صبحي حديدي: القدس العربي
إذا صحت الأنباء عن مصادرة أموال أيمن جابر، الرأس الثاني القيادي في ميليشيات «صقور الصحراء» و«مغاوير البحر»، التي ظلت تتبع للنظام السوري (المخابرات العسكرية، الفيلق الخامس، وزارة النفط) حتى تفريقها؛ فإنّ محاق أمير الحرب هذا سوف لن يتجاوز إضافة اسم جديد على لائحة طويلة، طويلة، تشمل المئات ممن سادوا على امتداد 48 سنة من حكم آل الأسد، ثمّ بادوا بحكم سُنن كثيرة؛ بينها انتهاء الصلاحية، أو استنفاد الخدمة، أو الإفراط في الطموح، أو الوقوع في تقاطع نيران بين الرؤوس الأكبر، أو الانقلاب إلى عائق في كثير أو قليل. تلك كانت حال أمثال ناجي جميل، علي حيدر، علي الصالح، شفيق فياض، محمد الخولي، علي دوبا، حكمت الشهابي، عبد الرحكم خليفاوي، عبد الرؤوف الكسم، محمد الزعبي، عبد الحليم خدام، خلال عقود الأسد الأب؛ وحال آصف شوكت، غازي كنعان، بهجت سليمان، محمد منصورة، حافظ مخلوف، جامع جامع، رستم غزالة، خلال سنوات الأسد الوريث.
الفارق عن هؤلاء، ولكن الشبه الكبير مع عشرات سواهم، أنّ آل جابر لم يترعرعوا في حاضنة السلطة الفعلية، ولم يكونوا ضباط أمن وجيش وقيادات حزبية أو حكومية، بل صعدوا من الحضيض، وارتقوا السلّم اعتماداً على طرائق إثراء متعددة، غير مشروعة، مكّنتهم منها تماسيح النهب في قلب عائلة السلطة، التي حاصصتهم في الملايين والمليارات ضمن ما يشبه صيغة «المرابع» مع صاحب المزرعة؛ ثمّ توجّب أن يخدموا النظام عسكرياً هذه المرّة، عن طريق تشكيل ميليشيات قتالية تخضع لإشراف الأجهزة، وتعوّض بعض الاستنزاف الذي أخذت الوحدات النظامية تعاني منه في جبهات مختلفة. وهكذا، في عام 2013، أطلق محمد وأيمن جابر ميليشيات «صقور الصحراء» لكي تؤدي مهمات محددة؛ مثل حماية آبار النفط في محيط دير الزور، ومرافقة قوافل نقل الخام العراقي والإيراني إلى مصفاة حمص، ثمّ المشاركة في عمليات قتالية خاصة هنا وهناك.
ولقد حققت هذه الميليشيات بعض النجاحات خلال مواكبتها لعمليات جيش النظام في بعض مناطق الساحل السوري، بلدات كسب وسلمى وربيعة بصفة خاصة؛ لكنها، في المقابل، فشلت فشلاً ذريعاً في حماية آبار النفط، التي سرعان ما استولت عليها «داعش»؛ وفي حزيران (يونيو) 2016 تعرضت ـ وشقيقتها الميليشيا الثانية، «مغاوير البحر» ـ إلى هزيمة نكراء في هجوم إثريا ـ الرقة، ومُنيت بخسائر فادحة أثارت سخط الموالين بسبب ما تردد عن مسؤولية الوحدات النظامية في هذه النتيجة. قبل ذلك، في شباط (فبراير) 2015، قُتل العميد الركن محسن سعيد حسين وهو يقود ميليشيات آل جابر في هجوم على حقل الشاعر النفطي، لكي يتضح أن هذا الضابط كان نائباً لرئيس فرع البادية في المخابرات العسكرية، وأحد ضباط الحرس الجمهوري قبلئذ؛ الأمر الذي كشف النقاب عن مدى الارتباط المباشر بين ميليشيات آل جابر والأجهزة الأمنية.
لم يكن الأمر خافياً بالطبع، ولم يكن مستغرباً أو غير مألوف، إذْ كان الشقيقان جابر يردّان إلى خزينة النظام بعض ثمار ما كسباه من مليارات طيلة سنوات من «المرابعة» مع عائلة النظام، وفواز الأسد ابن عمّ بشار بصفة خاصة، في اللاذقية؛ وكذلك بعد عام 2005 حين آل إليه خطّ النفط العراقي. لائحة «رجال الأعمال» الذين توجب أن يسددوا ما للنظام بذمتهم، خاصة بعد عام 2012، عن طريق تمويل قطعان «الشبيحة»؛ كانت تشمل أمثال محمد حمشو وجورج حسواني ومجد سليمان، وعلى رأسهم صيرفي النظام رامي مخلوف؛ فشهدت سوريا تشكيل ميليشيات وكيانات مثل «قوات درع القلمون»، «قوات الدفاع الوطني»، «كتائب الجبلاوي»، «فهود حمص»، «درع الوطن»، «فوج مغاوير البادية»، «أسود القائد الخالد»، «أسود الفرات»، «لواء خيبر»، «لواء أسد الحق»، فضلاً عن اثنتين من الميليشيات المسيحية: «قوات الغضب» و«سوتورو».
بعد التدخل الروسي في سوريا، خريف 2015، حظيت ميليشيات آل جابر باهتمام الاستخبارات الروسية، وبدأ قادة عسكريون روس يتعمدون الظهور مع رجال الميليشيا والتجوّل برفقتهم في قرى الساحل والمشاركة في احتفالاتهم ومآدبهم ومآتمهم. وأشارت تقارير متطابقة إلى أنّ الميليشيا حصلت على صواريخ مضادة للدروع من طراز «كونكرس»، ودبابات متقدمة ـ 72 وت ـ 90، خاصة بعد زجها في معركة حلب. الوجه الثاني لهذه العلاقة الخاصة تمثل في سلسلة المصالح المشتركة بين آل جابر والمافيا الروسية، التي كانت أصلاً تعود إلى سنوات خلت وتوطدت أكثر مع استقرار الروس في حميميم وطرطوس. تلك كانت إشارة الإنذار الأولى حول ذهاب الميليشيات أبعد مما يحقّ لها، خاصة وأنها ارتبطت بشخصَي محمد وأيمن جابر اللذين لا يتمتعان في قرى الساحل السوري بسمعة أخرى غير النهب والتسلط، في وقت شهد سعي الأسد المحموم إلى إعادة استرضاء الطائفة العلوية والتغطية على الأثمان الباهظة التي تسددها من دماء أبنائها دفاعاً عن النظام.
ولعلّ القشة التي قصمت ظهر البعير كانت أنباء الصدام بين موكب الأسد وموكب إبراهيم جابر، الشقيق الثالث، على طريق القرداحة دون سواه، وذيوع الحكاية في طول قرى الساحل وعرضها، وما ألحقته من أذى بسلطة الأسد نفسه من جهة؛ وكذلك ما أشارت إليه من تعاظم نفوذ آل جابر، من جهة ثانية. الأرجح أنّ الواقعة لم تكن متعمدة، فليس لعين آل جابر أن تعلو على حاجب آل الأسد في كلّ حال، ولا مصلحة لهم أساساً في الذهاب إلى حماقة مثل هذه. لكنّ مجرد الاحتكاك بين الموكبين كان كافياً في ذاته لإحداث الصدمة، فضلاً عن التنبيه إلى الخطوط الحمر المتعارف عليها حتى دون اتفاق، وهذا «بروتوكول» يشمل عوائل النظام ـ آل الأسد وآل مخلوف وآل شاليش وآل نجيب… ـ فيما بينهم؛ فكيف بأسرة مغمورة صعدت من الحضيض، بترخيص من ماهر الأسد وفواز الأسد ورامي مخلوف! وهكذا توجب «تأديب» مرتكب الخطيئة، واقتياده إلى سجن القصر الجمهوري، وحلّ مرافقته، وإرسال الرسائل اللازمة حول هوية صاحب اليد العليا في تلك الأعالي…
أمّا في العمق، من جانب آخر مهّد الأرض لمحاق آل جابر، فقد كان التناقض المتزايد بين الرعاية الروسية لهذه الميليشيات، والتنافس مع «لواء سيف الحق أسد الله الغالب»، الذي يحظى برعاية ثلاثية في قرى الساحل السوري: إيران و«حزب الله» والحرس الجمهوري. ورغم أنّ المنطق الطبيعي يشير إلى أنّ الرعايتين يمكن أن تتكاملا، بالنظر إلى التطابق في مصالح الطرفين من حيث خدمة النظام؛ إلا أنّ عوامل أخرى، غير ثانوية في الواقع، كانت تتدخل لتعكير صفو العلاقة. ثمة، أولاً، صراع التبشير داخل صفوف الطائفة العلوية، بين تيار التشيّع الإثني عشري، والتيار المحلي الذي يحرص على «العادات والتقاليد». وثمة، ثانياً، ما تختلف فيه موسكو مع طهران حول اقتسام النفوذ في سوريا، وفي مناطق الساحل السوري تحديداً، وحول طرائق إدارة الحرب والسلام، وكسب الحلفاء أو تقليم أظافر الخصوم في هذا كله.
شتان إذن، وفي الخلاصة، بين محمد جابر الذي أفردت «وول ستريت جورنال» مساحة سخية من صفحاتها لرسم صورة قلمية له، منذ العام 2013، والذي كان «يطير في كل شهر إلى بغداد حاملاً حقائب محشوة بمئات آلاف الدولارات» بالنيابة عن النظام السوري، و«يودع نصف مليون دولار في أحد المصارف العراقية»؛ وبين الرجل إياه في محاقه، وأخيه، ومصادرة أموالهما المنقولة وغير المنقولة، وفق ما تشير التقارير. شتان، مع استذكار القول المأثور: ما طار طير وارتفع!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس