من يقدر الجمال, ينتصر.

3 تموز 2018
خالد قنوت
في معرض حدثه عن الفن و الفنانين السوريين المبدعين, اسند الفنان رأسه لكرسيه و قال: (كان فاتح المدرس داهية إضافة لكونه أحد أهم مبدعي الفن التشكيلي في سورية).
قلت له معقباً: ( أذكر مرسمه الواقع بجانب نادي الشرق بدمشق القريب من منزلنا, لكن ما قصة دهائه هذه؟)
اجاب المبدع السوري و الصديق موفق قات, و قد ظهر بريق عينيه مع انعكاس ضوء النار المشتعلة امامنا و التي تقصدت أن تكون ضمن لوحة جميلة لسهرة عائلية في حديقة بيتي الخلفية, أجاب قائلاً: (كان يعرف كيف يلاعب نظام الاستبداد الأسدي ليس بفنه فقط بل باللغة السياسية الذكية التي تصور واقعاً جميلاً لكنها بالحقيقة تحمل بين طياتها نقداً يصل لحد الاشارة بكل وضوح عن مسؤولية الاستبداد عن كل كوارث الوطن.
فقد كان مقرراً فترة حكم حافظ الأسد أن يقوم وفد من كتاب و فناني قادم من الاتحاد السوفيتي السابق بزيارة لانقاض مدينة القنيطرة (المحررة) و كنت وقتها مكلفاً بالترجمة عن اللغة الروسية بحكم أني خريج أهم معاهد موسكو الفنية و كان ضمن الزيارة وجود الفنان فاتح المدرس.
جلس الجميع في غرفة المحافظة المطلة على جبل الشيخ و هضبة الجولان المحتل عبر نافذة على امتداد هذه الغرفة و تناوبت كلمات الترحيب بالوفد من قبل محافظ القنيطرة إلى أمين فرع الحزب إلى نقيب القنانين… و كنت أترجم كلماتهم إلى الروسية و طبعاً كل تلك الكلمات تستفيض في التهليل للرئيس المفدى و محرر القنيطرة و قائد الوطن و أبو الفنانيين و راعي الفن …..
إلى أن جاءت الكلمة لأهم فناني سورية و مبدعها فاتح المدرس.
وقف برهة ثم خطى خطوات بطيئة نحو الطرف الآخر من الغرفة ثم عاد و هو ينظر عبر النافذة الطويلة نحو جبل الشيخ و الجولان المحتل.


حبس الجميع انفاسهم بانتظار أي تعليق أو كلمة لفاتح المدرس.
توقف في منتصف الغرفة و مازالت عيناه نحو الجولان ثم قال: اسرائيل, تقدر الجمال كثيراً.
أحسست بالانفاس المنقطعة لاعضاء الوفد الحكومي الأسدي و لحظت عيونهم الجاحظة, لكني ترجمت ما قاله فاتح المدرس بأمانة للوفد السوفيتي, قبل أن يتدخل أحد.
أضاف المدرس: اسرائيل تقدر الجمال و لذلك أخذت منا جبل الشيخ و اراضي هضبة الجولان.
صمت قليلاً, فترجمت ما قاله بسرعة و هنا أحسست بالرقاب المتدلية للمسؤوليين الأسديين و كأنهم في غياهب الفاجعة و الحرج ليقطع تلك اللحظات الثقيلة كلمات فاتح المدرس: و لن نحرر جبل الشيخ و الجولان إلا إذا تفوقنا عليهم في تقدير الجمال, وعندها فقط, سننتصر.
تحول الزمن الثقيل و الحرج إلى حالة من الهرج و المرج و تبادل لنظرات الرضى و السعادة بين وفد الفنانين السوفيت و بين اعضاء الوفد الرسمي الاسدي, بعد أن ترجمت كلماته الاخيرة).
منذ انتهاء تلك الامسية الجميلة مع الصديق موفق, و تلك القصة تدور في ذهني و تفكيري عن علاقة الجمال و تقدير الجمال بتحقيق النصر و عن ماهية هذا النصر.
و كيف يمكن أن نسقط هذه العلاقة عن ما يحدث في سورية منذ ثمان سنوات و حتى اليوم.
هل كان حافظ الأسد يقدر الجمال عندما انسحب من الجولان؟ و هل يقدر بشار الاسد الجمال عندما شرع سورية لكل القوات الاجنبية المحتلة و الطائفية و حثالات النظم المافوية و الاستبدادية و الميلشيات المتوحشة؟
هل كانت شرازم المعارضات المهترئة و المرتهنة تقدر الجمال عندما عملت على تقسيم الشارع السوري و تفريق صفوف الثورة الشعبية الأصيلة خدمة لمشاريعها السلطوية؟
هل قدر الاسلام السياسي, الاخواني و غير الاخواني من سلفيين و دعاة الخلافة و دواعش, الجمال عندما استقطب المتطرفيين و المرتزقة و متعطشي الدماء إلى المناطق السورية التي حررها الجيش الحر, آنذاك؟
هل قدرت النخب المثقفة و المتثاقفة الجمال عندما احدثت الشروخ بين ابناء الوطن و اضاعت فرصة توحيد الصفوف تحت راية وطنية نحو هدف اقاامة دولة المواطنة و العدل و حرية الانسان؟
هل كان للجمال معنى لكل من أجهزة القمع العسكرية و الامنية للنظام الأسدي و للفصائل العسكرية المعارضة عندما كانت تتشارك في تدمير المدن و القرى السورية بحجة التحرير؟
و هل كانت روسيا البوتينية تفكر بالجمال عندما كانت تختبر اسلحتها الحديثة الفتاكة بأجساد السوريين و ببيوتهم و اراضيهم؟ أم أن قوات الملالي الايرانية و قطعان وحوشها الطائفية بالأصل ترى الجمال في الحياة؟ و كذلك ينطبق الحديث عن الولايات المتحدة و تركيا و و.
الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن لأي عاقل أن ينكرها, أن شابات و شباب سوريين بعمر الزهور يعشقون الجمال كسروا ببداية الثورة حاجز خوفنا فصرخوا من أجل الجمال و من أجل الحرية و الكرامة الانسانية, فدفعوا ثمن عشقهم دماً و اعتقالاً و تهجيراً و تشرداً و ملاحقةً من كارهي الجمال و قاتليه.
باعتقادي, أن الموضوع لا يتعلق فقط بضياع النصر عندما نفقد تقديرنا للجمال, بل بحتمية تحويل هذا الجمال إلى أكوام من الخراب و القبح و الدمار و ضياع الوطن.

About خالد قنوت

كاتب ليرالي سوري معارض لنظام الاسد يعيش في كندا
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.