السبب المباشر في إشعال الثورة العربية. ؟

ما زال ينظر في عيني مباشرة، ولا أنكر بأن نظراته أربكتني بداية، وقال بنبرة قوية تميل الى الخطابة:

“تسمّيها ثورة ؟!. الشريف حسين ارتكب أكبر جناية لا تُغتفر ضد العالم الاسلامي. هذه ليست ثورة، هذا تمرّد مسلّح هدفه تحقيق انفصال جزء من أراضي الدولة العثمانية بالاشتراك مع أعدائها والاسهام في هدم آخر دولة قوية للمسلمين ..”

صمت ونظر إلى النافذة مطرقاً، وبدى عليه التأثر وكأنه لا يريد أن يخوض كثيراً في هذا الموضوع..

و كنت قد حضّرت نفسي مسبقاً على أني سأسمع كلاماً غير الذي أعرف.. فلن يقول السفاح كلاماً يدينه، كنت أقول لنفسي طوال وقت تحضيري للقاء، من يريد إجراء مقابلة صحفية مع مثل هذه الشخصية لا شك بأنه سيعرّض تركيبته المعرفية إلى الاهتزاز ..

استطردت بسؤال آخر كي أدفعه ليتكلم أكثر عن الموضوع:

انت تقول بأن ثورة العرب ضدكم هي مجرّد تمرّد مسلّح كيف هذا ؟

“نعم أنت الآن في دمشق وتجولت في شوارعها، هلا رأيت أي مظهر من مظاهر الثورة هذه، هل اختلطت بالناس، هل استطلعت آراءهم. الملّة ( يقصد الوطنية ) والدين هما ما يجمعان شعوب الدولة العثمانية، وستبقى الغيرة على الدين الرابط الاقوى، لن يثور الشعب على دولته حامية عزة الاسلام وضامنة وحدتهم، لن يثور لينصر أعداء هذه الدولة وأعداء الاسلام ..”

حضر إلى ذهني فوراً مشاهد الشوارع التي تجولت بها في زياراتي السريعة السابقة، حيث كانت دمشق في تلك الايام كما معظم المدن السورية تعاني المجاعة، ورأيت أناسا يقتاتون من الحشائش وقشور الخضار، ينبشونها من أكوام القمامة، والأطفال والصبية الصغار يتجولون في بالشوارع وجوههم شاحبة وبطونهم منتفخة، ومنهم من كان يختطف أي شيء يؤكل تراه عيناه من الباعة أو أيدي الناس… كانت رائحة المرض والموت في كل مكان… و لا أعرف إذا كان بمقدور هؤلاء أن يقوموا بأي ثورة..؟! بأي فعل؟! .. غير البحث عن الطعام!.

وقلت في نفسي اذا كانت الحال هكذا هنا فماذا يحصل في الحجاز اذاً وقد وصلت طلائع الثوار إلى العقبة في الاردن؟

وكان الشريف حسين، أمير مكة، قد أعلن الثورة على الدولة العثمانية في 10 حزيران من العام 1916، بعد أن أعدم جمال باشا نخبة من رجالات العرب من المثقفين والسياسيين المنضوين في جمعيات وأحزاب تطالب الدولة العثمانية بحكم ذاتي على أساس القومية العربية.

لا تعتبر ما يحصل في الجزيرة العربية ثورة ؟

كاد أن يقاطعني وقد انكمش وجهه وضاقت عيناه وظهرت عليه ملامح الانزعاج واستطعت أن أميز في صوته نبرة استهجان

“تعيد على مسامعي كلمة الثورة؟!. وأنا سأصحّح لك في كل مرة وأذكّرك بأنها خيانة، هو عمل من شأنه تشتيت الاختين الاسلاميتين .. الأمة العربيّة والأمة التركيّة، وأخشى أن تجعل ثورتك هذه من العرب أرقّاء للانجليز والفرنسيين فيما تترك الأتراك يقاتلون أعتى الأعداء لوحدهم في معركة مستحيلة.

هؤلاء الذين تسمّيهم الثوّار، حملوا السلاح في وجه الدولة رغم كل محاولتنا بأن نثنيهم عن هذه الحركة التي لها عظيم الأثر وتحمل من الخطورة ما يمكن ان يهدم دعائم آخر دولة للمسلمين، ولمعلوماتك، من حمل السلاح منهم، حمله بأوامر (شيخ القبيلة) ولم يحمله ثائراً على الدولة العثمانية.

نادى الشريف حسين بحمل السلاح لأغراض شخصية ومصالح ضيقة، بعدما تحالف مع الانكليز وحصل على الدعم المالي والعسكري منهم، وتبعته عشيرته وبعض العشائر الأخرى لأسباب ليس لها علاقة بالعرب ولا بمصالحهم، وانما لمنفعة شخصية له ولأسرته وإن كان قد ألبسها هذا اللبوس العربي فهذا لا يغير من الواقع شئيا “

وبينما كان يتحدث الي كان يميل جزعه رويداً رويداً باتجاهي، وهو ما زال مستندا بكلتيّ يديه على مقبض السيف المستند رأسه على الأرض.. وعندما توقف عن الحديث عاد بظهره للوراء وفرد ذراعيه مجدداً ورفع رأسه وحدق بي ينتظر سؤالي التالي.

ورغم أني تهيأت جيداً لهذا اللقاء ووضعت كل التوقعات وقابلت جميع الاحتمالات وتدرّبت كثيرا على أن أكون محترفاً هادئاً، إلّا أني بدأت أشعر ببعض التوتر والنزق من هذه الاتهامات التي أرى بأنها هي من يصح أن نطلق عليها صفة (دوافع الشخصية) .. وماذا عساه أن يقول غير ذلك؟! قلت في قرارة نفسي.

بقيت محافظاً على هدوئي ( وماذا يمكنني أن أفعل غير ذلك في حضرة السفاح ؟! ) وطرحت سؤالي التالي:

اذاً أنت تعتقد بأن الشريف حسين الذي أعلن الثورة على الدولة العثمانية وهو يقاتل منذ قرابة سنة ونصف ويواجه قواتكم ويغامر بكل شيء، حتى بحياته وحياة أبنائه، يفعل هذا لتحقيق مكاسب شخصية.. هل هذا ما تقوله ؟

بقي مستنداً للوراء وتحرّرت إحدى يديه من فوق مقبض السيف، سحبها إلى قرب جسمه وأغلق قبضته وقال:

“ليس هذا اعتقادي أنا، هذه الحقيقة، نعم دوافع الشريف حسين شخصية، هو يريد المجد لنفسه ويريد أن يتحول لملِك العرب وربما خليفة للمسلمين ويوسّع حدود ملكه لتشمل سوريا والعراق، وهو وجد من أفكار بعض الجمعيات العربية والعرب المتفرنجين، ستاراً يخفي وراءه حقيقة مطامعه.”

تعمّدت مقاطعته هنا:

ما الذي يجعلك متأكداً بأنها ليست أماني كل العرب. هؤلاء الذين يقاتلون مع الشريف حسين، ماذا تعتقد بأنهم يريدون ومصالحهم بالأصل محققة في أرض الجزيرة؟ ثم أن الشريف حسين لم يكن شخصاً عادياً حتى تقوده المطامع بمناصب لقد كان أميراً للأرض الأكثر تقديساً عند المسلمين في الدنيا، كان اميراً على الحجاز في كنف الامبراطورية. فلماذا يغامر بالمضمون الذي لديه ويسعى…

لم ينتظر حتى أكمل جملتي، قاطعني قائلا:

“نعم هو يغامر، وليس كل القادة أو الأمراء يمتلكون الرؤية ليمضوا في الطريق الصحيح، وأحياناً يعمي الطمع عيون بعضهم ويعمل كثير منهم على تفضيل ذاته ومصالحه وأنانيته على مصالح الشعب والدولة وحتى الدين.

أؤكد لك بأن الشريف حسين كان يخشى خسارة مركز الإمارة ( إمارة مكة)، حيث أنه تسلّم هذا المركز بالصدفة: عند موت الأمير السابق بشكل مفاجئ في يوم تعيينه ، ولا أخفيك سراً بأن جمعيتنا ( يقصد جمعية الاتحاد والترقي ) لم تكن تجد فيه الشخص صاحب الحق بالإمارة.. وهو الذي وصل إلى هذا الموقع في ظرف دقيق وحساس خاصة مع بدء الحرب منذ حوالي الثلاثة أعوام..

.. بالإضافة الى أنه، وفي بداية الحرب فرض الانكليز الحصار على الجزيرة العربية وقطعوا طريق الحج اليها، وهو المورد الوحيد للشريف حسين وعشيرته.. وهكذا فقد دفعته قلّة الموارد بالإضافة إلى ضغط الأهالي ليجد حلاً لهذه المشكلة، المال كان المشكلة .. والمال هو الخط الاحمر شديد القتامة لقبائل الجزيرة العربية، ومن أجله.. ومن أجله فقط سيفعلون أي شيء ..

تخيّل، وأحدثك عن هذا كمثال، بأنه كان معارضاً تماماً لبناء السّكة الحديدية التي مُدت من دمشق إلى الحجاز، فقبائل البدو يرون فيها تعطيلاً لقوافل الجمال التي يمتلكونها، ووجد في انقلابه على الدولة العثمانية فرصةً لتدمير هذه السّكة الحديدية بحجة قطع الامدادات عن قواتنا هناك، كما أنه يأمل في أن تحالفه مع الانكليز بالإضافة إلى الاموال الطائلة التي يحصل عليها ، أن يعجّل في نهاية الدولة العثمانية ويعيد عوائد الحج الى سابق عهدها.

جعلته كل هذه العوامل مجتمعة، وغيرها ربما، يشعر بالخطر، وهو محق، بأنه قد يفقد كل شيء، وبناءً عليه قد أعلى مصالحه الشخصية على مصالح دينه ودولته، و مضى في طريق الخيانة هذا. “

صمت وارتسمت على شفتيه في هذه الأثناء ابتسامة احتقار وكأني سمعته يقول بينه وبين نفسه ” لا زال يقول لي ثورة ” وقبل أن أعطيه الفرصة ليرتاح، تابعت السؤال في ذات السياق

سعادة الحاكم، ألا يمكن أن يكون الشريف حسين قد قرأ تطورات الأحداث جيداً ورأى بأنكم ستخسرون هذه الحرب، و أن هذا قد يعرّض الدولة العثمانية للزوال ، وأراد أن يبعث مما تبقى منها، في هذه الارض، دولة عربية؟

وكان جوابه حاضراً ليس فيه أي تردد:

“ولنفترض جدلاً أن كلامك صحيحاً وأنه كان معتقداً بزوال الدولة العثمانية وأنه سيبعث بدولة عربية من الرماد، لماذا لم يتراجع عندما بدأت الحقيقة تتجلى؟ لماذا لم يقرأ جيداً رد السير هنري مكماهون عندما أشار إلى أن كثير من المناطق التي يود الحسين حكمها وقام بالثورة لضمها إلى ملكه بأنه ( لا يمكن اعتبارها عربية) ومن هنا بدأت المراوغة البيّنة لصاحب كل عقل وبصيرة ، ألم يقرأ الوثائق التي نشرتها أنا على إثر إعدام الخونة في دمشق وبيروت والتي بينت مدى ارتباطهم بدول الأعداء وسعيهم لتحقيق أهدافها وهزيمة الدولة العثمانية؟ ألم تكن الكثير من الحقائق التي تكشفت حججاً قاطعة وإنذارات كافية لأن تريه عظم الجناية التي يوشك ان يرتكبها؟!”

كان يشير هنا بالإضافة إلى الوثائق التي نشرها إثر إعدام شهداء دمشق وبيروت على أنها أدلة تدينهم، إلى محادثات سرّية جرت بين الحسين وهنري ماكماهون الممثّل الأعلى لملك بريطانيا في مصر في ذلك الوقت، والتي أظهرت نوايا بريطانيا في رفض اعتبار أجزاء واسعة من المنطقة التي يطالب بها الحسين عربية مثل مرسين وأضنة وحلب وساحل سوريا الغربي.

سيادة الحاكم .. يقولون بأن الشريف حسين لم يكن يريد الانقلاب على الدولة العثمانية حتى اللحظة الأخيرة وكان له عدة مطالب، إلا أنكم رفضتم أنتم سعادتكم وكذلك انور باشا ( وزير الحربية ) مطالبه وعنّفتم الشريف حسين بردٍّ قاس ردّاً عليها ..؟

تحول هدوؤه إلى غضب ظاهر وقال لي بلهجة أقرب للتقريع:

“طلب أن تكون إمارة مكّة وراثيّة في عائلته، هل هذا طلب يخدم القضيّة العربيّة؟ ونحن لا نستطيع إعطاءه مثل هذا الوعد لأنه سيُغضب أفرعاً أخرى من الشرفاء وقد يجلب لنا الكثير من القلاقل والاصطدام مع باقي القبائل العربية في الجزيرة.”

تجاهلت غضبه وقاطعته قائلا:

وطلب أيضا العفو عن رواد أعلام العرب الذين أعدمتموهم في دمشق وبيروت؟

سكن قليلا وحاول السيطرة على انفعاله وقال لي بصوت يتصنع الهدوء:

“هذه قصة طويلة ..”

قصة طويلة! ( قلت لنفسي) ألححت بالسؤال:

ولكنها هامة وتشكّل جوهر الموضوع، يجمع الكثيرون على أن تحوّل العرب من طلب الحكم الذاتي أو اللامركزية إلى الاستقلال التام والانفصال عن الدولة العثمانية كان بعد هذه الحادثة المؤسفة والاليمة. .. ؟

مال بجسمه قليلاً نحوي ورفع نفسه بعض الشيء بعد أن ضغط بيديه على مقبض السيف المسنود على الأرض ودفع بصدره باتجاهي وأصبح رأسه قريباً مني بشكل “مخيف” وقال بصوت أقرب للهمس:

“نعم هي مؤسفة، لأن الخيانة مؤسفة وأليمة، والخونة اتخذوا من هذا الفعل ذريعة ليعلنوا عن مشروعهم الذي يعملون من أجل تحقيقه منذ سنوات. لكن الحقيقة بأننا كنا نرصد حركة البعض منهم. هؤلاء المرتبطون مع الدول الأجنبية منذ زمن طويل، وقد تم إصدار قانون عفو عن جرائم هؤلاء في العام 1913.”

وعاد صوته ليرتفع قليلاً من جديد ويبتعد بجسمه عني الى الوراء. ” عندما أتيت إلى دمشق قائداً للجيش الرابع في أواخر العام 1914 سلّمني والي سوريا وثائق حصلوا عليها من السفارة الفرنسية تثبت تورط هؤلاء في تشكيل جمعيات سرّية وتلقّي أموال وتعليمات من دول أجنبية لاقتطاع أجزاء من الدولة العثمانية. أحكام الاعدام كانت نهاية القصة وليست بدايتها.”

صمت قليلاً وعاد إلى إيقاع الخطابة يلقي على مسامعي، بصوت ترتفع وتيرته رويداً رويداً، تتمة الجواب على سؤالي:

“ومع ذلك عمدت وقتها إلى سياسة اللين والتسامح وحاولت تقريب الكثير من هؤلاء الرجال إلي، وثنيهم عما هم ماضون فيه وبينت في أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة بأنه ليس لدي اعتراض على الحكم الذاتي على أن يتم إقراره بطرق صحيحة، ولكني كنت أشدد بأن هذا الموضوع لا يصح التداول فيه أثناء قيام الحرب والأعداء يتربّصون بنا، بل يجب في هذا الوقت، الحفاظ على وحدة الملّة والدين وتدعيم الوحدة بين الشعب العربي والتركي لردّ العدوان عن أرض الدولة.”

لم أستطع أن أنتظر حتى يكمل حديثه، و أردت بشكل ملحّ أن أستفسر عن موضوع موافقته على اللامركزية، إذا كان جمال باشا السفاح موافقاً على إعطاء حكم ذاتي للعرب فما هي المشكلة اذاً؟ ولماذا قامت الثورة وحصل ما حصل؟

عفواً للمقاطعة ولكن هل كنت بالفعل غير معارض للامركزية أو الحكم الذاتي؟!

“نعم، لا أعارضها في حال سلكت الطريق الدستوري وكانت بناءً على إرادة الشعب، وقد صرّحت بهذا بشكل علني في خطابي عندما وصلت إلى دمشق بحضور كثير من (المصلحين) كما تسمونهم، الذين دعوتهم بمبادرة مني للتقرب منهم والتفاهم معهم، فيدي كانت دائما ممدودة لتقريب الشعبين اللذين أؤمن بأنهما عامودا الاسلام وفي حال انفصلا أو انهار أحدهما فإن الدين الاسلامي سيفنى لا محالة.”

استطردت:

اتبعت سياسة التسامح والتقريب في البداية؟ ما الذي غيّر هذه السياسة وأودى بهؤلاء الرجالات، الذين يعدهم العرب رمزاً من رموز نهضتهم، إلى حبل المشنقة؟.

“خياناتهم المستمرة، لم يرتدعوا رغم كل شيء، وبعد بداية الحرب وتكالب الدول الغربية علينا أصبح الوضع حساس للغاية فيما لم يلبِّ هؤلاء الدعوات المتكررة لتأجيل الكلام عن الانفصال حتى تضع الحرب أوزارها، على العكس بدأوا يشحنون الشارع ويعدّون لحمل السلاح والعصيان”.

ولكن أنت منذ قليل قلت بأن سعي البعض من خلال تشكيلات سياسية للوصول إلى حكم ذاتي لبعض المناطق مقبول بالنسبة لك، فلماذا اعتبرته لاحقا خيانة يستحقون عليها العقاب؟ ماذا فعل هؤلاء أكثر من ذلك؟ ألم يكن حراكهم سلمياً وأخذت معظم الجمعيات التي شكلوها تصاريح وموافقات من الدولة العثمانية؟ ألم تفكروا، سعادة الحاكم، ماذا ستكون نتائج قراركم بإعدام هؤلاء الرجال الذين يعتبرهم قسم كبير من العرب رواداً ونخبة يعوّلون عليهم للوصل إلى مستقبل أفضل؟

زم شفتيه وأطرق قليلاً ثم نهض. هممت بالوقوف ولكنه أشار إلي بأن أبقى جالساً وبات يمشي جيئة وذهاباً بجانبي.

“أولا جمعياتهم كانت معظمها سرية، وثانياً كلامك يمكن أن يصحّ في أوقات السلم ولكن في أوقات الحرب يختلف الموضوع. لماذا اذاً تعيّن الدول في أوقات الحرب حاكماً عسكرياً؟ لماذا أنا هنا أصلاً؟ عند الحرب، قد تتعرض كل دول العالم للضعف والأزمات ونقص الموارد، وعلى الحاكم أن يتعامل مع نوع خاص من القضايا بكلّ حزم وشدة.

قلت لك سابقاً بأن تعاملنا مع هذا الموضوع في بداية الحرب أو قبلها كان يميل للّين والاستيعاب والتجاوب، ولكن اليوم أي اظهار للّين والتغاضي عن مثل هذه الأفعال الشنيعة سيفسَّر بانه ضعف ويزيد الأمر سوءاً بالنسبة لنا.

يستلزم فرار الجندي من الخدمة العسكرية حكماً بالسجن ، ولكن في أيام الحرب الجندي الفار يُعدم أليس كذلك ؟”

بات هو يوجه الأسئلة لي الآن؟ !

توقف ينتظر الرد مني، فيما كنت أشجع نفسي مدركاً لحجم المسؤولية الكبيرة التي تحمّلتها عندما حظيت بفرصة لإجراء هذا اللقاء، وكنت مصرّاً على أن أحصل منه على كل الحقائق. وهكذا استمرّيت في طرح السؤال تلو السؤال في “بحيرة” هذا “الكنز المعرفي” وأنتظر أن تحمل إلي الدوائر المعلومات التي اريد

ولكن هناك من يقول بأنك بتّ تميل للشدة ( واعذرني) العنف غير المبرر بعد خسارة الجيش الرابع وفشله في اجتياز قناة السويس وتقهقره إلى حدود فلسطين!.!؟

أحسست بالخوف والارتباك قليلاً بعدما أن طرحت هذا السؤال فقد لامست، ربما، جرحاً لم يندمل بعد.

حيث أن جمال باشا عُيّن أساسا قائداً للجيش الرابع العثماني الذي كانت مهمته الوصول لقناة السويس، عبورها والسيطرة على ضفتيها لقطع الطريق على القوات الانكليزية، ولكن الحملة التي قادها هو شخصياً عبر صحراء سيناء لم تستطع تحقيق هذا الهدف “الصعب” وارتدت عنه بعد خسارة المئات من جنودها إلى غزة حيث رابطت في بئر السبع قرابة السنتين.

نظرت اليه وكأني رأيت وجهه يتحول إلى اللون الأحمر القاتم وبدا لي بأنه يبذل جهداً كبيراً ليحافظ على هدوئه قدر الإمكان ليرد على سؤالي أيضا بنبرة الواثق.

“لم نخسر، ولا مجال لذكر حيثيات هذا الموضوع في هذا اللقاء، ولكن أؤكد لك بأن ما قمنا به وإن لم يحقق كامل الأهداف الصعبة التي وضعتها في أول الحملة على قناة السويس، ولكنه حقق جزءاً كبيراً منها. لقد أتاحت لنا الحملة الفرصة لنطلع على حقيقة الوضع الميداني لأعدائنا في تلك النقطة بشكل مباشر ودقيق، كما أن هجومنا قد نجح في حجز قوة كبيرة من قوات الانكليز في تلك النقطة وهذا ما خفف الضغط على باقي الجبهات.”

طرحت سؤالاً ( اعتراضياً) قبلأان ينتهي:

واليوم احتلت قوات الانكليز سيناء ودخلت فلسطين وهي اليوم حسب ما نقرأ في الصحف الغربية باتت على مشارف القدس. هل هذا صحيح؟

قال فوراً، وكان السؤال جاء في سياق حديثه:

“وهذا بفضل خيانة الشريف حسين، لقد قسم خروجه على الدولة ظهرنا، وعوضاً عن أن نستقدم الجيوش من الحجاز للهجوم على القناة، بتنا مضطرين أن نشتت جيشنا بين هنا والحجاز.

صمد جنودنا الأبطال، وبينهم الكثير من العرب لمعلوماتك، في بئر السبع في غزة أكثر من ثمانية أشهر ومنعوا الانكليز من التقدم بإمكانيات متواضعة بالمقارنة مع ما يملك أعداؤنا وإن شاء الله سيثبتون ويدافعون عن القدس، وسنكون من المنتصرين. “

وماذا كنت تتوقع من الشريف حسين بعدما قمت بتنفيذ عمليات الاعدام تلك، هل كنت تتوقع منه أن يخضع ويسلم حياته لك ربما ليلاقي ذات المصير؟.

ارتسم طيف ابتسامة على وجهه فيها الكثير من خيبة الأمل وأطرق قليلاً وعاد ليجلس مكانه ويعيد عليّ كلامه وكأنه يعيد الدرس على تلميذ بليد الذهن.

“كنت أتوقع منه، بعد أن نشرنا الوثائق التي هي دليل دامغ على خيانة هؤلاء الذين وقعت عليهم الأحكام، أن يتراجع عما هو عازم عليه، أن يفهم بأن الانكليز يستخدمونه أداة سيلقون بها بدون أي اكتراث عندما يصلون الى ما يصبون اليه. “

وأردت أن أستفسر أكثر عن هذه الوثائق وأدفعه ليتكلم عن محتواها، كان لدي الفضول لأسمع منه وأقرأ تعابير وجهه فيما إذا كان هو نفسه مقتنع بأن مثل تلك الوثائق تذهب بأصحابها إلى حبل المشنقة..؟!

إذاً ماذا كان في الوثائق التي اعتبرتها أنت دليلاً على الخيانة سيدي؟ هل كان فيها غير محاضر اجتماعات ووثائق ترصد تحركات نخب سياسية تهدف للوصول إلى حكم ذاتي لبعض المناطق في دولتكم؟.

“فيها أكثر من ذلك. لقد نشرت هذه الوثائق والاعترافات في كتاب الإيضاحات، يمكنك أن تقرأها وتحكم.”

ربما لا يتسنى لمن يقرأ هذا اللقاء أن يكون مطلعاً على الكتاب. باختصار هلّا يمكنك أن تخبرنا ماذا تضمنت؟

“التخابر مع دول أجنبية واستمرار التخابر معها حتى بعد إعلاننا حالة الحرب والحصول على الدعم منها، ووضع الخطط لمساعدتها في تحقيق أهدافها في هزيمة الدولة العثمانية، التي هي في النهاية دولتهم…لو نظرت في بطاقاتهم وبطاقات أجدادهم وأولادهم، ستجد بأنهم عثمانيون مثلي مثلك. ماذا في الوثائق… لا يمكنني أن أقرأ كل الوثائق والاعترافات عليك الآن ولكن لمن لديه أي شكوك حول هذا الموضوع يجب عليه أن يقرأ ويحكم بنفسه.”

في الحقيقة أنا قرأتها، ولكن مرة اخرى، واغفر لي إلحاحي، ألا يبدو لك بأن ما تشير إليه هذه الوثائق والمراسلات التي تدل على نشاطات واسعة وأحزاب تمتد من العراق حتى بيروت ومن اليمن حتى شمال سوريا، إنما هي أفعال لا تندرج في إطار الخيانة ؟! بل هي حركة سياسية.. ربما يمكن ان نقول عنها انفصالية .. ارتكزت على أسباب موضوعية كان يجب تفهمها و التعاطي معها بالسياسة وليس بالشدة؟

رد على كلامي على الفور

” حتّمت علي الظروف أن اتصرف بهذا الشكل، وانا كحاكم عسكري ومن موقع مسؤوليتي عليّ أن أفعل ما يجب فعله .. ولم يكن من الممكن أن أكون متساهلاً مع مثل هذه الأفعال أكثر من ذلك. وإلا لجرّت هذه المجموعة الصغيرة وراءها أعدادا أكبر لا يمكن أن نسيطر عليها ولا نؤثر فيها.”

ولكن هذه المجموعات الصغيرة، على حد تعبيرك، تمثّل إرادة كل العرب ضمن دولتكم. ألا يستحق العرب بأن تستمعوا لمطالبهم وأنت الذي اعتبرتهم أشقاء للأتراك في دولة واحدة؟.

“من قال لك هذا الكلام؟ من قال أن كل العرب يريدون الانفصال عن الدولة، أنا أقول لك بأن العكس تماما هو الواقع، أن من يريد الانفصال هؤلاء (المتفرنجون) الذين نخرت عقولهم شعارات ومبادئ قد تبدو حق ولكن يراد منها الباطل.

هؤلاء الذين شكّلوا الأحزاب والجمعيات بدعوة قومية العرب على حساب الملّة والانتماء إلى الوطن العثماني يريدون زرع الشقاق بين أبناء الوطن الواحد، أبناء الدين الواحد، هم قلة بين العرب وإن كان صوتهم عالياً لأنهم تلقوا المساعدات وجمعوا الأموال ليُنشؤوا الجرائد ويشاركون في المنابر داخل الدولة وخارجها، ولكن هم بالتأكيد لا يعكسون رغبة كل الرعية وسأثبت لك ذلك. “

وتابع بعد لحظة صمت حاول أن يستعيد هدوءه خلالها:

” في دمشق، من كان يؤمّن لنا الحماية نحن قيادات الجيش الرابع؟ من كان يحمي السُّلطات الادارية والقيادات العسكرية هنا عندما هاجم الحلفاء الأعداء الدردنيل ( مضيق يربط بحر ايجة ببحر مرمرة جنوب غرب اسطنبول )؟. سافرت كل قطعنا العسكرية الى هناك للمساندة وباقي قواتنا بعيدة هناك تدافع عن فلسطين والقدس. لم يكن لدينا قوة تُذكر في سوريا حتى تؤمن حمايتنا الخاصة. لماذا لم يقم علينا الشعب لماذا لم يعزلنا أو حتى يقوم بقتلنا؟

هل تعلم بأن الفرقة التي هاجمت قناة السويس واخترقت الصحراء في عمل أشبه بالإعجاز، كان فيها عرب مثلما فيها أتراك يسيرون جنباً إلى جنب في سبيل تأدية واجبهم المقدس؟ لم نشهد حالة تمرّد واحدة من عربي في جيشنا. كيف إذاً يريد العرب بنا شراً، ويسعى كلهم للانفصال؟ هذا غير صحيح.”

اعذر لي جرأتي مرة اخرى، ولكن ربما يخشى العرب بطشكم. ثم أنكم أرسلتم معظم الجنود العرب من هذه المنطقة إلى جبهات بعيدة ولم يعد هناك أي قوة عسكرية تُذكر من أهل سوريا فيها… أليس كذلك؟.

وهنا بدأت تظهر عليه علامات الانزعاج والنزق لا بل وبعض معالم الدهشة، وكأنه لم يسبق لأحد قبلي أن أسمعه مثل هذا الكلام.

“أرسلنا الجنود إلى حيث المعارك، ليس شباب العرب وفقط ، بل كل شباب الدولة العثمانية من جميع القوميات والأديان موزعين على الجبهات. أليس من واجب العرب أيضا حماية دولتهم وصون كرامتها؟. ومع هذا، ماذا عن الأهالي، ماذا عن رجال الدين، ماذا عن التجار وكبار القوم؟ هؤلاء، على العكس تماماً، لو كان لديهم أي ارتباط بهذا المخطط الانفصالي أو الانقلابي لكانت الفرصة اليوم هي الأنسب للسيطرة على السلطة في هذا الجزء من أراضي الامبراطورية. لماذا لم نشهد حتى عملاً واحداً مخلاً بالأمن هنا في دمشق وحلب وبيروت والقدس، فيما كنا نحن السلطة في أضعف حالتنا؟.”

لماذا؟

“لأن شعوب هذه المنطقة متمسكين بالملّة والرابطة الاسلامية، وبالتالي لا يمكنهم أن يعملوا على إسقاط الخليفة وإنهاء الاسلام. على العكس سيقدّمون كل غالٍ ونفيس في سبيل إنقاذه. لا تستمع إلى هؤلاء الذين سلّمتهم الدول المعادية أبواقاً لينفخوا فيها. هؤلاء صوتهم عالٍ لأنه تم إعدادهم لكي يكونوا كذلك، لكي يلعبوا هذا الدور المضلّل. ولكن سكان هذه الأرض في معظمهم ليسوا مع هذا الاتجاه، لا بل كما قلت لك هم يعرفون بأن تمسّكهم بدولتهم هو تمسك بدينهم الذي لا يمكن أن يفرّطوا فيه. “

اعذرني مرة اخرى في طرح سؤالي التالي، ولكن سعادة الحاكم، ألستم أنتم في حزب الاتحاد والترقي من أضعفتم الخليفة وأبعدتموه عن العمل السياسي؟. ألم تعزلوا عبد الحميد الثاني؟. ألم تسحبوا من خليفته محمد الخامس صلاحية تعيين رئيس الوزراء والوزراء والكثير من المناصب الهامّة في الدولة حتى أصبح وجوده صورياً؟

لم يعد السفاح يتعامل معي في سياق اللقاء كصحفي يملي عليه الإجابات بل تحوَّل اللقاء إلى شيء أشبه بالمناظرة.

“لم نضعف الخليفة، بل أصبحت الدولة العثمانية بقيادتها التقليدية ضعيفة وبدأت بالتفتت وخشينا عليها من الانهيار جراء سياسات عبد الحميد الثاني ومن سبقه من السلاطين، فقدنا بلغاريا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود والصرب وأجزاءً أخرى ضمتها روسية، كما فقدنا تونس ومصر والسودان واحتل اعداؤنا ادرنة التي لا تبعد اكثر من 50 كلم عن القسطنطينية قبل أن نعيد السيطرة عليها. كان لابد لنا أن نفعل شيئاً ما…

وهل تجريد الخليفة من صلاحياته هو الحل؟

سألت بنبرة فيها استغراب!!

“اسمع …” بدت نبرته أكثر قسوة وفيها شيء من العدائية. ” اتبع السلاطين العثمانيون الذين تعاقبوا على حكم الدولة منهج اللامركزية وتركوا شعوب الامبراطورية على ما هي عليه في نظام لامركزي يعطي حكماً ذاتياً مرتبطاً بالسلطان، وقد استغل اعداؤنا هذه النقطة بالتحديد وأذكوا العصبية القومية والطائفية للشعوب التي تقع تحت حكمنا وبدأ هؤلاء بالعمل على الانفصال بمساعدة الدول الغربية. “

الحل بالتتريك اذاً؟

عاد وانتصب واقفا وأيضا أشار لي بأن أبقى جالسا. وقف متكئاً على مسند كرسيه الذي وصل إلى حد كتفه ووضع قدماً أمام الأخرى وقال وهو ما زال يحاول أن يبدو صبوراً متفهّما لأسئلتي:

” ليس التتريك، نحن لا نريد أن نجعل الشعب العربي تركياً، ولكن نريد أن نفرض سيادة الدولة. والسيادة لها عناصر لا بدّ من فرضها وحمايتها حتى تبقى الدولة وحدة واحدة متماسكة.

نحن لا نريد التتريك ولم نكن يوماً كذلك. أنت تعلم بأنه، مثلاً، ونحن في سوريا التي هي جزء من دولتنا منذ قرابة الأربعة قرون، لا يتكلّم سكّانها التركية إلى اليوم، ولم يتحوّل أي منهم إلى العنصر التركي، على العكس تماماً، انتقل كثير من الأتراك إلى بلاد العرب، مصر والجزائر وسوريا وأصبحوا عرباً. لم نكن نحن عنصريين منذ تاريخ تكوين دولتنا ولكن كان لا بد من تعديل وموازنة هذا الواقع والعمل لتقوية الدولة المركزية بهدف إضعاف دعوات الانفصال وصيانة سيادة الدولة على اراضيها.”

ولكن بحسب معرفتي بما حدث في السنوات القليلة الماضية‘ فإن هذا بالضبط ما استثار العرب ودعاهم لرفع لواء الانفصال ؟

“الذي هو؟”

سأل وكأنه لم يفهم القصد.

“التتريك” وفرض اللغة التركية والموظفين الأتراك. شعر العرب بأنهم باتوا عنصراً مهدداً وأنهم بخطر ؟

” لا أرى أي ضير في أن يتعلم العرب اللغة التركية لتصبح اللغة الرّسمية لدولة عمرها 600 عام كانوا هم جزءاً منها لمدة أربعة قرون، ألا يتكلم الانكليز الانكليزية والفرنسيون الفرنسية؟. نحن لا نريد أن ينسى العرب لغتهم. وبكل الأحوال عندما رأينا حراكاً من قبل بعض رجالات العرب لاستغلال هذه النقطة جنحنا إلى اللين والعمل على التفاهم وكان لهم ما أرادوا.”

كيف كان لهم ما أرادوا؟ قلت في نفسي. لو كان لهم ما أرادو لماذا حصل كل ما حصل!؟

كيف كان لهم ما أرادوا؟ هل توضح ذلك لو سمحت ؟

“بعدما عقد رجالات من العرب مؤتمرهم في باريس وطرحوا مطالبهم من هناك، ورغم كل شيء ورغم تحفظنا على هذا العمل (المؤتمر) وفي محاولة منا استيعاب هذه الحركة ودرءاً للفتنة رأيت أن نجتمع بهم ونرى مطالبهم ونعمل على تحقيق ما هو ممكن منها ذاك الذي لا يتسبب بضرر مصالح الدولة العلية”

وقد عقد مؤتمر في 18 حزيران 1913 وحضره ممثلين عن الأحزاب القومية العربية التي تشكلت في تلك الفترة واتخذ مجموعة من القرارات على شكل مطالب موجهة للدولة العثمانية. تابع:

“وبالفعل اتفقنا وصدر مرسوم سلطاني بالتنفيذ، وتضمّن المرسوم عدة بنود أهمها تسليم الأعمال الإدارية في كل منطقة إلى السلطات المحلية، استعمال اللغة العربية في المدارس العربية، تقديم العرائض إلى الحكومة باللغة العربية، مراعاة أخذ الجنود التي تدعو الحاجة إرسالهم الى مناطق بعيدة بنسب عادلة بين الترك والعرب”.

وتضمن الاتفاق، وقتها، 10 نقاط تلبي معظم مطالب العرب، ولكن حسبما تم تداوله في الصحف في تلك الفترة وما علمت عنه من خلال بعض اللقاءات، فإن هذه الاتفاقات لم تنفّذ، أو ما نفّذ منها لا يكاد يذكر.

وأردت أن أواجهه بهذا.

ولكن هذا المرسوم لم ينفّذ، بحسب ما يقول الكثير من رجال المؤتمر وأعضاء الجمعيات العربية؟.

لم أكد أنهي سؤالي …

“تقصد لم يعطونا الفرصة للتنفيذ، لم تثنِ موافقتنا على مطالب أعضاء المؤتمر والجمعيات، عن مضيهم في طريق الخيانة، ومع دخولنا الحرب لم يكن مقبولاً ولا ممكناً على الإطلاق أن نغض النظر عن مثل هذه الاتصالات والتنسيق الذي كان يقيمونه مع أعدائنا.”

توقفت قليلاً محاولاً تلخيص إجابات مضيفي منذ أول اللقاء… ووصلت لنتيجة بأنه أصبح موقف السّفاح مفهوماً تجاه هذه النقطة ومبرّراته واضحة. في النهاية ليست مهمتي أن أقنعه أو أدخل معه في نقاش عقيم، المهمة تقتضي أن أنقل حقيقة موقفه للجمهور بشكل واضح وجلي لا أقل ولا أكثر وانتقلت إلى السؤال التالي :

سيادة الحاكم أنت في معرض إجابتك قلت بأن الدولة العثمانية تتفكك وربما إذا أخذنا مسار الأحداث منذ الحرب الكبرى، أليس من المبرر بأن يفكّر الشريف حسين والعرب من ورائه بأن يحفظوا وجودهم في الرقعة التي يعيشون عليها بتأسيس دولة عربية يدافعون عنها ويعملون على ازدهارها مستقبلا ً؟.

وبعدما خرج السؤال من فمي فكرت في أني ما زلت أحاول تبرير ما حصل وتبرئة ساحة الشريف ورجالات العرب الذين حشدوا للثورة العربية وتوجّست أن يثير هذا غضبة، ولكنه أجاب بنبرة فيها إصرار وتأكيد:

“اولاً هذا المنطق مرفوض، يجب على كل شعوب الدولة العثمانية الدفاع عن كل شبر فيها، واذا قام كل شعب، عرق، طائفة أو قبيلة بالعمل بهذا المبدأ فإنه لن تبقى دولة واحدة موحدة في كل أنحاء العالم، ثم بعد ذلك هل حقيقة سيقبل الانكليز والفرنسيين بأن يمنحوا العرب حق تأسيس دولتهم الواحدة؟!. هؤلاء لن يقبلوا باستبدال دولة إسلامية بدولة عربية، فمطامعهم أكبر وأهدافهم أبعد من إزاحتنا، هم يريدون اقتلاع شوكة الدولة الاسلامية التي بقيت في خاصرتهم قروناً طويلة، و يستخدمون بعض العرب في تحقيق مشروع كبير لن يبقي في هذه المنطقة حجراً على حجر.”

نعم لن يبقوا، أنا أعلم ذلك جيداً، قلت في نفسي.

ولكن يقولون بأن العرب حصلوا على ضمانات أكيدة من دول الحلفاء على استقلال دولتهم. هل تعتقد بأن هذه ضمانات غير حقيقية؟

“عن أي عرب تتكلم؟ هذه الدول تعمل على التفرقة ولا تعمل على وحدة الشعوب أبداً، هي تزرع بذور الشقاق والقسمة وتحاول أن تصفّي حساباتها وتأخذ بثأرها من المسلمين.

هل تعتقد بأن العرب هم فقط أهل الحجاز؟. الانكليز أيضا يدعمون ملوك وزعماء عرب آخرين في الجزيرة العربية، وسيأتي يوم ويشعل الانكليز الحرب بين العرب أنفسهم ليقوموا بعدها بدعم طرفاً منهم ليثبت حكمه من خلال دعمهم، وعلى الأغلب هذا الطرف يكون الطرف الذي يبدي طاعة وانصياعاً أكثر لأوامرها ويقبل بواقع ما تفرض مصالحهم.

أما فيما يخص سوريا والعراق فهم (الانكليز) كانوا يتفقون مع الشريف حسين على إقامة (دولته) العربية فيها من جهة ويتقاسمون اراض المنطقة بين فرنسا وانكلترا بالسر من جهة اخرى ..”

فهمت أنه يتكلم عن سايكس بيكو ولكني تفاجأت بأنه يعلم عنها ونحن في العام 1917، أي قبل أن تحط الحرب العالمية الأولى رحالها.

كيف تقاسموها؟

“اتفاق سري كشفته روسيا لنا بعد أن انتصرت فيها الثورة الشيوعية، تتقاسم فرنسا وبريطانيا، بموجبه، النفوذ في كل من العراق وسوريا، ولن تقوم فيها دولة عربية مستقلة كما وعدوا.”

هل يعرف الشريف حسين بهذه الاتفاقية؟

“نعم يعرف، وأكثر من ذلك أُرسلت له رسالة تتضمن معلومات عنها عبر الأمير فيصل مع عرض بالصلح حقناً لدماء المسلمين ولم أتلقَّ منه أي رد”.

ولماذا لم يرد في رأيك؟

“لقد ذهب في خيانته إلى النهاية على ما يبدو، وأحرق كل مراكبه معنا، ولم يعد يأمن العودة وهو يعرف هول ما فعل.”

بعد وصول الحوار إلى هذه النقطة لم أعد أشعر بالارتياح، كنت أشعر بأن حجته قوية ولا أريد للسفاح أن يغلبني، وإن كنت أعتبر نفسي صحفياً موضوعياً محترفا. ولكننا، ولعقود طويلة، ونحن نحيي ذكرى هؤلاء الشهداء الذين يصفهم هو بالخونة.

كما أن الحوار لم ينقل واقع الحال تماما، وكأنه ليس في مسؤولية السفاح غير إعدامه لعشرات المثقفين والسياسيين العرب. كان علي أن أطرح مزيداً من الأسئلة وأذهب إلى أبعد مدى ممكن في مغامرتي هذه.

سعادة الحاكم ، ما زلت أطمع في الحصول على مزيد من صبرك ( ابتسمت قليلا فيما لم تبدُ على ملامح وجهه أي رد فعل على كلامي ) والسماح لي بأن أنقل لك ما رأيته أنا شخصيا في هذه البقعة من بلادكم من خلال تجولي فيها ولقائي بالعديد من الشخصيات

قال وبدا (كأنه) يتمسك بصبره بصعوبة: “تفضل… “

ما أريد قوله بأن الموضوع لا يبدو لي كما تحاول أن تضعه، عبارة عن أشخاص قاموا بخيانة وطنهم وتم إعدامهم، هي للأمانة شعور بالقهر والظلم عند شريحة واسعة من مواطنيكم الذين باتوا ينظرون إلى حكمكم وكأنه احتلال عسكري. الموضوع ليس إعدام عشرات المجرمين. هؤلاء كانوا نخباً ورجالات ذات مكانة عالية عند العرب، مثقفون وسياسيون وقادة رأي في مجتمعاتهم، كما أنكم لم تكتفوا بذلك بل سجنتم المئات ونفيتم عدد غير معروف من عائلات هؤلاء إلى أماكن بعيدة. شكّل كل هذا حالة من الحنق والغضب تدفع الكثيرين لاتخاذ موقف العداء من دولتكم.؟

توقفت وساد صمت قرابة الدقيقة أحسست به دهراً. أطرق جمال باشا قليلاً وبدا أنه يفكر فيما يقول لأول مرة منذ بداية اللقاء، لم يكن جوابه على هذا السؤال حاضراً.

“أنت…” وعاد ليصمت بضع ثوان وكان قد عاد إلى مقعده قبل حين. “أنت ما زلت ترى القضية في نهايتها ولا أعتقد بأن هذه الرؤية عادلة وقبل كل شيء، الحالة التي تتكلم عنها ليست عامة، أنا أعلم بأن الوضع سيء ولكن السوء هذا يتأتى من الحرب وتبعاتها من الأمراض والجوع ربما، من الضعف الذي نشعر به لأننا لا نستطيع حماية أرضنا وصون شعبنا كما نشتهي ونريد. ربما، نعم، نحن لم نستطع تأمين كل احتياجات السّكان في هذه السنوات الطويلة ولكن هذا حال كل الدول المتحاربة “

وتابع: ” وأما عن الظلم والقهر الذي تتكلم عنهما، نعم هما موجودان ولكن ليس لدى شريحة واسعة. أقصد تحديداً بسبب قضية إعدام هؤلاء الرجال وأيضا على المستوى الشعبي وليس السياسي لأن الموضوع استُغِل سياسياً لتنفيذ مشاريع خارجية مرتبطة بأعدائنا، وبكل الأحوال، أنا لا أنكر بأنه ترك أثراً سيئاً. ولكن فكر بالأمر، ليس السوء في العقاب بقدر ما هو في القضية كلها.

لماذا حصل ما حصل هذا أمر معقد وله جذور. إنه تاريخ لا مجال لأن نفرد صفحاته في هذا اللقاء وإنما أنا في الظرف والمكان الذي كنت فيه والمسؤولية التي تحملتها، لم يكن بإمكاني أن أتجاهل ما يحدث. لقد فعلت ما كان يجب علي فعله.

إذا كنت فعلا تريد البحث عن الحقيقة، يجب أن تسأل الخائن عن خيانته وليس من يحاول أن يحمي أرض وشعب دولته. هذا الخائن هو الشريف حسين وابنه فيصل.. استُخدما كآلات صماء، رفعوا شعار التحرر باطلاً، وخرجوا عن طاعة السلطان وخليفة المسلمين، والنتيجة بأن خادم الحرمين الشريفين اليوم هو الملك جورج الخامس ملك إنجلترا !؟”

الملك جورج الخامس

الملك جورج الخامس الذي وصفه جمال باشا بأنه أصبح “خادم الحرمين الشريفين”

في هذه اللحظة نهض عن كرسيه إعلاناً بانتهاء اللقاء. نهضت بدوري وشكرته على تخصيص هذا الوقت لي وعلى سعة صدره.

ودعني وقال لي “ما زلت أرى فكرة اللقاء كما كلمني عنها محمد ( يقصد محمد كرد علي ) غريبة ولكنها راقت لي، اكتب، انقل بأمانة ما دار بيننا للأجيال القادمة فأنا لا أريد أن يحكموا علي بالسوء ظلما.”

خرجت من جناحه إلى السلالم وغادرت فندق فكتوريا الكبير متجهاً إلى مكتب صحيفة الشرق لألتقي بمحمد كرد علي وأعلمه بتفاصيل اللقاء.

بقلم نضال معلوف: المصدر: سيريا. نيوز

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.