على رغم قطع فرنسا علاقاتها الديبلوماسية مع سورية منذ 2012، توجه أربعة نواب فرنسيين مطلع الأسبوع الماضي إلى دمشق للقاء الرئيس السوري بشار الأسد في ما وصف أنه «زيارة شخصية» جاءت بمبادرة «ذاتية». اللافت أن النواب الأربعة ينتمون إلى أحزاب اليمين واليسار على السواء، وقد التقى حول وصفهم بـ «المهرجين» كل من الرئيسين الفرنسيين السابق والحالي، نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند، في ما بدا أنه تبرؤ رسمي من هذه الخطوة، وتفريغ لها من أي معنى سياسي.
صحيح أنه قد لا يكون لأربعة نواب صلاحيات عقد اتفاقات أو مصالحات بين الدول، لكن زيارتهم التي ترافقت مع استطلاعات للرأي نشرتها أكثر من وسيلة إعلام فرنسية حول ما إذا كان الأسد جزءاً من الحل، وجاءت بغالبيتها مؤيدة، قد تعكس مزاجاً فرنسياً عاماً يميل إلى هذه الفرضية التي ربما بدأ التسويق لها والتشجيع عليها.
فهؤلاء «المهرجون» وإن كانوا لا يمثلون حكومة بلادهم في مهمة رسمية، فإنهم يمثلون قاعدة انتخابية قادرة على محاسبتهم إذا لم تعجبها خطوتهم، كما أنهم في المقابل يؤثرون فيها. فهم، كما نقل عنهم، ذهبوا لاستيضاح «بعض الأمور» ونقلها للمعنيين وكل «من يهمه الأمر».
ولا شك في أن المجتمع الفرنسي (والأوروبي إلى حد ما)، الذي لم يتعاف بعد من صدمة جريمة «شارلي إيبدو»، ويشهد هجرة أبنائه وبناته إلى بلاد «داعش» من دون أن يعرف كيف يفسر إعجابهم بالنموذج الذي تقدمه لهم، وتطالعه مشاهد قطع الرؤوس وإبادة الأقليات وتدمير التراث العالمي، لا شك في أن ذلك كله يدفعه تلقائياً إلى أن يشيح بنظره عن فظائع مشابهة ارتكبها ويرتكبها يومياً بشار الأسد، لكنه لا يراها. هكذا يركز على «داعش» وقتاله بصفته «الشيطان الأكبر».
يضاف إلى ذلك، واقع التأزم الفرنسي الداخلي الذي لا يقتصر على الوضع الاقتصادي، بل ذهب إلى طرح أسئلة «وجودية» حول الهوية الوطنية، ومن هو «الفرنسي» الحق، ومن يهدده في قيمه، مع إعادة نظر في أسس الجمهورية نفسها، ومنها مثلاً العلمانية التي يجرى البحث اليوم في ما إذا أدت مؤداها. وتلك تقلبات لا يمر بها اليمين دون اليسار في فرنسا اليوم، بل هي مطروحة على أطفال المدارس الذين يعاد تقويم مناهجهم التعليمية، كما على الساسة وصناع الرأي في وسائل الإعلام.
ووسط ذلك التخبط كله، يبدو الشر المقبل من خلف الحدود هو ذاك الذي يمكنه لمسه ومشاهدته في الداخل، ليبقى كل ما دونه مجرد حرب أهلية إضافية في هذا العالم.
فما يطرح علينا بصفته مفاضلة مصيرية بين شيطانين، هو بالنسبة إليهـــم خيـــار بين نار تحرقهم معنا ونار تحرقنا وحدنا. ويكفي إذّاك أن الشيطان الأول يوثق ويستعرض، والأخير يطمر وينفي. ففيما تنتشر مقاطع الفيديو لقـــــطع رأس صحافيين مساندين للثورة والشعب السوريين، أو إعدام 21 قبطياً أعـــزل في مشهدية مرعبة، يموت مئات المدنيين في الأقبية جوعاً ومرضاً وتعذيباً، وتباد مدن بحجرها وبشرها بلا أي «دليل» صادر عن النظام البعثي نفسه. بل على العكس، يتاح للأسد أن يعتلي منابر إعلامية عالمية فينفي بسخرية فجة ما يحدث على الأرض، لتنهال التحليلات حول شخصيته الفصـــامية، وانفصاله عن الواقع، وجهله بما يقوم به «حزب الله» و«الاحتلال الإيراني» من ورائه وما إذا كان يحق لوسيلة الإعلام إجراء المقابلة أم لا.
والقضية تبقى في مكان آخر. فالأسد يعي تماماً ماذا يفعل، سواء بإلقاء البراميل المتفجرة على الأحياء السكنية أو بنفيه ذلك ببرود وثقة عبر وسائل الإعلام. وكانت شاعت سردية مقابلة مصدرها مناطق «داعش» نفسها، تفيد بأن التهويل الإعلامي يرضي غرور التنظيم ويستثمره قادتها لتعزيز نفوذهم، فيما الواقع «أفضل» بكثير من الصورة الشائعة، والفظائع «تقتصر» على ما يبثونه بأنفسهم وعن عمد لإثارة الخوف.
نكاد نعتقد أن الخلاف هو في «الاستراتيجية الإعلامية» لكل من الطرفين. هكذا يسود الظن بأن الضحك والسخرية السوداء من قصة «البراميل وطناجر الضغط» التي خرج علينا بها بشار الأسد تكفي لكشف الواقع وإظهار الحقيقة، فيما هي عملياً لا تفعل سوى تجذير يأسنا وقنوطنا تجاه «الرأي العام الغربي»، وتعميق الهوة المعرفية معه.
هكذا، يتاح لأربعة «مهرجين» أن يتوجهوا إلى دمشق، لاستقاء المعلومات من مصدرها والترويج لبشار الأسد كحليف في الحرب على «داعش»، وشريك في الحوار على مستقبل سورية بالترافق مع عقد المصالحات مع جيشه ونظامه في المناطق الملتهبة… على ما سبق أن بشرنا مهرج لطيف هو الآخر، اسمه ستيفان دي ميستورا. أوليست الأولوية دائماً لحماية المدنيين؟
*نقلاً عن “الحياة”