من كتاب سياف الزهور
أيها الجماهير الحاشدة الصامتة في كل مكان على هذه الأرض الطاهرة المعطاء..
دعونا الآن من منطلقاتنا السياسية، ومسلماتنا الفكرية، ومناقبنا، وقيمنا، ومبادئنا، وأخلاقنا التي باتت معروفة للجميع، ولنلق نظرة خاطفة على ما كنا فيه، وما نحن عليه الآن من نِعَم، ومباهج ومسرّات. لأن نضال الشعوب، والأحزاب، والأنظمة، والمنظمات، وكل الفعاليات الأخرى، هو في المحصلة من أجل الإنسان، وسعادته، ورفاهيته.
بادئ ذي بدء: أين كنا نسكن ونقيم؟ في البيوت الطينية، أو الخيام المرقعة، رجالاً ونساءً وأطفالاً تحت سقف واحد مع البهائم والعقارب والأفاعي وغيرها من الحشرات والهوام. أو في الخرائب والمقابر العامة، تحت الحر والقر، وكل عوامل الطبيعة الغادرة الهوجاء والمعروفة من الجميع. أما الآن:
فهناك قصور، وفيلات، وشقق فاخرة ، ومصاعد كهربائية، وأبواب أوتوماتيكية، وأجهزة إنذار الكترونية، وستالايت، وفيديو كليب، ومطابخ أميركية، وبرادات ، وغسالات، وجلايات، وخلاطات، وأفران غاز، وميكروويف، وكلها من الميلامين أو الستانليس ستيل الذي لا يعرف الصدأ.
وورق جدران، وسجاد عجمي، وبورسلان، ورخام إيطالي، وكريستال تشيكي، وبانيوهات ملونة، وبرانس حريرية، وشحاطات شاموا، ومثبتات شعر، وبخاخات عطر للمناطق الحميمة من الجسم، وأحواض سباحة، وكراسي هزازة، ونظارات شمسية، وزيوت واقية، وميزان آلي لمراقبة الوزن.
وهناك غرف استقبال، وغرف مائدة، وبار منزلي، وغرفة جلوس، وغرفة مكتب، وغرفة خادمة.
أما غرف النوم، فحدث ولا حرج، فهي باتساع ملعب كرة قدم، وكل الأسرة والمفارش من الاسفنج، أو الصوف المعقم، أو الريش الطبيعي، ووسائد مطرزة، ومراوح صينية، ومكاحل عاج، وحلي، ومجوهرات، ولآلئ نادرة، وأرقى الاكسسوارات، مبعثرة في كل مكان.
أما غرف الأطفال فهي كالمتاحف تماماً: حفّاضات عصرية بكل الأشكال والألوان، تمتص البلل وتمنع الرطوبة. ثم بالونات ملونة، وقطارات كهربائية، وفنادق كرتونية، وأعياد ميلاد شهرية وأسبوعية، وشموع وهدايا، ودمى ناطقة، أو باسمة، أو مقهقهة..
أما الثياب ، للرجال والنساء والأطفال، فكلها من أرقى أنواع الحرير والكشمير والموهير، بما فيها بناطيل الجينز والفيزون. أما أحذية وحقائب السهرة، فمعظمها من جلود التماسيح والأفاعي، وغيرها من الزواحف والقوارض النادرة.
ثم ماذا كنا نأكل من قبل؟ خضيض اللبن، والبرغل المسلوق على مدار العام، وكعكاً كالحجر، وحساء العظام في الأعياد.
أما الآن:
فهناك، بفتيك، سكالوب، همبرغر، شاتوبريان، كوردون بلو، فروج مسحب، شيش طاووق، سمك مدخن، ضفادع، كبد الإوز، بط بالنبيذ، وعصافير مشوية أو مقلية حسب الطلب، وكلها مع الفطر والخضار وفرق الدبكة والفنون الشعبية.
ثم هناك… على مدى البصر… حقائب سمسونايب، سيجار، بايب، معاطف جلدية، وتليفونات لاسلكية وخليوية، وتلكس، وفاكس، وأقلام ذهبية لتوقيع الأوتوغرافات، إذا كان المعني مطرباً، أو منظراً سابقاً. وساعات سويسرية، وعقارب فوسفورية في غاية الدقة، للتأكيد على أهمية الزمن بالنسبة للعرب.
كما صار عندنا بورصة، وأسواق مالية، ومضاربات بالأسهم، وفنادق سياسية، وأدب سياحي، وفكر سياحي، وأحزاب، وعقائد سياحية.
ومزارع بلاستيكية، ومداجن عصرية تنتج جميع أنواع الفاكهة، والخضروات، والصيصان، على مدار السنة، والقرون، والأجيال. ومعارض رسم، ومعارض أزياء، ومايوهات، وسيارات بورش، ومرسيدس، وكاديلاك، ورولز رويس، وفيراري، وشبح، وكلها عازلة للرؤية ومصفحة ضد الرصاص والدموع.
ثم من كان يعرف، ماذا تعني كلمة “مصيف” أو “منتجع” أو في أي فصل تكون؟
كل ما نعرفه في الصيف : غبار، ورمد، وذباب…
وفي الشتاء: وحل، وبرد، وسعال، ودخان…
أما الآن: فالشتاء في الماربايا، وجزر الهاواي. والصيف على الشواطئ اللازوردية، في كان ونيس، وسويسرا.
أما أعياد الميلاد، ورأس السنة، والسهر حتى الصباح في المرابع الليلية، وعلى موائد القمار، وشراء الهدايا، وعمليات التجميل الهامة، مثل تقويم الأسنان، والأنف، وشد “جلدة” الوجه، وتكبير الثدي وتنحيف الورك والمؤخرة، فلا تتم إلا في أميركا وباريس ولندن وغيرها من عواصم القرار في العالم.
وكل هذا أيها الأخوة، لم يأت من فراغ، بل هو ثمن كفاحنا المستمر، ونضالنا الشرس، ضد الفقر والجهل والمرض والجوع والتخلف.
عابر سبيل: بل ثمن فلسطين!!محمد الماغوط (مفكر حر )؟