د شاكر النابلسي
من أقدم قصص الحب في التاريخ أسطورة إنانا (عشتار) السومرية وتموز. وكانت عشتار مستعدة لكل التضحيات، إذ برهنت بسلوكها أن على المرأة العاشقة لكي تفوز بالرجل الحبيب وتحتفظ به، عليها ألا تغفل شيئاً، وعليها بدافع هذا الحب ألا تتراجع أمام المخاطر، مهما بلغت، ولو كانت الموت نفسه. ولم تكن عشتار – بوصفها إلاهة الحب الجسدي، حامية للزواج فقط، بل كانت ترعى أيضاً “نساء المعبد” اللواتي أطلق عليهن الإغريق لاحقاً:
“إماء المعبد”.
مرضُ الحب
قالت ثينو (زوجة العالم اليوناني الشهير فيثوغورس):
“الحب مرض النفس المشتاقة”.
ولما زادت مشاعر اليونان رقة، وأحلَّت الشعر مكان حرارة الجسد، كثر ذكر العواطف الشعرية الرقيقة، وأصبح طول الفترة التي تشعها الحرارة بين الرغبة واشباعها، ما يتيح للخيال فرصة يُضفي فيها المحاسن على الحبيب المأمول. ووصف يوربيديز (شاعر تنويري مسرحي يوناني، وهو يُعدُّ من أعظم شعراء التراجيديا اليونانية إلى جانب اسخيلوس وسوفوكليس. وفي مسرحيته هذه، دعا إلى تحرير المرأة من القيود.) في مسرحيته الشعرية، قوة “إيروس” (إله الحب) بالقول:
إذا اشتبك الحب في نزاع
كسب المعركة لا محالة
والحب يسلب الأغنياء متاعهم
وليس في وسع الآلهة أن تفرَّ من سلطانه
فكيف بنا، نحن الذين لا تطول حياتهم، أكثر من يوم؟!
سرُّ الحب
وقال محمد بن داوود الأصفهاني (ت 909م) أن أفلاطون قال في كتابه (المأدبة):
” اعتقد بعض أهل الفلسفة، أن الله أعطى لكل من العقول التي خلقها شكلاً كروياً؛ ثم جعله قسمين، ووضع كل منهما في جسد. وسر الحب يقوم على التقاء هذين العضوين، كما كانا في الأصل كلاً واحداً.”
الحب الهندي
وفي كتاب الحب الهندي (كاما – سوترا) (حِكَمُ الحب) نقرأ “أسطورة الخلق” التالية، وهي أن:
“الحب حاضر في كل مكان .”
وفي بعض الأساطير الهندية نقرأ:
في البدء كان هذا الكون عدماً، فيما عدا النفس
على هيئة إنسان، فتطلعت حولها، ورأت أن
لا شيء عداها، فكانت ضحيتها الأولى
هذه النفس كانت في حجم رجل وامرأة متعانقين، ومن ثم قَسمت النفس
ذاتها إلى شطرين:
الذكر والأنثى،
ومن هذا العناق ظهر الجنس البشري
وكانت لحظات التواصل بين الذكر والأنثى (بين الفتى والفتاة) في الحضارة الهندية القديمة، من أكثر اللحظات إجلالاً.
وكان هذا اللقاء إسهاماً في حركة العالم، واتصالاً مع صورة الحياة واندفاعاتها، ومرحلة من مراحل معرفة الذات، والكون.
من معاني الحب عند الإغريق
جعل الفيلسوف الإغريقي (انبذقليس)، من الحب العامل الموحِّد بين الأفراد والجماعات.
ونجد هذا المبدأ عند أفلاطون أيضاً.
وكان الفيلسوف الإغريقي الآخر بارمنيدس، يقول أن إله الحب كان أول آلهة خُلقت. وكان الحب أعظم ما وهبتنا الآلهة. وقال إن الحب مبدأ يرشد الناس إلى الحياة النبيلة.
أما الرحالة والجغرافي الإغريقي بوسيانيس
Pausanias
، الذي عاش في القرن الثاني بعد الميلاد، فقد قسَّم الحب إلى قسمين:
– حب سماوي، ويعود إلى آلهة الحب الكبرى (أفروديت) التي تقول الأسطورة، إنها ولدت من أب دون أم! وهو حب شريف يتعامل مع النفوس,
– وحب عام، ويعود إلى آلهة الحب الصغرى التي تقول الأسطورة، أنها ولدت من أم دون أب (كالسيد المسيح عليه السلام). وهو يتعامل مع الجسد، فهو قريب من الشعور الإنساني.
ويتفق مثقفون إغريقيون قدماء مع بوسيانيس، على أن الحب يقوم أساساً على المعرفة.
ويربط أرستوفان الأنثروبولوجي، تحقيق الحب بصورة كاملة عن طريق الرجوع إلى الحالة الأولى البدائية، التي كان يتصور فيها الرجل والمرأة كائناً إنسانياً واحداً.
أما الأديب والشاعر الإغريقي أجتون، كاتب الملاحم اليونانية، (400-480 ق. م)، فكان لديه صفات خارجية، وصفات داخلية أخرى للحب.
أما الصفات الخارجية، فمنها:
1- الجمال. فالحب أجمل الآلهات كلها. بل إن جميع الآلهات استمدت الجمال منه.
2- الصغر والحداثة. فالحب أصغر الآلهة، وأكثرها حداثة.
3- اللطافة والرقة. وتظهر في أمرين: عندما يقوم الحب بتنفيذ أفعاله، تُنجز هذه الأفعال عن طريق الحب وليس عن طريق الضرورة. والحب يسير في قلوب الناس وقلوب الآلهة، على حد سواء.
1- الحب، هو الأكثر مرونة في صورته. فلو كان صلباً غير مرن لما أستطاع أن يحوي كل الأشياء.
2- التجرُّد من المنافع. فلا منافع مادية للحب.
وأما الصفات الخارجية للحب، فمنها:
1- الفضيلة. فالحب لا يرتكب الخطأ، ولا يمارس عليه الخطأ مع الآلهة، أو مع الإنسان.
2- الشجاعة. فإله الحب سيد إله الحرب. وإله الحب (إيروس) أقوى من إله الحرب (آريزAris).
3- الحكمة. فالحب مصدر للحكمة. كما أنه مصدر كبير، وغزير للشِعر.
4- خالقُ الجمال. فالحب جميل. وهو يوجِد، ويخلِق كل الجمال، في كل الأشياء. ولما كان في ذاته جميلاً، كان السبب في وجود كل جمال.
5- القانوني. الحب واضع قوانين الحياة، ومكتشفها. وهو من بنى إمبراطورية زيوس. ( زيوس من أبرز شخصيات الميثولوجيا الإغريقية، فهو إله السماء والرعد، وهو أكبر الآلهة الأولمبية وهو أيضاً، “رب الأرباب”. وقد ورد ذكره كذلك في المعتقدات الرومانية القديمة تحت اسم “جوبيتر”.)
6- الخير. الحب يعني الخير، والعطاء. والحب يمنح الناس الشفقة، والتسامح، والمحبة، والإخاء، والصدق، والصداقة.
7- السامي. الحب ليس بشرياً من الأرض. ولكنه إلهي من السماء. لذا، فهو عظيم ومتسامٍ. فالصفات الداخلية والخارجية السابقة للحب ليست بشرية بقدر ما هي إلهية.
سقراط والحب
أما المعلم الكبير سقراط، فيقيم الحب على المبادئ التالية:
1- الروح. وهو هنا يخالف أجتون في اعتبار الحب إله. فالحب عند سقراط ليس إلهاً، وإنما هو روح. ( لا نعلم تعريفاً علمياً دقيقاً للروح. وعندما سئل الرسول الكريم عنها، كان الجواب غائماً: ﴿ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً﴾ (الإسراء: 85 ).
ولم يُجب عن السؤال.
وأنا أعتبر أن لا شيء هناك اسمه الروح. فروح الإنسان هو فقط قلبه النابض. ومتى توقف القلب عن النبض مات الإنسان. ويُقال (طلعت روحه)؛ أي فارقت روحه جسده، فتوقف قلبه، فمات. ويخاطب العاشق معشوقته في بعض الأحيان بقوله لها:
يا روحي؛ أي يا قلبي المعذب.
واعتقد أن كلمة روح في العربية، وفي اللغات الأخرى، كلمة مرادفة للقلب.
ويعتقد بعض الباحثين، أن الروح هي الجوهر والأساس. فروح الشيء كنهه، ماهيته، حقيقة واقعه، ووجوده. وتستعمل هذه اللفظة أحياناً للدلالة على شخصية الإنسان (خفيف الروح). وفي القرآن الكريم، تأتي الروح إشارة إلى الجن والملائكة. وتأتي بمعاني مجازية كثيرة، للدلالة على الرحمة ﴿لا تيأسوا من روح الله﴾ (يوسف:87)، وللدلالة على الملائكة ﴿فأرسلنا إليها روحنا﴾ (مريم :17)، وللدلالة على الفعل الجنسي ﴿ فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين﴾ (مريم:91). (أنظر: فؤاد الخوري، إيديولوجيا الجسد: رمزية الطهارة والنجاسة، ص 9-13)
2- الخير والسعادة. الحب في تعريف سقراط، هو الرغبة والشوق، نحو الخير والسعادة.
3- رغبة الإخصاب. الحب ليس لتحقيق الموضوع الجمالي، ولكنه الرغبة في الإخصاب والحصول على مولود جديد.
4- الحب النبيل. الحب ليس فقط من أجل الخصوبة والحصول على النسل. فهناك الحب النبيل، الذي يسعى إلى الحق والخلود.
وكان سقراط يفتخر، من أنه ليس سوى “وسيط للأفكار”، وأن لا فلسفة لديه، ولكن مجرد ايروتيكاErotika ؛ أي “علم الحب”.
ويغدو الحب علاقة بالحقيقة – كما يقول ميشيل فوكو – متحولاً من صعيده النفسي إلى صعيده الوجودي.
وقد يتحول الحب إلى عشق للحقيقة، كما كان عند سقراط، ورابعة العدوية، وابن الفارض، وغيرهم.
أفلاطون والحب
الحب كتجربة، مصدر للمعرفة، بقدر ما هو علاقة بالحقيقة.
الحب كعلاقة بالحقيقة منتج للمعرفة.
كان افلاطون يقول:
“إن الحب هو محرك لكل معرفة. وأن الهيجان الغرامي يؤدي إلى العلم الكامل.
ولوصول الروح إلى العالم الإلهي، الذي هو وطنها الحقيقي، يجب أن تكون منجذبة بالحب. وسيقود الحب الروح إلى التأمل الذي هو آخر درجة من المعرفة الإلهية.
رؤية أفلاطون لعالم الجسد وعلاقته بالعالم الخارجي “الطبيعي”، تعتبر أن الجسد قبر، وسجن للنفس، وتعطيل لآلية ارتقائها إلى عالم المُثل، وارتهانه بعالم حسي وهمي زائل.
وكان كبار فلاسفة الإغريق قد أعطوا الحب الأولوية في أنظمة مختلفة. وكان كل من هيراقليطس(نهاية القرن السادس ق.م) وديموقريطس (أواسط القرن الخامس ق.م) قد اعتبرا أن الحب والكراهية قوى أصلية طبيعية، تحرك العالم.
السلام عليكم.
المصدر ايلاف