كان المتنبي أول من غادرها. ذهب إلى البادية، ليبحر في اللغة على متن الرمال. فهنا نشأت لغة العرب. وهنا تموت رومانسية الشعر العذب. ينفخ أدونيس فحيح الشعر المكسور. يقلده «جلاوزة» الشعر الذين يحرسون ضريحه الفخم. فقد بناه ليس بعيدا عن ضريح الأسد الأب، في المدينة التي كانت «فاضلة».
لم يكمل شاعر العرب الأكبر المشوار. فقد مات قتيلا في العراق. كمنت للمتنبي ميليشيا «أصايل أهل ضَبَّة». استراح خصمه الفارابي. ركّب عيدان آلته. عزف معزوفته الأسطورية. فنام أهل مدينته الفاضلة. غادر الفيلسوف غير آسف. فقد باتت مدينة «الخطيئة».
أفاق العرب من النوم بعد ألف سنة. كان الاستقلال فرحة وبهجة، في المدينة التي استعادت سذاجتها الرومانسية. أنشد فخري «بيك» البارودي نشيد الأمل (بلاد العرب أوطاني). رفض صديقه محمد عبد الوهاب غناء «الطقطوقة». فلم يؤمن بالوحدة العربية. غنت أم كلثوم مطربة القرن التاسع عشر «يا ليلة العيد أَنِستينا». فنامت «جماهيرنا الشعبية» من «عيد» النكبة، إلى «عيد» النكسة.
لم تكن الرومانسية العربية في القرن العشرين مسيّسة. كما الرومانسية الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولم تكن آيديولوجيا. كانت نفسية مزاجية ألِّفت بين القلوب في المدينة. كانت حالة تعايش مثالي عبقرية، في التفاهم المتبادل بين الجيران المتفرعين في الدين. والطائفة. والمذهب. فإذا دبَّ خلاف، فهو داخل الطائفة الواحدة. وليس بين الطوائف والأديان.
الانقلابات العسكرية الكلاسيكية في الأربعينات، لم تؤثر على صيغة التعايش المشترك. بعد الشيشكلي، عادت الديمقراطية الوليدة لتنمو. غير أن الآيديولوجيات السياسية تغلغلت في الجيش السوري. وكان من الحكمة القضاء عليها بالوحدة مع مصر.
نجح عبد الناصر في تحييد الجيش السوري. غير أن إلغاءه السياسة والأحزاب كان قاسيا على المجتمع السياسي في مصر وسوريا. ولد «البعث الطائفي» فور استقالة بعث عفلق والحوراني من الوحدة الناصرية. ثم جاء الانفصال، ليكون أول مسمار في نعش رومانسية المشروع القومي.
نكاية بدمشق (قلب العروبة النابض) صانعة الانفصال، ظل المجتمع السوري أكثر رومانسية في نزوعه القومي. بقي عبد الناصر ذكرى جميلة وحزينة. ماتت الرومانسية العراقية بنهاية الفرع العراقي للأسرة الهاشمية في الانقلاب الدموي (1958). وتلقى النظام العربي شحنة مبالغا فيها من الإسلاموية التقليدية و«الإخوانية». باستثناء النظام الأسدي الذي كسب جولة ماكرة، بدعم من إيران، ضد اليمين السوري الليبرالي (1980).
ذوَّب الروائي السعودي عبد الرحمن منيف مدن الملح العربية. فمات مع السنّة عطشا. رفضت السنّة السورية إعلان العصيان المدني. فارتكب «الإخوان» غلطة الاعتصام في مدينة حماه الفاضلة، فدمرها الأسد فوق رؤوسهم. وعلى مدى خمسين سنة، لم يسمح النظام العلوي بنشوء زعامات شعبية سورية. واغتال الزعامات الوطنية والدينية السنية والمارونية في لبنان.
انتهت الرومانسية اللبنانية بالاغتيال المفجع لرفيق الحريري وكمال جنبلاط. فحلت إيران الشيعية محل سوريا العلوية في لبنان. كانت العمائم السوداء الإيرانية وفيّة لنظام الاستئصال العلوي. فورطت حزبها الشيعي في الحرب الطائفية السورية ضد السنة «الجهادية»، بعد القضاء على ما تبقى من رومانسية الطبقة الوسطى التي لم تخض الحرب.
الرومانسية لها حركة المكوك. فهي تتقدم وتتراجع على مراحل. كانت الرومانسية الأوروبية عموما ضد عصر التنوير، وشاكية من عنف وإرهاب المقصلة الفرنسية. ملّ روسو الدعاية «للعقد الاجتماعي». مات قبل الثورة بعام داعيا إلى عقد الزواج الرومانسي. شكا بلزاك من التفكك الاجتماعي. عالج شاتوبريان رومانسيته بالعزلة وبرحلة إلى المشرق. تشرد بودلير في الشوارع. في «أزهار الشر»، كان حلمه الرومانسي جنسيا. أبكى فيكتور هوغو ملايين الرومانسيين في العالم، في روايته «البؤساء» لمعذبين في الأرض.
ربط القس الاشتراكي سان سيمون رومانسيته بالدين. فرفضته بريطانيا وألمانيا. فرض نابليون مبادئ الثورة البورجوازية الفرنسية بالإكراه على أوروبا. فسقط الإمبراطور في مواجهة حلف عسكري رجعي ضم روسيا وبروسيا وبريطانيا، بعدما دغدغ حلم العرب الرومانسي بغزوته الخاطفة لمصر وفلسطين. كان الألباني محمد علي أكثر واقعية من نابليون. فقد دق ابنه إبراهيم أبواب إسطنبول (عاصمة الخلافة العثمانية) بجيش من الفلاحين المصريين والسوريين. وبحلف رومانسي مع الأمير اللبناني بشير الشهابي.
اختنقت الرومانسية الأوروبية بأنفاس الاستعمار الحديث. لا حروب في «العصر الجميل» (1870 – 1914). لم يكد العرب يقوِّضون إمبراطورية الخلافة حتى انشغلت أوروبا بغزوهم واستعمارهم.
كان النضال العربي رومانسيا في المشرق. كان القادة إقطاعيين وبورجوازيين من أصول تركية وكردية وعشيرية عربية. فتمسكوا بالوحدة الوطنية والعربية. لم يسيِّسوا الدين، فارتفعوا بالثورات فوق الطائفية والعنصرية. أين ساسة الانتفاضة السورية؟ ألغوا حتى علم الوحدة القومية. صاروا ضيوفا على الموائد الغربية. كتموا صوت العروبة. فباتوا يتعلمون ألف باء التركية في فندق بإسطنبول.
بعد سقوط الوحدة، أطلت على الأفق غيوم الطائفية السوداء. تمخض الجبل «الإخواني». فولدت «جهادية» القاعدة. اكتشف العرب الرأسمالية الدينية. ألغوا المحاسبة والمراقبة. فعمّ الفساد. تسلطت المؤسسة المخابراتية على المؤسسة العسكرية. فتوحشت أنظمة السبعينات. أَمِنَت غدر العسكر. فوثقت بنفسها. صارت جمهوريات وراثية! توزعت الفردية المصلحية قطاعات الاقتصاد، بين النظام والشلل البورجوازية والصناعية السنيّة. يا للسخرية! رأسمالية انفتاحية بمظلة اشتراكية!
قطَّعت الـ«درون» الأميركية أوصال «الأخطبوط» القاعدي. فحلت محله «داعش» السنية الأكثر غضبا. وتنظيما. وجرأة. كانت «داعش» رد فعلٍ سنيا ساذجا في الرؤية الفقهية والتحليل السياسي. فأضرت كثيرا بالإسلام السني. ساهم النظام الطائفي في الولادة الداعشية. حارب نظام الابن الطبقة الوسطى الليبرالية. اعتبرها أكثر خطرا عليه من «الجهادية» الداعشية. انتشرت بيوت الدعوة السرية. صارت الدايات (القابلات) فقيهات في تفسير الشريعة. والسنة! انتشرت المساجد شبه السرية بلا منارات. بلا أذان. ألغت القراءة الرتيبة للقرآن جمالية الترتيل الرومانسي المصري الذي يفتح شهية النفس والقلب على الإيمان.
مواجهة النظام العربي، بصراحة الحقيقة البريئة، من دون إيذاء متعمد له، تخدم النظام الخليجي. لأول مرة يخوض هذا النظام معركة سياسية مباشرة في المشرق، من دون أن يعترف بها! يظن أن الرقابة كافية للإعلان عن حياده. ركب «الجهادي» الجزائري عباس مدني المرسيدس الخليجية. طار بها إلى صدام ليهنئه بغدره بالكويت! ثم عاد إلى الجزائر، ليدشن «غزوة الصناديق». فأشعل حربا دينية وأهلية على «المتوسطية» الجزائرية الضرورية للعلاقة الوثيقة مع فرنسا وأوروبا.
رومانسية بلا رومانسيين، تماما كما الديمقراطية بلا ديمقراطيين. الطرافة في أن الصحافيين. والفنانين العرب، كانوا أكثر رومانسية من الساسة والمثقفين. هاجرت أسرة الكلداني/ الآشوري نجيب الريحاني، إلى مصر فغدا رمز الموظف المصري الصغير، «المربوط على الدرجة العاشرة»، منذ سبعة آلاف سنة فرعونية. وصارت فاتن حمامة (84 سنة) رمزا للمرأة الفلاحة. العاملة. المظلومة أمام رجل واحد اسمه عمر الشريف.
وزرت حكومة الوفد الأخيرة طه حسين وزيرا للتربية (1950). فتظاهر ضده «الإخوان المسلمون» صارخين: «يسقط الوزير الضرير»! فخرج إليهم قائلا: «الحمد لله الذي خلقني ضريرا. كي لا أرى وجوهكم».
سجل نجيب محفوظ يوميات قاهرة القرن العشرين. فنوبلته الرواية «الثلاثية» وانحيازه إلى كامب السادات. كتب «أولاد حارتنا» فلم يرحمه «الجهاديون». طعنوه وهو على حافة التسعين من العمر.
غدا فريد الأطرش أعظم ضارب على العود، باعتراف معلمه القصبجي. أسمعُ عوده في المترو. وفي الأسواق الشعبية في باريس. فحاربه «قصبجية» العود العراقيون. غنى فريد الأطرش أغاني رومانسية لا تقل روعة عن أغاني عبد الوهاب العاطفية. فنسيتها الإذاعات والتلفزيونات!
غنى فريد للوحدة العربية، فقست عليه اشتراكية عبد الناصر الماركسية. ظل فريد مصريا لا يعترف المصريون به. هاجر إلى لبنان. لم يطق فراق مصر. عندما مات عن 59 عاما (1974)، عاد إلى مصر ليدفن إلى جانب شقيقته أسمهان. فاستقبله أبناء البلد بوفاء كبير.
كانت مدرسة محمد التابعي الصحافية رومانسية، باستثناء الناصري هيكل. جددت هذه المدرسة لغة الصحافة. أنقذتها من السجع والإطالة. عُنيت بالأسلوب، من دون ثقافة في المضمون. كتب الرومانسي علي أمين زاويته (فكرة) بحجم طابع البريد التذكاري. فجعل ملايين القراء يقرأون صفحة «الأخبار» الأخيرة قبل الأولى.
تزوج مصطفى أمين أم كلثوم سرا. فأنصف منافستها أسمهان. قال: «عملت أسمهان كل ما في وسعها، لتجعل زيارتها إلى الدنيا قصيرة للغاية». قال لي الساحر الساخر يوما، إن واقعية نجاة جنت على رومانسية الشاعر كامل الشناوي. فلاحقت نجاة مصطفى أمين أمام القضاء! وأقول أنا لو أن الشناوي تفرغ للشعر، لكان أشعر وأحلى من رومانسية نزار.
نقلا عن الشرق الاوسط