كان راعيا للغنم، اسمه علي، يرعى أغنام الآخرين مقابل أجر، رجل درويش بكل معنى الكلمة، أمي، لا يقرأ ولا يكتب، ولا يملك حداً أدنى من الخبرة والمعرفة بالحياة والبشر. براءته وسذاجته مدهشة، وكأنك أمام طفل صغير… يضاف إلى ذلك تمتعه بقسط وافر من الغباء.
كان نزيل المنفردة التي وضعوني بها في الاعتقال الأول لدى فرع المنطقة التابع للأمن العسكري، وبدخولي الزنزانة أصبحنا سبعة أشخاص في مكان معد لشخص واحد (1.8 متر طول، 1 متر عرض).
اعتقاله تم في إحدى القرى (هو لا يعرفها) عندما دخلها لشراء ربطة خبز، حيث كان الجيش ينفذ عملية تمشيط هناك على ما يبدو. وقد قدّر عناصر الجيش الذين اعتقلوه أن الرجل مكلف بمهمة تجسس لصالح المسلحين.
في الزنزانة أصبح علي، بحكم سذاجته وغبائه، محلا لاستهزاء وسخرية الآخرين، وقد ذاع صيته خارج الزنزانة أيضا، وأصبح يُستدعى من قبل بعض السجانين المناوبين للسخرية والتسلية. وكنت الوحيد الذي تعامل معه باحترام، ومنع عنه سخرية نزلاء الزنزانة، فوثق بي وأحبني كثيرا. وعلى ما يبدو فإنه كان يعاني طيلة حياته من قلة احترام الآخرين، وسوء معاملتهم له.
تضاعف حب علي لي بعدما بدأت أقص عليه بعض قصص القرآن، فكان يستمع براحة وسعادة، كطفل يستمع إلى قصص جدّته المشوقة قبل النوم.
بعد بضعة أيام على دخولي الزنزانة وصداقتي مع هذا الرجل، حصلت أزمة كبيرة ومفاجئة بيننا، فقد اكتشف هو والآخرون أنني مسيحي، فكان وكأن صاعقة نزلت عليه، واتضح لي من نظراته وردة فعله الغريبة، أنني أول مسيحي يتعرف عليه في حياته، وأن لديه فكرة غير طيبة عن المسيحيين. فاختلطت عليه الأمور والمشاعر خلطا عجيبا، وبدا وكأن صراعا داخليا عنيفا يستعر داخله. كيف لا؟ وهو يعيش مجبرا مع شخص مسيحي في زنزانة مساحتها أقل من مترين مربعين، وهذا المسيحي يشبه الآخرين في الشكل، وهو يتعامل معه بمحبة واحترام… والأنكى من كل ذلك أنه يحفظ قصصاً وآياتٍ من القرآن!!
تعامل باقي النزلاء الطبيعي معي، وكلهم من المسلمين، جعله يهدأ قليلا ويبدأ بالتعرف علي مجددا، وكأنني كائن فضائي، فبدأ يسأل أسئلة لا تخطر على بال عني وعن أسرتي وعن الدين المسيحي، وكان لا يفهم لماذا لا أصبح مسلماً، فأنا أستحق أن أكون مسلما، وأجنب نفسي وأسرتي نار جهنم. وكنت أجيبه بصبر واحترام، وأذكر له ما أعرف من آيات قرآنية تتحدث بشكل طيب عن النصارى، حتى عادت الأمور بيننا إلى مجاريها تقريبا، وإن كان واضحا أن حجم القصة يتجاوز مقدرته على الهضم.
عرف السجانون منذ البداية أن الرجل درويش مسكين لدرجة الإعاقة، وأن اعتقاله كان خطأ، لذلك لم يتعرضوا له بالضرب، وكانوا يعطونه بعض الطعام الإضافي بعد جلسات السخرية التي كانوا يمضونها معه بين الحين والآخر، إلى أن حصل ما غيّر مسار الأمور.
ذات يوم، جاءنا سجان يحمل ورقة وقلما، وسأل كلا منا عن تاريخ توقيفه (كلمة اعتقال ممنوعة) وعدد الأيام التي قضاها في السجن، فأجبناه، فذهب وعاد بعد بضع ساعات غاضبا مزمجرا، وفتح طاقة الباب المعدني بعنف شديد، وسأل علي والشرر يتطاير من عينيه: “ولك حيوان، شلون بتقول أنك جيت لعنا بتاريخ… وأنو صرلك عنا… يوم؟” فتلعثم علي ولم يجب، ففتح السجان الباب، وقبض عليه من شعره، وسحبه خارج الزنزانة، وانهال عليه ضربا وركلا.. وعرفنا من خلال صراخ السجان أن المعلومات التي قدمها علي كانت خاطئة، وأن السجان قدمها لرئيسه دون تدقيق، مما تسبب بتأنيبه…
فُتح الباب مرة أخرى، وقُذف علي فوقنا وهو يرتجف بشدة، والدم يقطر من أنفه، ونظرات هلع في عينيه..
قال السجان موجها كلامه لي: “أنت يا خرى يا مثقف، معك ساعتين مشان تعلمو لهاد الحيوان كيف يحسب قديش صرلو موقوف، وإلا رح أشبحكن أنتو التنين” وأغلق الباب بنفس العنف وذهب، وبدأت مهمتي العسيرة مع علي، الذي ذهب الهلع والرعب بما تبقى لديه من عقل وتركيز.
لحسن حظي وحظ الرجل، أنه كان بين النزلاء من هو اقدم منه، ويعرف موعد قدومه، فساعدني على حساب تاريخ دخوله السجن، واستطعت بالتالي حساب عدد الأيام، وأعدتها أمام علي عشرات المرات حتى تأكدت أنه حفظها، وإن كنت متأكدا أنه سينساها بمجرد سماعه صوت السجان.. ورغم معرفتي بقدراته الذهنية المتواضعة، إلا أنني فوجئت أنه لا يعرف عدد أيام الأسبوع، ومعلوماته أنها تسعة أيام وليس سبعة.
بدأت أوضاع علي بالتدهور السريع بعد تلك الحادثة، فقد اكتشف السجان أن علي يصبح مضحكا ومسليا أكثر بكثير عند ضربه، أو تهديده بالضرب. فقد كان على ما يبدو، ومن شدة خوفه، يأتي بحركات غريبة مضحكة عندما يُضرَب، ويُصدر أصواتا من نفس النوع، الأمر الذي رفع كثيرا من قيمته الترفيهية لديهم، وأصبح مطلوبا بعد العشاء بشكل شبه يومي، وكانوا يتفننون في تعذيبه لاستدعاء ردات فعله المضحكة.
خوف علي من جلسة المساء، جلسة التعذيب لغرض التسلية، كان استثنائيا، لم أشاهد بحياتي هذا المستوى من الرعب، خاصة عندما بدأوا باستخدام العصا الكهربائية في جلساتهم… كان وجه علي بعد العشاء يتحول إلى ما يشبه وجه المومياء من شدة خوفه وشحوبه،.. يرتجف، يدعو ربّه، ينظر إلينا نظرات الرجاء، يخصني بها أكثر من الآخرين، لعلني أفعل شيئا… وكنا نحاول عبثا بث بعض الثقة والشجاعة في قلبه، وكنت استحضر كل ما أمكنني من آيات وأحاديث عن الصبر وإرادة الله فيما يحدث… لكن دون جدوى… كنا نبكي فعلا عندما يأخذونه، ويقضي زملائي كل الوقت في الصلاة والدعاء لأجله حتى يعود… لكن ذلك لم ينفع
توقف علي عن الطعام، وعن النوم، وفقد قدرته على الحركة خلال أيام معدودة، فأصبحنا نحمله إلى المراحيض عند قضاء الحاجة.
ورغم أن السجانين توقفوا عن استدعائه، لأنه لم يعد مسليا على الأرجح بسبب ضعفه الشديد، لكنه بقي يتوقع قدومهم كل يوم، واستمر في التدهور حتى أصبح هزيلا كالخيال.
قلنا لهم أنه توقف عن الطعام نهائيا، فكان جواب أحدهم “بِوَفِّر”. ورجوت أحدهم، وكنت أعتقد أنني أمون عليه قليلا، أن يخبره أن جلسات التعذيب توقفت، لعله يطمئن ويتحسن، فكان جوابه سريعا مقتضبا “خراي عليك وعليه”.
مات علي بين يدينا، في نفس الموعد بعد العشاء.
مات وهو ينظر إلي… أما أنا فسأموت بالتأكيد قبل أن أنسى تلك النظرات.
نادر جبلي
-
بحث موقع مفكر حر
-
أحدث المقالات
-
- آشور بانيبال يوقد جذوة الشمسبقلم آدم دانيال هومه
- المرأة العراقية لا يختزل دورها بثلة من الفاشينيستاتبقلم مفكر حر
- أفكار شاردة من هنا هناك/60بقلم مفكر حر
- اصل الحياةبقلم صباح ابراهيم
- سوء الظّن و كارثة الحكم على المظاهر…بقلم مفكر حر
- مشاعل الطهارة والخلاصبقلم آدم دانيال هومه
- كلمة #السفير_البابوي خلال اللقاء الذي جمع #رؤوساء_الطوائف_المسيحية مع #المبعوث_الأممي.بقلم مفكر حر
- #تركيا تُسقِط #الأسد؛ وتقطع أذرع #الملالي في #سوريا و #لبنان…!!! وماذا بعدك يا سوريا؟بقلم مفكر حر
- نشاط #الموساد_الإسرائيلي في #إيرانبقلم صباح ابراهيم
- #الثورة_السورية وضرورات المرحلةبقلم مفكر حر
- هل تعديل قانون الأحوال الشخصية يعالج المشاكل الاجتماعية أم يعقدها.. وأين القيم الأخلاق من هذه التعديلات ………..؟بقلم مفكر حر
- تلغراف: تأثير #الدومينو علی #ملالي_إيران وتحولات السياسة الغربيةبقلم حسن محمودي
- الميلاد آتٍبقلم مفكر حر
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلاميةبقلم صباح ابراهيم
- ستبقى سراًبقلم عصمت شاهين دو سكي
- #إيران #الولي_الفقيه: تأجيل قانون العفة والحجاب… ما القصة؟!بقلم مفكر حر
- إشكالية قبول الأخربقلم مفكر حر
- موسم إسقاط الدكتاتوريات في #الشرق_الأوسط!بقلم مفكر حر
- ردود فعل مسؤولي #النظام_الإيراني على #سقوط_الأسد: مخاوف من ملاقاة نفس المصيربقلم حسن محمودي
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **بقلم سرسبيندار السندي
- آشور بانيبال يوقد جذوة الشمس
أحدث التعليقات
- منصور سناطي on من نحن
- مفكر حر on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- معتز العتيبي on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- James Derani on ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **
- جابر on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- صباح ابراهيم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **
- الفيروذي اسبيق on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- س . السندي on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- عبد الحفيظ كنعان on يا عيد عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا.. عبد الحفيظ كنعان
- محمد القرشي الهاشمي on ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :