الراي
على الشرفة في الفجر، سكون وتراتيل وأذان وهواء صيف بارد. باق على بدء الصوم دقائق، مشهد تحتشد به الذكريات. لا أريد أن أنشغل بالذكريات خاصة وأن المشاهد التي تتزاحم الآن لم تكن كلها مفرحة، بل أريد أن أكتب. سأنشغل بالكتابة لأنها مهرب الأيام.
دق جرس الباب. أتأفف، فالجميع نائمون وعليّ النزول لفتح الباب. إنها العاملة التي تساعد أمي بالطهي. تأتي مبكرة جداً ولا أعلم متى تنام أو تستيقظ لكنها تصل وجه الفجر دائماً. فتحت لها الباب وأنا ابتسم. سيدة أربعينية بدينة، أعتقد أنها لم تفكر يوماً بالامتناع عن الأكل ولا علاقة لها بمسابقات الجمال والتنافس بين النساء. فستانها يكاد يتفتق من كثرة الدهن والشحم المحيطين بخصرها. لكنها تبتسم، وحينها تتحول لامرأة جميلة جداً، أسألها عن الحياة فتخبرني قصصاً مفجعة. عائلتها كلها تحتمي خلفها بمن فيهم الشبان. تنفق عليهم جميعا من الراتب القليل الذي تجمعه من خدمة المنازل. ولديها سبعة أطفال لا أعلم سبباً وجيهاً لإنجابهم في أسرة تعاني ضوائق مالية لا حصر لها. أسرة تتصرف دون تخطيط أو تفكير. ولديها حماتها المريضة. أعرف حماتها جيداً لأنها كانت تساعد في الطهي قبلها، لكنها لم تكن تبتسم مثلها. ولديها مسؤولية زوجها المقعد وأبنائها ولديها إخوتها ووالديها، كل هذا وتبتسم. نظرت في المرآة وحاولت أن أعقد مقارنة بين ابتسامتي وابتسامتها، ترى أيهما الأصدق والأعمق؟ من أين لها هذه الابتسامة؟
تذكرت مقالا كنت كتبته أثناء زيارتي لسريلانكا عنوانه (من الجنة). هناك، تعجبت وأنا أتجول بين الناس والفيلة والأفاعي والثعابين، من الابتسامة العميقة التي تحيط بي في تلك الغابة. ليس في المكان حضارة ولا أي تقنيات مثل التي أعيشها هنا، ليس هناك دور أزياء شهيرة ولا تنافس على الأجساد والأزياء أو ماركات السيارات. يركبون دراجة، يركبون فيلاً، يسيرون حفاة ولا يكترثون ولا يخضعون لشروط الدنيا، أقصى طموح الفرد الحضور لمنطقتنا والعمل عامين لتجميع ثمن قطعة أرض يبني عليها بيته، هذا هو حد ينتهي عنده الصخب والجنون والحلم والطموح والتهافت على المادة. والكل مبتسماً في الغابة، فكيف يبتسمون؟
أهذا هو شرط الجنة. أن تجتمع متع الطبيعة مع زهد المطالب لتملأ السعادة المكان؟ شرط معاكس للرسم التقليدي للجنة، والذي يصورها مجرد مكان تلبى به المطالب.
أذكر أني كنت أرتعد من منظر الأفاعي، وأذكر أن سيرلانكياً قال لي « إننا لا نخشاها فهي لا تؤذي بل الإنسان هو الذي يؤذي أخاه وهو من عليكِ أن تأمني منه لا الثعبان».
وتذكرت قريباً لي. بسيطاً جداً. سعيداً جداً. لديه عدد من الأبناء يفوق العشرة وأحفاده تجاوزوا رقم العشرين ووفرته المادية قليلة، لكن الضحكات والقهقهات تملأ منزله. ضحكات نابعة من قلوبهم بدليل أنها تصل لقلبي حين أسمعها.
وأنا أبتسم كثيراً لكنها بسمة حافلة بالأفكار، أبتسم ورأسي منشغلا بأشياء كثيرة. فهل علي وضع حد لشروط الدنيا كي تصدر البسمة من أعماقي. هل يجب أن تتملكنا القناعة والزهد في الحياة لنحيا سعداء. ما هذا الشرط المؤلم؟
أعشق أوجاع الطموح، لكني أغبط القانعين السعداء. أغبطهم للحظات فقط كالتي أعيشها الآن حيث أحاول الانسجام مع الفجر. بعدها أعود لأيامي الدنيوية بشروطها الصاخبة وأعود لمراقبة المبتسمين من الأعماق لكنهم ساكنون. لا يتحركون. لا يتغيرون أو يتقدمون. راضخون لكل شروط الجنةنادين البدير – مفكر حر؟