سليم نصار: الحياة اللندنية
يروي أحد الكتّاب الاميركيين في سيرته الذاتية عن الأسلوب الذي استخدمته والدته من أجل احتواء زواجها الفاشل.
قال إنها نجحت في امتصاص غضب الشجار المتواصل مع والده، من طريق تغيير أماكن الأثاث في المنزل بحيث تبدو قاعة الاستقبال وغرف النوم كأنها جديدة على النظر. وبما أن الزوجة المحافظة كانت تتحاشى الطلاق، فقد لجأت الى تغيير وجه المشكلة بهدف التستر عليها أو التعايش معها.
المهمة السياسية التي أُسنِدَت الى النائب تمام سلام، بعدما تجاوزت صديقيه النائب المهندس محمد قباني والمحامي غالب محمصاني، لا تختلف من حيث الشكل، عن مهمة تغيير أماكن الأثاث داخل المنزل اللبناني المضطرب. وهي مهمة صعبة لا تختلف عن مهمة سلفه نجيب ميقاتي الذي سعى الى إقامة توازن دقيق بين طموحات «الغالب» ورغبات «المغلوب». لذلك ظهر أداؤه خلال السنتين الماضيتين كأنه محاولة متعثرة لجمع «لبنانَيْن» في لبنان الواحد!
المحللون في هذا السياق، يحارون في تفسير توقيت انسحاب الرئيس نجيب ميقاتي، وما إذا كان رفض التمديد للواء أشرف ريفي هو السبب الحقيقي الذي دفعه الى الاستقالة أم لا؟!
الجواب المقنع لهذه الأحجية يتلخص في القول إن جماعة 8 آذار رفضت التمديد للواء ريفي لأنها كانت تبحث عن مخرج يبرر استدارتها المفاجئة. ومعنى هذا أن قرار الانعطاف السياسي كان مبنياً على اعتبارات عدة داخلية وخارجية. ومن المؤكد أن المعطيات التي طرحها «حزب الله» كانت هي المرجّحة لخيار التغيير.
السبب الأول جاء على لسان رئيس كتلة «المستقبل» الرئيس فؤاد السنيورة أثناء الاجتماع الأخير. ذلك أنه استنكر استمرار مشاركة «حزب الله» في القتال الدائر في سورية، وارتفاع أعداد القتلى اللبنانيين من عناصره. ومثل هذا الأمر يورّط الحزب ولبنان في مخاطر جمّة ويشوّه صورة دوره في مقاومة العدو الاسرائيلي لمصلحة مخططات إقليمية.
ولم يكن هذا الاستنكار وليد الخلافات السياسية والعقائدية فقط، وإنما هو حصيلة حقائق يعرفها المواطنون السنّة في صيدا وصور… خصوصاً أنهم يشاركون كل ليلة في دفن الجثث المنقولة من سورية، حيث يقاتل خمسة آلاف متطوع أرسلتهم قيادة «حزب الله» للدفاع عن النظام أسوة بدور الحرس الثوري الايراني.
عناصر الطائفة السنية في لبنان لا يكتمون خشيتهم من الانعكاسات السلبية التي ستصيب الساحة اللبنانية الداخلية في حال سقط النظام أو احتلت المعارضة مؤسسات دولة «البعث». عندئذ تصبح الساحة اللبنانية امتداداً طبيعياً للحرب المذهبية المشتعلة على أرض الجارة.
وتقول مصادر قريبة من «حزب الله» إن التيار الحيادي المعتدل، داخل صفوف الحزب، بدأ يلقى آذاناً صاغية لدى قياديين يؤمنون بأن الحرب الثانية مع اسرائيل تحتاج الى مساهمة الخمسة آلاف مقاتل، خصوصاً أن مشاركتهم قد تؤخر سقوط النظام السوري لكنها لن تمنعه.
السبب الثاني جاء على لسان الرائد ايتان ليفي الذي اعترف بأن اللواء الشمالي كان يعلم، طوال ثلاثين سنة، أن تدريباته محصورة بالجبهة السورية. أما اليوم، فإن العدو السوري قد استُبدِل بعدو لبناني. وهذا لا يعني – وفق تفسيره – أن عداوة السوري قد بطلت، بقدر ما يعني أن سورية لم تعد تمثل التهديد الحقيقي الذي يمثله «حزب الله».
ويُستَدَل من كلام الرائد ليفي أن اسرائيل تستعد لمجابهة «حزب الله» عقب سقوط النظام السوري… أو أثناء انشغال الحزب بامتصاص تداعيات التغيير في سورية. وتقول مصادر سياسية إن الضربة الاسرائيلية ستوجّه الى مستودعات الطوارئ الصاروخية قبل رجوع المقاتلين الى الجنوب. والشاهد على ذلك أن القيادة الاسرائيلية الشمالية مهتمة بتدريب فرق على استعمال النار الكثيفة من الجو بهدف شلّ السلاح الكيماوي الذي نقلت دمشق بعضه الى جنوب لبنان، أو بهدف شلّ قدرات الصواريخ أرض – أرض… أو أرض – بحر.
والملاحظ أن «حزب الله» يستعد لهذه المواجهة منذ باشر إدخال الطائرة من دون طيار الى أجواء اسرائيل، أو منذ نجح في إدخال 20 كلغ من المواد المتفجرة من طراز (سي-4) الى اسرائيل.
فسّر بعض المعلقين انعطافة «حزب الله» بأنها ناتجة من تغيير موقف ايران بالنسبة إلى القضية النووية. وقال آخرون إن العقوبات الدولية أجبرت ايران على مهادنة المجموعة السداسية في المفاوضات الأخيرة. وتشير القرائن الى أن واشنطن بلغت طريقاً مسدوداً لأن الوفد الايراني رفض التراجع عن موقفه المبدئي في مواصلة التخصيب.
إذاًَ، قرار مساندة ترشيح تمام سلام من جانب «حزب الله» كان قراراً داخلياً أملته ظروف محلية لبنانية بحتة وليس لإيران فيه أي دور.
وترى جماعة الرئيس نبيه بري أن عوامل انفتاح «حزب الله» فرضتها حاجة الحزب الى عمق إستراتيجي محلي أثناء فترة حربه الثانية مع اسرائيل.
والكل يعرف أن الانتصار الذي حققه الحزب في حرب 2006 يعود، في أسبابه غير المباشرة، الى احتضان الشعب اللبناني نصف مليون مواطن جنوبي هربوا باتجاه بيروت وطرابلس والجبل وكسروان. وقد فُتِحت لإيوائهم غرف المدارس ودور العبادة من كنائس وجوامع. وترى قيادة الحزب أن هذا الوضع لن يتكرر بسبب الأحقاد التي تركتها أحداث 7 أيار (مايو) عام 2008. أو بسبب تصرفات الهيمنة السياسية التي عانى منها زعماء السنّة والموارنة. ومن أجل إصلاح صورة الماضي، قامت «كتلة التنمية والتحرير» بإقناع قيادة «حزب الله» بضرورة تسهيل مهمة تمام سلام.
يقول السياسيون في اسرائيل إن التوجيهات المعطاة للقوات الشمالية تشجعهم على ضرورة محو السمعة الإعلامية التي أفرزها انتصار الحزب في حرب 2006. ويرى بنيامين نتنياهو أن الحرب الثانية ضد «حزب الله» ستكون جزءاً من الحرب ضد ايران وضد حماس والجهاد الإسلامي في غزة والضفة الغربية. ومعنى هذا أن الحرب حتمية بهدف تدمير آلاف الصواريخ الايرانية المعدّة لقصف تل أبيب وغوش دان وحيفا ويافا.
وكما حدث التحوّل في موقف «حزب الله»، كذلك تعرضت العاصمة بيروت لعاصفة تحوّل في مزاجها السياسي، أعادت «القرنفلة» الى دار آل سلام في «المصيطبة». وراح أهل السنّة من سكان بيروت يتذكرون كيف فتح الزعيم صائب سلام أبواب العاصمة لإبن صيدا رفيق الحريري، الأمر الذي سلب سنّة بيروت دورهم التقليدي في اختيار رئيس الحكومة.
ومنذ تكريس عملية تجيير هذا المركز المميز، انتقلت رئاسة الحكومة من الحريري الى فؤاد السنيورة. ومن السنيورة الى نجيب ميقاتي. وقد حظي سعد الحريري بقسط كبير من ذلك التوزيع الذي تخاطفته صيدا وطرابلس. ولولا الفترة القصيرة التي شغلها الدكتور سليم الحص، لما رأت العاصمة إطلالة لأحد أبنائها.
وفي ضوء هذه الخلفية، اندفعت بيروت، بمختلف مذاهب سكانها، للترحيب بتمام سلام كوريث لزعامة كادت تزول… وكممثل لتيار سياسي كادت تمحوه الانتخابات الأخيرة. وقد وظف النائب تمام ذلك الإجماع النيابي والتوافق الشعبي من أجل تعبئة الشارع البيروتي لما وصفه بحكومة المصلحة الوطنية.
ومن وسط هذا الإجماع ينطلق السؤال المتعلق بصعوبة تشكيل حكومة تلاقي الترحاب الذي لقيه التكليف. خصوصاً أن سعد الحريري أمضى أكثر من خمسة أشهر قبل أن يعثر على الصيغة الوزارية المقبولة. وكذلك نجيب ميقاتي صرف أكثر من أربعة أشهر قبل أن تستنزفه مطالب جماعة 14 آذار وشروط جماعة 8 آذار.
ويبدو أن صدر تمام سلام بدأ يضيق بالمطالب التعجيزية الكيدية التي يطرحها رؤساء الكتل من أجل الحصول على وزارات خدماتية أو سيادية يمكن استثمارها لأغراض انتخابية.
علي فياض، النائب عن «حزب الله»، دعا الى مقاربة تحتوي التناقضات، وتفتح الباب على معالجة الأزمات التي تعصف بالبلاد. وتمنى تشكيل حكومة توافقية بحيث يكون اداؤها الوطني توافقياً ووفاقياً أيضاً، مشترطاً على سلام ألا ينحاز الى أي فريق سياسي.
أما أمين عام «تيار المستقبل»، أحمد الحريري، فقد طالب بضرورة تشكيل حكومة حيادية تبعد عن لبنان أزمات المنطقة، وألا تكون مرتهنة لـ 14 آذار أو 8 آذار.
رئيس جبهة النضال الوطني، وليد جنبلاط، تعهد تقديم كل الجهد والدعم والتشجيع في سبيل إنجاح مهمة الرئيس المكلف الذي وعد بحكومة مصلحة وطنية. ومثل هذا المصطلح يتطلب من تمام سلام فتح قنوات الحوار والخروج من حال القطيعة السياسية بحيث يُصار الى تنظيم الخلاف إذا لم يكن في المستطاع إنتاج حلول جذرية للقضايا الخلافية العميقة.
أما رئيس تيار «المردة»، النائب سليمان فرنجية، فقد حذره من تشكيل حكومة تكنوقراط على اعتبار أن الظروف الحالية، في لبنان والمنطقة، تستدعي انتقاء وزراء من النوع الذي يوحي بالاستقرار ونشر الأمن.
وفي الوقت ذاته طالبت كتلة حزب «القوات اللبنانية» بحكومة تكنوقراط حيادية غير فضفاضة من غير المرشحين للانتخابات.
أما على الصعيد الخارجي، فإن الإجماع الذي لقيه تكليف سلام فرض عليه التأني في عملية التشكيل، خصوصاً بعدما تلقى التهنئة والتشجيع من مختلف الدول العربية والأجنبية، بدءاً بالمملكة العربية السعودية… مروراً بالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا… وانتهاء بروسيا.
الرئيس المُستقيل نجيب ميقاتي، دعا المواطنين الى ضرورة نبذ الخلافات السياسية والمذهبية، وطالب بحكومة انصهار وطني قادرة على تمرير لبنان في دهاليز المرحلة الخطيرة المقبلة. وطلب الاقتداء بجورج كليمنصو الذي تناسى خلافه السياسي مع رئيس جمهورية فرنسا بوانكاريه، وقبِلَ أن يكون رئيساً لوزراء حكومة الحرب. وبفضل تلك المشاركة ربحت فرنسا الحرب العالمية الأولى. وبهدي من هذه الواقعة، يرى ميقاتي أن الوفاق بين زعماء لبنان هو أفضل الطرق لإنجاح مهمة تمام سلام.