«الشر لا يمكن أن يضحك» تقول ميادة في نفسها فيما يدفعها رجلان متجهِّمان إلى غرفة «المحقق». كل ما حولها مرسوم، بطريقة تلقائية، لكي تنهار قبل الوصول إلى مكتبه، حيث سوف يبلغها التهمة الموجهة إليها: الخيانة! إنها التهمة الأكثر سهولة ورواجا. فلا المتَّهم يستطيع إثبات براءته ولا الضابط يستطيع إثبات الإدانة. لذلك، ينتهي الأمر عادة بالتراضي. بعد بضعة أيام من الذل والتعذيب، يطلب «المتهم» ورقة بيضاء يوقع عليها، ثم يعيدها إلى المحقق كي يملأها بالتفاصيل والاعترافات.
في مبنى التحقيق، المعروف بالبلديات، ترى ميادة في الأروقة رجالا محطَّمين، وجوههم مليئة باللكمات والكدمات والدم الأسود متجمد على شفاههم. تحاول الإشاحة عبثا. الجثث الحية بين الأقدام والأنين يخرج من النوافذ والسقوف. والمحقق في مكتبه، في الانتظار.
تجمع ميادة ما بقي لها من قوى لتقول له، إنها ابنة سلوى الحصري وحفيدة رائد القومية العربية ساطع الحصري، أحد رجالات التاريخ في العراق. ينفع ذلك في أن يسمح لها الضابط بالاتصال بمنزلها لكي تبلغ ابنتيها باعتقالها. ومن البلديات تُنقل حفيدة ساطع الحصري إلى الزنزانة رقم 52. وهي مُعدّة لثماني سيدات، لكن حشرت فيها 18 امرأة، بتهمة الخيانة.
«ميادة ابنة العراق» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر) ملحمة من ملاحم السجون العربية، الفارق الوحيد بينها وبين غيرها، أنها وجدت من يكتبها. وعلى طريقة التحذيرات التي تسبق بعض البرامج الوثائقية، فإن هذا الكتاب ليس لضعاف القلوب. ولست أدري لمن هو. ولا أنا أعرف ما النفع من نشر هذه الشهادات في العالم العربي. لن تؤدّي إلى شيء سوى زيادة الجلاد وحشية والضحيّة عذابا ويأسا.
وأنا أقرأ «ميادة ابنة العراق» لم أكن أفكر في النظام الذي يزرع الجثث الحيّة في الممرات. ولا في مدير المخابرات. بل في الجلادين الصغار الذين يحوّلون حياة مواطنيهم إلى جحيم ثم يذهبون إلى النوم. يجب أن نفكر في حارس الزنزانة 52 الذي له وجه الشر وقلب الشيطان. هؤلاء أناس من المجتمع الذي أنت منه. يمضون حياتهم في إنزال العقاب الوحشي بالأبرياء ثم يمضون بلا عقاب.
هل تريد أن تعرف من هو أسوأ من الجلاد الكبير والجلاد الصغير؟ إنهم جماعة «المثقّفين» الذين عملوا في خدمتهم. شهود الزور الذين مجّدوا الجريمة السياسية وجعلوها نموذج العدالة. الذي ساق حفيدة ساطع الحصري إلى الجحيم 52، لم يكن الحكم بل المجتمع برمّته، صامتا أو شريكا.
نقلا عن الشرق الاوسط