موطن السومريين في بلاد النهرين

iragisomeriبقلم:عضيد جواد الخميسي

سكن الانسان القديم بلاد الهلال الخصيب منذ أقدم العصور في ما قبل التاريخ ويدل على ذلك الآثار في الكهوف والتلال وبقايا المدن الدارسة في مختلف المناطق ، واطلق عالم الاثار الامريكي (جيمس هنري برستد) تسمية الهلال الخصيب على حوض نهري دجلة والفرات، والجزء الساحلي من بلاد الشام..

ان تقدير الفترات الزمنية لما قبل التاريخ بشكل صحيح ينتظر الفحوص بالكاربون المشع ( اسلوب حديث يتبعه علماء الاثار )، لذا تقدر الفترات التاريخية القديمة بشكل تقريبي لحد الآن وحسب الطبقات السكنية ، مع ربط كافة المعلومات التاريخية وتنسيقها . ويقدر بأن عصر تل حسونة وتل حلف يشمل الالف الخامس قبل الميلاد بكامله . وبينما عصر تل العبيد يشمل القرون السبعة الاولى من الالف الرابع قبل الميلاد ثم عصر فجر التاريخ في اوروك ( الوركاء ) من 3300 – 3100 ق.م. ثم عصر الكتابة 3100- 2800 ق.م. ولكن تحديد التواريخ في عصر فجر التاريخ أسهل من العصور السابقة بسبب مقارنتها مع نظيراتها في سوريا ومصر . وحضارة فجر التاريخ شملت تسارعا في التقدم الحضاري . وفي هذا العصر برزت الحضارة السومرية التي شملت جنوب العراق القديم . بينما بقي الشمال متخلفا نسبيا . ففي الجنوب ظهرت القرى حول المعابد ونشأت مختلف الحرف وتطورت بعض هذه القرى وأصبحت مدنا مزدهرة . وقد رافق هذا تطور حضارة الأنهر في مصر والهند والصين .

الرافدينيون القدماء أول شعب تعاطى الزراعة وأخذ في الاستقرار في مستوطنات زراعية في العصر الحجري الوسيط ، وأخذ الانسان ينزح من الكهوف الى البيوت المصنوعة من الطين والآجر والخشب . وأقدم مستوطنات زراعية ظهرت في التاريخ كانت في بلاد الرافدين وتعود للألف الثامن والتاسع قبل الميلاد .
ومن الشعوب التي اتخذت الهلال الخصيب مستقرا لها هو الشعب السومري ، وهم شعب عاش القرن الشرقي للهلال الخصيب الذي عرف باسم ((سهل شنعار)) . ومن غير الواضح كيف وطأوا تلك الأرض لاستيطانها بل يرجح أنهم أحد شعوب الشرق الأدنى القديم وأنهم كانوا دائماً في جنوب الرافدين منذ أقدم الأزمنة ومن قبل العصور التاريخية ، بل الأرجح أنهم أقدم شعوب بلاد الرافدين .

انتزعت سومر القيادة الفكرية والحضارية في بلاد الهلال الخصيب في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد وسبقت مصر في خلق أول حضارة مزدهرة تكمن فيها بذور تاريخية . لقد توصل السومريون في الألف الرابع قبل الميلاد الى فكرة الكتابة على الواح الطين بدافع من حاجاتهم الاقتصادية والادارية . بدأوا بالكتابة التصويرية ثم اخترعوا الكتابة المسمارية من 350 كلمة او مقطعاً، واقتبس الاكديون والحيثيون والبابليون والفرس هذه الكتابة وبقيت الى ان اخترع الكنعانيون الابجدية في القرن الثالث عشر قبل الميلاد .
ان ماحققه اولئك السكان القلائل في مجالات الفكر والاقتصاد والسياسة والهندسة والدين والادب تجلت بتأسيس دولة الاله المتمركزة في مدينة المعبد ، وذلك كتجسيد للايمان بالقوى الخفية ، المنطلق من فلسفة دينية ثابتة تشمل الفرد والجماعة على حدٍ سواء والتي وجدت تعبيرها في العمارة الضخمة ( الزقّورات ) والفنون المعمارية الجديدة .

ان الباحث السومري يستطيع أكثر من معظم العلماء والمختصين ان يشبع نهم الانسان في بحثه الدائم المتطلع عن “ اصول الاشياء “ او بعبارة أخرى عن “ أوائل الاشياء “ في تاريخ الحضارة ، اي اوائل المثل والاخلاق والدين والتراتيل الدينية والاساطير والقصص والملاحم . كذلك اوائل السياسة والحرب النفسية والاجتماع والفلسفة والقوانين ، وايضاً اول تشريع واول الاصلاحات الاجتماعية واول برلمان واول كتابة واول مدرسة واول ذكر للحرية (( أمارجي )) واول اغنية حب !!. وهناك حقيقة غريبة وهي وجود هؤلاء السومريين في العصور القديمة . والمنقبون الذين اكتشفوا السومريين لم يكونوا يبحثون عن آثارهم بل عن آثار البابليين والآشوريين الذين اشتهروا في التوراة والتاريخ القديم .لأن اسم سومر ذاته كان قد امحى من فكر الانسان ومن ذاكرته طوال اكثر من الفي عام بينما اثرت اعمالهم في المضمار الحضاري على بلدان الشرق الادنى لآلاف السنين .

يتبين من النصوص السومرية حول نظام الدولة بأن كل الاراضي وما يعيش عليها من حيوان ونبات كانت ملكاً لآلهة المدينة الدولة . وخليفة هذا الاله الاكبر في الأرض هو الملك (لوجال ) او الرجل العظيم .
بدأت العصور الاولى في اوروك ( الوركاء ) في مطلع الالف الثالث قبل الميلاد والتي عرفت باسم ( أرخ ) . تألفت اوروك في عصورها الاولى من منطقتين اندمجتا فيما بعد سلمياً او حربياً . ضمت المنطقة الاولى معبد “ آنو “ اله السماء ويقع على مصطبة عالية . وهو نموذج لما عرف فيما بعد باسم “ الزقّورة “ . والمنطقة الثانية ضمت معبد “ اتانا “ ( عشتار ) آلهة الامومة والجنس .
بعد سلالة اوروك تأتي سلالة اور الاولى زمنياً وفيها معبد اله القمر “ نانا “ ( سين ) وقد ورد اسم الملك,, نيشا نيبادا,, كأول حاكم فيها .

( الدولة ــــــ المدينة السومرية)
كانت سومر بلاداً صغيرة ، مساحتها نحو 25 الف كيلو متر مربع . وتتركز الحياة فيها حول الأنهر والأقنية . وكانت محصورة مابين نهر الفرات الذي كان يجري الى جهة الشرق اكثر مما هو عليه الآن، و الجزء الجنوبي من العاصمة بغداد من نهر دجلة وصولا حتى الخليج جنوبا ، وبعبارة اخرى ان بلاد سومر تمتد مابين النهرين العظيمين دجلة والفرات .
ورغم صغرها كانت سومر مجزأة الى مقاطعات سياسية اقليمية مستقلة ، ولم يكن انشاء تلك المقاطعات لاسباب دينية او لتنوع الالهة ، بل قسمت لاسباب اقتصادية بحتة ، وكل مقاطعة تتالف من مركز المقاطعة او العاصمة مع ضواحيها بما فيها من قرى وبساتين وكروم وغابات النخيل والمراعي والحقول ، وكان في وسط كل مدينة معبد مخصص لاإلهها الخاص الذي لا يحمي المدينة فحسب بل يملكها ارضاً وافراداَ ، وكان لكل معبد أوقافه التي يستثمرها والقائمون على خدمة ذلك المعبد. وكان السكان أحراراً وعبيداً . لكن العبيد كانوا قلة لذا لم يلعبوا دوراً هاماً في الحياة الاقتصادية.
وقد قسمت الارض المغروسة الى ثلاثة أنواع :

أولاً :[ أرض الرب ] ( جانا – تي – أين – نا ) ويعمل فيها كل افراد المجتمع من أجل الهة المعبد .
ثانياً : [ أرض القوت ] ( جانا – كو – را ) وهي من نصيب القائمين على المعبد لاعالتهم .
ثالثاً : [ أرض المحراث ] ( جانا – أبين – لا ) وتسلم للمرابعين بحصة تتراوح بين السبع والثمن من المحصول .
واذا كانت محاصيل المعابد وفيرة ،يعاد توزيع قسم منها ، ويخزّن القسم الاخر تحسباً للمجاعات ، كما يقايض على قسم آخر مقابل سلع أجنبية . وكان هذا يتطلب مسك الدفاتر والادارة والتنظيم لكل أشكال العمل والانتاج ، فكانت أشبه بمشاعية تيوقراطية .

وبحلول اواخر الالف الرابع قبل الميلاد ، تم تقسيم بلاد سومر الى عدة مقاطعات رئيسية مستقلة واخرى مدن صغيرة، وجاء هذا التقسيم وفق الانحناءات والالتواءات للقنوات المائية والتعرجات الارضية ، وكان لكل مقاطعة ومدينة معبد و إله خاص بها، ويرتبط المعبد ارتباطا بالملك( لوجال) او حاكم المدينة ، والمقاطعات الخمس الرئيسية والتي كانت تحكم من قبل الاسر الملكية:
1. أريدو والهها “انكي” ( أيا ) اله المياه العذبة والحكمة .الموقع الاثري (تل ابو شهرين)
2. باد ــ تيبيرا والهها” دوموزي “( تموز) الموقع الاثري (المحتمل تل المعدان)
3. لارسا وألهتها “اوتو”(شمش)الموقع الاثري (تل سنكيرة)
4. سيبار والهها اوتو ( شمش)الموقع الاثري ( تل ابو حبه)
5. شوروباك الاله (انليل) سيد البلدان وملك الالهة وسيد الرياح الموقع الاثري (تل فره)
المدن الرئيسية الاخرى والتي يحكمها حكام :
1. أوروك وآلهتها ” انانا “( عشتار)الموقع الاثري (الوركاء)
2. كيش والهتها نينهورساج ( تينماخ)الموقع الاثري (تل احمر )
3. أور وألهتها “اوتو”(شمش) الموقع الاثري(تل المكير)
4. نيبور الاله (انليل) سيد البلدان وملك الالهة وسيد الرياح الموقع الاثري(عفك)
5. لكش والهها ( نيكرسو) الموقع الاثري(تل الحبة)
6. غيرسو الموقع الاثري( تلوه)
7. أوما وآلهتها ( شارا) الموقع الاثري(تل جوخه)
8. خمازي الموقع الاثري(غير معروف)
9. آدب والهتها (تينماخ) الموقع الاثري(بسمايا)
10. ماري الموقع الاثري(تل الحريري )
11. آكشاك الاله (انليل) سيد البلدان وملك الالهة وسيد الرياح الموقع الاثري(غير معروف)
12. آكد الموقع الاثري(غير معروف)
13. إيسن الموقع الاثري(ايشان البحرية)
اما المدن الصغرى ، وهي من الجنوب الى الشمال :
1. كوارا الموقع الاثري(تل اللحم)
2. زابالا الموقع الاثري(تل ابزيخ)
3. كيشورا الموقع الاثري( تل ابو حطب)
4. مراد الموقع الاثري( ونة السدوم )
5. دلبات الموقع الاثري(تل الدليم )
6. بورسيبا الموقع الاثري(برس نمرود)
7. كوثا الموقع الاثري(تل ابراهيم )
8. دير الموقع الاثري( تل البدرة)
9. اشنونا الموقع الاثري(تل اسمر)
10. ناجار الموقع الاثري(تل برك)

ومنصب رئيس الكهنة ( شنجا ) يأتي بعد حاكم المقاطعة او الراعي الذي يختاره الاله . والحاكم هو “ انزي “ والملك “ لوجال “ والحاكم يدير أملاك الاله ويحكم الدولة باسمه ، له القيادة والعدل ورئاسة الكهنة وادارة الاشغال العامة . وأقدس أعماله بناء وصيانة المعابد لأن “ الانسان خلق كي يخدم الآلهة “ ، وتدلنا المقابر السومرية في مدينة أور الاثرية ( 2650 ق.م ) ان حاشية الملك كانت تدفن معه ، مع الآلات الموسيقية والطعام والشراب والأسلحة ولأواني الذهبية، وبعض الاحتياجات الاخرى ، لاعتقادهم بالحياة الثانية .

لم يقدر السومريون او يوحدوا بلادهم ، بل كانت المنازعات قائمة دائماً بين سلالات المدن الرئيسية ، والجشع من أجل الوصول الى السلطة والذي يفسد حتى عالم الآلهة . وهناك دلائل على ان الملكية بدأت في كيش وكان ملكها نحو 2700 ق.م ( او مي براج سي ) وقيل انه هو الذي بنى معبد انليل في( نيبور) وسرعان ما اصبحت العاصمة الدينية لكل سومر ، وكان حكام المقاطعات وملوكها يقدمون الهدايا النفيسة في
معبد انليل الى ان اصبح اختيارهم بالذات يقع في نيبور كي يعترف رعاياهم بهم .

وبقيت الهيمنة لـ ( كيش) حتى انتزعت اور قيادة سومر أيام ملكها (ميشانيباد) ولمدة قرن من الزمان ، ثم سيطر العيلاميون وسلالتا (آوان وهمازي ) على قسم من سومر لكن ( اياناتوم ) انزي او حاكم لكش نحو 2550 ق.م طرد العيلاميين وحرر( اور واوروك) واصبح انزي لكش ملكا عليها . وبعد وفاته هيمنت (اوروك) وبعدها (آدب) ثم (ماري) على بلاد سومر ، ثم عقد ميثاق بين لكش واور واوروك . لكن سرعان ما تدهورت الاوضاع في لكش وقام كهنة الاله ( نيكرسو) واستولوا على السلطة لمدة عشرين عاماً وأخذوا يستغلون سلطتهم الدينية على حساب الاله وعبيده . وكان انقلاب ( اوروكاجينا ) انزي لكش نحو 2375 ق.م وهو أول اصلاح اجتماعي في التاريخ ، قام بتخفيض الضرائب ومنع تسلط الجباة واللصوص ورجال الدين والاقوياء على الضعفاء وتعهد ( بأنه لن يسمح بأن يقع اليتامى والأرامل فريسة ظلم الأقوياء ) [ ونجد نفس هذا النص في شريعة حمورابي ايضا ] ولأول مرة في التاريخ نجد كلمة ( أمارجي ) في وثيقة عندما اقرّ اوروكاجينا وتعني “ حرية االشعب“ في لكش .

ولم يدم حكم المصلح اوروكاجينا سوى ثماني سنوات اذ هزمه ( كوجال ـــ زاغيزي ) انزي او حاكم( اوما) وقام باحتلال كل عواصم سومر ويعتقد انه احتل كل العراق وسوريا من “ البحر الاسفل “ الى “ البحر الاعلى “ ( البحر الاسفل هو الخليج والبحر الاعلى هو المتوسط ) . فكان بدء عهد الامبراطوريات بتأسيس اول امبراطورية عظمى في الشرق الادنى وكانت اوروك عاصمته ودام حكمه 25 عاماً . ثم تغلب عليه سرجون الاكدي ( شروكتي ــــ والتي شاعت منها الكلمة العامية العراقية “شروكية” والتي تطلق على سكان جنوب العراق ) الذي بنى أول امبراطورية سامية شملت كل الهلال الخصيب ودام حكمه اكثر من خمسين سنة وبذلك بدأت سيطرة الساميين …..

المصادر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
ل . غويندولين ـــ اختراع المدينة ـــ نيويورك ــ 2003.
برتراند لانون ، جورج رو ــــ الحياة اليومية في بلاد النهرين القديمة ـــ مطبعة جامعة ادنبرة ـــ 2001.
هاربيت كروفورد ــ سومر والسومريين ـــ كامبريدج ـــ 2004.
لويد سيتون ـــ علم الاثار من بلاد مابين النهرين ــــ لندن ـــ 1978.
صموئيل نوح كريمر ــــ السومريون ـــ جامعة شيكاغو ــ 1963.
نجاة النعمة ، كارين ريا ـــ بلاد مابين النهرين ـــ لندن ــ غرينوود بريس ــ 1998.

About عضيد جواد الخميسي

كاتب عراقي
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.