الفقر وحده لا يصنع إرهابا، ولنا في الهنود – الذين لا تزال غالبيتهم الساحقة توسم بأنها من أفقر أهل الأرض – عبرة، لأنهم بقوا من أكثر الشعوب سلاما وسكينة. واحتمل الصينيون الصابرون مع الفقر المدقع الديكتاتورية، وقبضة الحكم الحديدية، ولم يتطرفوا ويتشددوا ويهددوا بتفجير البسيطة وتحويلها إلى خراب، بل جاهدوا وثابروا، كما النمل الجرار، وهم ماضون في حربهم السلمية، الصامتة لإخراج بلادهم من محنتها.
ما تدفق على منطقة «باب التبانة» في طرابلس اللبنانية، وحدها، من مئات ملايين الدولارات في السنوات الست الأخيرة، وهي في مساحتها وعدد سكانها لا تعدو أن تكون زقاقا صغيرا في بكين أو دلهي، لا يحلم بفتاته فقراء تلك البلدان الآسيوية القابضة على جمر العوز. لكن أهل المعروف قدموا أموالهم في غالبيتها سلاحا مدمرا ورشاوى متفرقة لشراء الذمم وسواعد رجال المنطقة وفتيانها، بدل أن يجعلوها مدارس ووظائف وخلاصا للمعذبين. كان بمقدور سياسيي الخير، بربع المبالغ التي أهدروها ونذروها للموت والدمار، أن يبنوا مصنعين كبيرين، وعددا من المدارس، لتنشغل التبانة ومعها جبل محسن عن فتنتها وتنصرف عن غلها وبغضائها.
تكمن أهمية «باب التبانة»، التي طبقت شهرتها الآفاق، بأنها نموذج، له ما يشبهه وقابل للتفجير، في مناطق لبنانية عدة. منطقة مهمشة، تراكمت عليها المظالم، وأنهكتها الحروب والضغائن، وأبقيت بعد انتهاء الحرب الأهلية جرحا مفتوحا، رغبة في استغلالها حين تحين الحاجة.
منذ ثمانينات القرن الماضي وهذه المنطقة الصغيرة تنكب وتدمر، ويقتل أهلها، ثم يأتي من يوهمها بأنه يحنو عليها ويبلسم جراحها، مرة برشاوى مالية صغيرة، ومرة أخرى بإعاشات غذائية، أو صرف فواتير استشفائية، دون أي إرادة حقيقية في انتشال هؤلاء من الحفرة التي هم فيها. توقفت الحرب في كل لبنان، وأبقي جرح باب التبانة نازفا، كي يسهل لحظة الحاجة شراء أهلها بأبخس الأثمان.
لن أنسى مشهد الأب الذي ذرف دموعا وهو يخبرني كيف أنه تعب من التذلل على أبواب السياسيين ليدخل أطفاله إلى المدرسة حتى نهشه اليأس، ولا الشاب الذي يروي أنه يقاتل ويحمل السلاح كي يؤمّن ثمن «تشريج» هاتفه الجوال، أو مشهد شاب آخر يحكي كيف أنه ورفاقه يطلقون آلاف الرصاصات في الهواء في الليلة الواحدة، رغم أنها تروع الأهالي، عند ظهور إحدى الشخصيات على التلفزيون، لأن ثمة من يمدهم بالذخيرة ويطلب إليهم ذلك، ويدفع لهم بدل أتعابهم. ليس ما نقوله بجديد، بل هو معروف ومستمر بوقاحة. هناك ليال قتالية معلوم أنها كلفت نصف مليون دولار من الذخيرة. وما عليك سوى أن تحتسب 20 جولة دام بعضها 15 يوما وأكثر، كي تقدر كم من الأموال صرف للتدمير، وحجم الألاعيب الخبيثة وخطورتها.
باب التبانة التي تمترس فيها إسلاميون متشددون، وقاتلوا الجيش منذ أيام، وعرف أنهم كانوا على تواصل مع مجموعات أخرى على طول لبنان وعرضه، ونجا من مشروعهم الانقلابي الشمال اللبناني كله، كانوا محتضنين من بعض سكان باب التبانة. الاعتراف بذلك بات ضرورة، لا لاتهام الأهالي الذين كانوا بحاجة لفتات مساعدات يقدمها هؤلاء لهم، وإنما للتذكير بأن من يريد إنهاء حكاية الإرهاب عليه أن يتوقف عن تحويل الناس إلى شحاذين، ومن ثم ضخهم بالخطابات التحريضية، وحقنهم بالبغضاء، وشحنهم بالأفكار المشددة، ثم تمنينهم بتزويدهم بالسلاح كي يدافعوا عن أنفسهم ضد «الأعداء»، وعندما تهدم بيوتهم ويقتل أولادهم يأتيهم بلباس المنقذ والمسعف ليلعب دور «البطل المخلّص» الذي يستحق أن يفوز في الانتخابات. هذه الحلقة المفرغة هي الوصفة التي تتكرر منذ سنوات.
بعد حرب الأيام الثلاثة مع الإسلاميين الأسبوع الماضي دمرت التبانة كما لم تدمر من قبل، وشرد أهلها في ليلة ظلماء كما لم يحدث سابقا، وتبين أن المنطقة نجت بأعجوبة من مجازر بعد أن كشفت 17 عبوة مفخخة زنة إحداها 20 كيلوغراما، زرعها المسلحون، للإيقاع بالجيش، وكانت كفيلة بإحداث مجازر هائلة بين المدنيين.
غاضبون أهالي باب التبانة، ويشتمون الجميع. يعرفون أنهم ضحايا، لكنهم يجهلون كيفية الخروج من الدائرة الجهنمية التي حيكت حولهم. ها هي ملايين الدولارات ترصد من جديد، يقال إنها هذه المرة ذاهبة للإعمار. البعض يرى أنها ستصل إلى أكثر من مائة مليون دولار، وغالبية تعرف أنها ستذهب سرقة لمقاولين ومتنفذين، ومنتفعين. لا أحد حتى اللحظة يتحدث عن أي مشروع لإيجاد فرص عمل، ربما على الأهالي أن ينتظروا مائة سنة إضافية ليمنحوا ترف الحصول على مدخول يحصّن كرامتهم.
استغلال الفقر يجب أن يعاقب عليه القانون. والتواطؤ المتواصل، على الفقراء، لإبقائهم هم وسلالاتهم من بعدهم بائسين، معوزين، ليسهل توظيفهم بأبشع المهمات وأفظعها، هو بمثابة ارتكاب جريمة جماعية. كل ما يقال عن التآمر السياسي الذي يتعرض له أهالي باب التبانة ليس كافيا. أي كلام عن أن سياسيي طرابلس بدّلوا من سلوكهم ليعيدوا الكرامة إلى أكثر أهالي مدينتهم حاجة إليهم، لا يزال غير مقنع على الإطلاق. فالكلام تكذبه الأفعال. والخوف كل الخوف، بعد أن بدأت المعارك تنتقل إلى السوق التاريخية العتيقة، المركز الاقتصادي الأهم، وصولا إلى وسط المدينة، أن يكون الهدف هو تحويل طرابلس بأمها وأبيها إلى «باب تبانة» كبيرة ومخيفة. لذلك، على أهالي العاصمة الثانية أن يحذروا مما ينصب لهم من شراك قاتلة، قد تودي، إذا ما وقعوا بحبائلها، بلبنان كله.
نقلا عن الشرق الاوسط
-
بحث موقع مفكر حر
-
أحدث المقالات
-
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلاميةبقلم صباح ابراهيم
- ستبقى سراًبقلم عصمت شاهين دو سكي
- #إيران #الولي_الفقيه: تأجيل قانون العفة والحجاب… ما القصة؟!بقلم مفكر حر
- إشكالية قبول الأخربقلم مفكر حر
- موسم إسقاط الدكتاتوريات في #الشرق_الأوسط!بقلم مفكر حر
- ردود فعل مسؤولي #النظام_الإيراني على #سقوط_الأسد: مخاوف من ملاقاة نفس المصيربقلم حسن محمودي
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **بقلم سرسبيندار السندي
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **بقلم سرسبيندار السندي
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **بقلم سرسبيندار السندي
- ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.بقلم مفكر حر
- ** تساءل خطير وحق تقرير المصير … هل السيّد المَسِيح نبي أم إله وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- ابن عم مقتدى الصدر هل يصبح رئيساً لإيران؟ طهران مشغولة بسيناريو “انقلابي”بقلم مفكر حر
- ** ما سر تبرئة أل (سي .آي .أي) لبوتين من إغتيال نافالني ألأن **بقلم سرسبيندار السندي
- المجزرة الأخيرةبقلم آدم دانيال هومه
- ** بالدليل والبرهان … المعارف سر نجاح ونجاة وتقدم الشعوب وليس الاديان **بقلم سرسبيندار السندي
- رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسيةبقلم طلال عبدالله الخوري
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلامية
أحدث التعليقات
- منصور سناطي on من نحن
- مفكر حر on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- معتز العتيبي on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- James Derani on ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **
- جابر on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- صباح ابراهيم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **
- الفيروذي اسبيق on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- س . السندي on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- عبد الحفيظ كنعان on يا عيد عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا.. عبد الحفيظ كنعان
- محمد القرشي الهاشمي on ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :