اغناس لوفيرييه السياسة الكويتية
إذا لم يبدو خيار وضع جرمانا كهدف ستراتيجي متفقا جدا لا مع “المتمردين” الذين تجد عائلاتهم واقاربهم ملاذا آمنا فيها، ولا مع “الارهابيين” ممن يجدون اعداءهم من العسكريين والمختلفين معهم ايديولوجيا في مكان آخر، فهل الامر كذلك لدى الطرف الآخر؟ هل ثمة اسباب او ربما حاجة لدى النظام، منذ ربيع عام 2012 لمعاقبة او تحذير الطائفتين اللتين تشكلان غالبية سكان هذه المدينة السورية؟
الجواب نعم فرغم الضغوط والتهديدات التي فرضت على الدروز والمسيحيين منذ بداية الانتفاضة في مارس عام 2011 لم يتمكن رئيس الدولة بشار الاسد من احداث تبدل في موقف هاتين الطائفتين والمتمثل بالوقوف الى جانبه. الآن وضع الرئيس حساس للغاية بسبب عوامل عدة تمدد الصراع عبر الاراضي السورية، انهاك جيشه بدنيا ونفسيا، والاستيلاء على اسلحة فعالة مضادة للطائرات من قبل وحدات الجيش السوري الحر، والحالة النفسية للطائفة العلوية التي ينتمي اليها انصاره الأكثر ولاء، وتضاعف عدد حالات الفرار والانشقاق بين الضباط والمخابرات وكذلك الاعتراف الدولي ب¯ “الائتلاف الوطني للثورة والمعارضة السورية” مازال محدودا ولكن في طريقه الى التوسع – كممثل شرعي للشعب السوري.
في حين ينبئ تطويق العاصمة تدريجيا بموضوع مقبل يتمثل في ان بشار الاسد يريد ان يكون قادرا على الاعتماد على جميع الاقليات رغم انه يعلم ان بعضا من ابناء هذه الاقليات لا يحبونه، بل يكرهون حتى ما يمثله من استبداد ومحسوبية وفساد، وكذلك، منذ بداية الاحتجاجات من عمى سياسي، وانعدام للرحمة وجنون القتل، ولكن يعلم ايضا ان بعد 21 شهرا على الثورة التي انضم اليها البعض منهم، فهي اي الاقليات، مترددة الآن، ان لم تكن خائفة من تواجد مقاتلين اسلاميين راديكاليين في سورية ومن المخاطر التي يشكلونها على البديل الديمقراطي الذي لا يزال هدف الثوريين.
بمساعدة احد وكلائه من اللبنانيين، الوزير السابق وئام الوهاب، الشخصية الخشنة التي اوجدت للحد من نفوذ الزعيمين التقليديين لطائفة الدروز في لبنان، وليد جنبلاط وطلال ارسلان، تمكن النظام السوري في بداية الاضطرابات من تجنيد بعض الشباب الدروز العاطلين عن العمل في لجان شعبية بمناطقهم، كما اظهرت زيارة مفاجئة لبشار الاسد الى مدينة السويداء في 12 مارس 2011 انه يأمل في اقناع الدروز – كما كان يحاول في الوقت نفسه مع الأكراد – بعدم المشاركة في الحركة الاحتجاجية او المطلبية التي ستهدد سلطته، وقبل كل شيء قد تسقط الدولة في أيدي الطائفة السنية وافرادها الاشد “راديكالية” جماعة الاخوان المسلمين واصدقائهم السلفيين.
هذه المحاولة او المناورة لتحييد هؤلاء لم يكن لها الاثر المطلوب، فمنذ الايام الأولى للاحتجاجات وبتحفيز من المحامية والناشطة السيدة منتهى الاطرش، ابنة قائد الثورة السورية الأولى الزعيم الراحل سلطان باشا الاطرش دعم الدروز الثوار سياسيا وماديا، فعلا في اصعب الظروف بدرعا، كما رفضوا لاحقا حمل السلاح كما عرض عليهم وئام وهاب، وامتثالا لنصائح وليد جنبلاط فقد “امتنعوا عن العمل مع الشرطة ووحدات الجيش التي تحارب الشعب السوري”.
بعد ذلك، عندما اصبح الحياد والتقاعس عن العمل لا يطاق بالنسبة الى طائفة متقدمة تقليديا في الكفاح من اجل الاستقلال والحرية، فقد امتثلوا مرة اخرى لمواقف زعيمهم الذي اوصاهم منذ الآن حفاظا على كرامتهم ومستقبلهم ب¯ “ترك الجيش النظامي والانضمام الى صفوف اولئك الذين يضحون بأنفسهم للاطاحة بالنظام” ولكي يربط بين القول والعقل فهو يستقبل ويحمي في لبنان الجنرال الدرزي فرج المقت، الذي انشق عن النظام كسواه من نحو عشرين ضابطا آخر من هذه الطائفة.
على عكس اعلى مسؤولياتهم الدينيين- مشايخ العقل- ممن اضطروا الى التزام الصمت منذ وقت طويل لعلاقات تربطهم بالنظام، فقد اتخذ زعماء الطائفة الدرزية في جرمانا مواقف، في مناسبات متعددة، ضد ما اعتبروه ضارا، ليس فقط بطائفتهم، بل بكل مكونات النسيج الاجتماعي المحلي، وبالمجتمع السوري عموما، وهكذا في 25 يوليو اعلنوا بيانا بلهجة تهديدية ندد بالهجوم الذي شنه بعض ابناء طائفتهم، ممن مسجلين في “اللجان الشعبية” ضد مدرسة تم فتح ابوابها للاجئين من المناطق المجاورة التي دمرتها القوات المسلحة النظامية، وندد ايضا بقتل شاب من أهل السنة بدم بارد داخل المدينة.
في ما يتعلق بالمسيحيين، ومع مرور الوقت وانزلاق الصراع الى مجازر تعرض لها السكان من دون مبرر، بدأ رؤساء الكنائس المختلفة على نحو متزايد تحركا لاعادة التموضع ولكن هذا التحرك لا يزال بطيئا ومتواضعا ومستكينا، تمليه اعتبارات سياسية اكثر منها انسانية وانجيلية، مستوحاة من احتمال هزيمة النظام اكثر من رفض سلوكه.
لحسن الحظ، بعد تجاوز التسلسل الهرمي للمؤمنين العاديين، الذين يعرفون ان الهجمات المنظمة في الأحياء المسيحية في دمشق وحلب، التي تهدف فقط الى التخويف وليس الى القتل هي من صنع اجهزة الاستخبارات، بل هي “لدغة تذكير” من جهاز المخابرات بعد ظهور كتيبة مسيحية وكتائب مختلطة الطوائف ووحدات يقودها مسيحيون وسط التمرد المسلح، وهذه ظواهر هامشية لكنها تساعد على اظهار ان خلافا لما يدعيه هذا النظام فان المسيحيين في سورية ناشطون منذ فترة طويلة في المعارضة، ويشاركون اليوم في الثورة وهم ليسوا جميعا الى جانب السلطة، بل يريدون ايضا رحيل بشار الاسد وهم يشعرون بالقلق اكثر حسب تطور الاحداث، لكنهم غاضبون قبل كل شيء بسب سياسته المتمثلة في التدمير والقتل.
الاحباط الذي تعانيه السلطات السورية – التي تكره ان يقاومها الدروز والمسيحيون، بل تطمح الى ان يقدموا الدعم للابقاء على سلطة بشار الاسد – ليس وحده لب المسألة علي هذا النحو فقد تعرضت هاتين الطائفتين لهجمات استهدفت جرمانا ولا تزال تستهدفها، ولتمرير تحذير للدروز لا لبس فيه، فان “الارهابيين” يمكن ان يختاروا مكانا آخر، السويداء صلخدا او القريا مسقط رأس عائلة الاطرش.. ولارسال رسالة الى المسيحيين فانهم قد يستهدفون كما جرت العادة احياء مثل باب توما، القصاع او القصو.
في الحقيقة، الهدف من هذه الاعمال الارهابية المتكررة والمكثفة ان يفهمها المستهدفون من الدروز والمسيحيين في آن معا، لكنهم رفضا معا في جرمانا الوقوف موقف العداء لبيئتهم السنية وهو من يحاول النظام ادخاله في اذهان جميع الطوائف من الاقليات، ومعا قاوم الدروز والمسيحيون في جرمانا للحفاظ على فتح ابواب مدينتهم لمواطنيهم ممن هم في محنة، بغض النظر عن طائفتهم.
هذه الهجمات المرتكبة بتواطؤ من بعض مؤيدي النظام في المدينة من الدروز والمسيحيين، منذ اشهر عدة هدفها منع سكان جرمانا من اتباع خط آخر غير خط السلطة، خط اولئك الذين تعتبرهم السلطة اعداء وتعزو لهم بشكل ممنهج الانفجارات التي تحدث فتريد من الدروز والمسيحيين معاقبتهم من خلال اظهار العداء لهم، واغلاق الابواب امامهم، وحرمانهم من الغذاء والتجول في الطرق، وكل ما هو خلاف ذلك، فهو احباط لخطط النظام، وبالتالي فهم بحكم الواقع، مع المعارضة ويعادون السلطة.
منذ الصيف الماضي عندما ارتفعت وتيرة العمليات العسكرية حول العاصمة، ومنذ ان اصبح الجيش السوري الحر على وشك فرض سيطرته الكاملة على الغوطة عكست تفجيرات جرمانا قلق المسؤولين السوريين من فقدان ما تبقى من “معاقل قوية” على الحدود الشرقية للمدينة وبالتالي فقد اصبح ثمة حاجة اكثر من اي وقت مضى للحفاظ على حالة تأهل وتعبئة في بعض المناطق المختلطة النادرة التي تقطنها طوائف من الاقليات والتي من المحتمل ان تؤخر تقدم “المتمردين”، وكما يتضح من موقع جرمانا على الخريطة، فهي جزء من هذا التوجه. ان سقوط هذه المدينة او عقد اتفاق بين سكانها ومقاتلي الجيش الحر سيتيح لهؤلاء المقاتلين إمكانية الوصول المباشر الى “باب شرقي” وهذه المفاوضات جرت في الاشهر الاخيرة.
وبالتالي، فان سكان جرمانا يجب الا يستغربوا اذا رفضوا فهم رسالة النظام، بان تستمر الهجمات والتفجيرات وتتضاعف، وستسبب هذه الافعال، كما هي الحال دائما الى “الارهابيين” ممن سيقول النظام ان من سماتهم الرئيسية التعصب الديني وكراهية الآخر، وتلك التفجيرات ينبغي على الاقل – حسب ما يأمل مرتكبوها المجهولون – ان تحافظ على الدروز والمسيحيين ضمن منطقة نفوذ مرتكبوها او تعيدهم اليها.
صحافي فرنسي والمقالة نشرت في “لوموند”