ليست لي شكوى في الذهاب الى الحج…. و لم انبذ يوما ممارسة دينية او غيرها مما يحبه الانسان و يؤمن به… لكني افهم المواسم الكبرى بأنها حشر مع الناس…. مناسبات لجمع الناس و التقرب منهم … و الحج بالذات و خاصة في الاسلام هو مناسبة للالتقاء بالاخوة في الدين من كل بقاع الارض و الاحتفاء بهم و الاستماع الى همومهم…
الحج هو موسم الهجرة الى الله… موسم الهجرة الى لحظة صدق مع الذات و مع الله… و لحظة الصدق تستدعي التخلي عن احلام السلطة و المصالح و القوة و الهيمنة .. لحظة الصدق تعني التعامل بالمسؤولية…مع الناس.. مع الارض.. مع الخيرات… مع الفقر .. مع الغنى…لحظة الصدق هي الفاصلة بين الحياة و الموت… و بين الحرب و السلم… و بين القيم الاخلاقية و الانانية…. بين المسؤولية و اللا مبالاة….
في هذه الأيام حيث يهاجر الملايين الى الحج معبرا الى الله…ثمة هناك هجرة اخرى… هجرة الى الذات … هجرة تموج فيها الأرواح و الاجساد بين الغرق في البحر و الوصول الى بر الأمان … بين الضياع و الوجود الذاتي… حيث يتهاوى جدار الاختيار بين “الوطن الطارد” و “الغربة الحاضنة”… لكن ربما يتعانق فيها الوجود و المقدس…
في أوروبا… و بعيداً عن المصالح و الاستراتيجيات…يخرج الكثير من المواطنين…نساء و رجالا و حتى الجماعات… يتحدون ضعفهم و احتياجاتهم الذاتية… بل و حتى قوانين مجتمعاتهم… ليقدموا الخدمة لهؤلاء المهاجرين بكل أنواعها من مأكل و مشرب و احتياجات الأطفال و شراء تذاكر قطارات و حتى التوصيل بالسيارات الخاصة الى حيث يرغب اللاجئون…. و رغم ذلك يصرخ رئيس الاتحاد الاوروبي: ” لا تنسوا اننا كلنا اولاد مهاجرين”… و تقول موگريني منسقة العلاقات الخارجية:” اننا امام تحدي اخلاقي لإثبات مصداقيتنا في ادعاء حقوق الانسان”…. و يدعو بابا الفاتيكان اتباعه بضرورة تقديم كل المساعدة الممكنة لهؤلاء الهاربين من الحروب… بل و يقرر ان ان يأوي مقر الفاتيكان عائلتين … و يقرر رئيس وزراء فنلندا ان يقدم بيته لإيواء اللاجئين ..و..و… الكثير من الأمثلة … و أكثرها تأثيراً هو ” اذا لم يحسن الاتحاد الاوروبي التعامل مع هذه الازمنة الانسانية فان الاتحاد سيواجه الانهيار”… ليس بسبب الكلفة الاقتصادية بل بسبب عدم تحمل المسؤولية الاخلاقية….
هذه الجدليات الاخلاقية تجد طريقها الى حياة المواطن و المهاجر في ارض الغربة… اما في ارض الوطن الاسلامي و ارض الحضارات التاريخية التي يفتخر بها الجميع فلم نسمع من يتحدث عن المسؤولية الاخلاقية… لم يتحدث احد عن لماذا تطرد الاوطان التاريخية ابنائها… لماذا يتخلى التاريخ عن نفسه… لم اختزلت الحضارة الى طائفيات قاتلة… و لماذا اقتصر الحج على ذبح الاضاحي و دفنها في الصحراء… و ذبح آمال الناس و أحلامها و رميها الى السماء…؟؟؟…
لأن كانت المزايدات و الصراعات تطغى على الخطاب السياسي في العالم العربي و الاسلامي …..لنا ان نتساؤل: هل يمكن لرجل مثل عبد الرحمن السديس الذي عادة يبكي و يدعو الله بصوته الشجي الجميل ان يحفظ اوطان المسلمين … هل يمكن ان يرقى بحكم موقعه المهم خطيبا للحرم المكي الى لحظة الصدق و يتوجه خطابه في موسم الحج هذه السنة الى ملايين الحجيج و الى عامة المسلمين …. و يقول:
“أيها المسلمون… اطلب مغفرتكم… أنتم مخدوعون و نحن القائمون على أمور دين الله نعمل على تضليلكم… نسفه عقولكم… ندعوكم ان تخربوا بيتكم و أوطانكم بأيديكم… نمنع عنكم الخيرات و نحرمكم من رحمة الله في النفس و العرض… بإسم الحق نهجركم و نستولي على اموالكم و نغتصب نسائكم… أنتم قانعون و نحن منافقون… اعلموا أيها المسلمون اعلموا ان طريق الله يمر عبر انفسكم و الهجرة الى الله تبدأ من معرفة الرحمة و ترسيخها في قلوبكم و سلوككم… آيها المسلمون ارجعو الى أوطانكم و اعملو على بنائها و احبو جيرانكم فالنبي محمد وصى بهم دون ان يذكر شيئا عن ديانتهم أو معتقداتهم أو ألوانهم أو أعراقهم “….
هذا خطاب خيالي يمكن ان يطول كثيرا و يأتي على ذكر العديد و العديد جدا من المحطات الجميلة و المصائب… مما يجمع الناس و مما يشكل محل اختلاف… من دروس التاريخ و دور القيم الاخلاقية ….مما يشكل تقاطعا مع الواقع و يتماشى مع حكم السلطان و الاطماع و الطموحات التي تنبع من “النفس الإمارة بالسوء”…
هل الغربة هي وطن الفقراء و المعذبين… و هل الوطن هو سجن الأحرار و محرقة المستضعفين …؟؟.. هل الهجرة الى الله هي هجرة الى الذات …. و هل الذات وحدها تملك القدرة على معرفة الله في ذاته… و هل تتساوى الغربة عند المعدم مع الله في توفير الأمن و سد الجوع..؟؟… فلنتذكر القرآن …” سلام قولاً من رب رحيم…. و امتازو اليوم أيها المجرمون” (يس 58-59)… هل حان يوم الاختيار بين “الرحمة” و “الجريمة”…؟؟… او يوم الامتياز و التفريق بين “المجرمين” و الذين “يدّعون الإيمان بهتاناً” …حبي للجميع…