من قصص الموت في سجون الأسد (4)

muf50كان راعيا للغنم، اسمه علي، يرعى أغنام الآخرين مقابل أجر، رجل درويش بكل معنى الكلمة، أمي، لا يقرأ ولا يكتب، ولا يملك حداً أدنى من الخبرة والمعرفة بالحياة والبشر. براءته وسذاجته مدهشة، وكأنك أمام طفل صغير… يضاف إلى ذلك تمتعه بقسط وافر من الغباء.
كان نزيل المنفردة التي وضعوني بها في الاعتقال الأول لدى فرع المنطقة التابع للأمن العسكري، وبدخولي الزنزانة أصبحنا سبعة أشخاص في مكان معد لشخص واحد (1.8 متر طول، 1 متر عرض).
اعتقاله تم في إحدى القرى (هو لا يعرفها) عندما دخلها لشراء ربطة خبز، حيث كان الجيش ينفذ عملية تمشيط هناك على ما يبدو. وقد قدّر عناصر الجيش الذين اعتقلوه أن الرجل مكلف بمهمة تجسس لصالح المسلحين.
في الزنزانة أصبح علي، بحكم سذاجته وغبائه، محلا لاستهزاء وسخرية الآخرين، وقد ذاع صيته خارج الزنزانة أيضا، وأصبح يُستدعى من قبل بعض السجانين المناوبين للسخرية والتسلية. وكنت الوحيد الذي تعامل معه باحترام، ومنع عنه سخرية نزلاء الزنزانة، فوثق بي وأحبني كثيرا. وعلى ما يبدو فإنه كان يعاني طيلة حياته من قلة احترام الآخرين، وسوء معاملتهم له.
تضاعف حب علي لي بعدما بدأت أقص عليه بعض قصص القرآن، فكان يستمع براحة وسعادة، كطفل يستمع إلى قصص جدّته المشوقة قبل النوم.
بعد بضعة أيام على دخولي الزنزانة وصداقتي مع هذا الرجل، حصلت أزمة كبيرة ومفاجئة بيننا، فقد اكتشف هو والآخرون أنني مسيحي، فكان وكأن صاعقة نزلت عليه، واتضح لي من نظراته وردة فعله الغريبة، أنني أول مسيحي يتعرف عليه في حياته، وأن لديه فكرة غير طيبة عن المسيحيين. فاختلطت عليه الأمور والمشاعر خلطا عجيبا، وبدا وكأن صراعا داخليا عنيفا يستعر داخله. كيف لا؟ وهو يعيش مجبرا مع شخص مسيحي في زنزانة مساحتها أقل من مترين مربعين، وهذا المسيحي يشبه الآخرين في الشكل، وهو يتعامل معه بمحبة واحترام… والأنكى من كل ذلك أنه يحفظ قصصاً وآياتٍ من القرآن!!
تعامل باقي النزلاء الطبيعي معي، وكلهم من المسلمين، جعله يهدأ قليلا ويبدأ بالتعرف علي مجددا، وكأنني كائن فضائي، فبدأ يسأل أسئلة لا تخطر على بال عني وعن أسرتي وعن الدين المسيحي، وكان لا يفهم لماذا لا أصبح مسلماً، فأنا أستحق أن أكون مسلما، وأجنب نفسي وأسرتي نار جهنم. وكنت أجيبه بصبر واحترام، وأذكر له ما أعرف من آيات قرآنية تتحدث بشكل طيب عن النصارى، حتى عادت الأمور بيننا إلى مجاريها تقريبا، وإن كان واضحا أن حجم القصة يتجاوز مقدرته على الهضم.
عرف السجانون منذ البداية أن الرجل درويش مسكين لدرجة الإعاقة، وأن اعتقاله كان خطأ، لذلك لم يتعرضوا له بالضرب، وكانوا يعطونه بعض الطعام الإضافي بعد جلسات السخرية التي كانوا يمضونها معه بين الحين والآخر، إلى أن حصل ما غيّر مسار الأمور.
ذات يوم، جاءنا سجان يحمل ورقة وقلما، وسأل كلا منا عن تاريخ توقيفه (كلمة اعتقال ممنوعة) وعدد الأيام التي قضاها في السجن، فأجبناه، فذهب وعاد بعد بضع ساعات غاضبا مزمجرا، وفتح طاقة الباب المعدني بعنف شديد، وسأل علي والشرر يتطاير من عينيه: “ولك حيوان، شلون بتقول أنك جيت لعنا بتاريخ… وأنو صرلك عنا… يوم؟” فتلعثم علي ولم يجب، ففتح السجان الباب، وقبض عليه من شعره، وسحبه خارج الزنزانة، وانهال عليه ضربا وركلا.. وعرفنا من خلال صراخ السجان أن المعلومات التي قدمها علي كانت خاطئة، وأن السجان قدمها لرئيسه دون تدقيق، مما تسبب بتأنيبه…
فُتح الباب مرة أخرى، وقُذف علي فوقنا وهو يرتجف بشدة، والدم يقطر من أنفه، ونظرات هلع في عينيه..
قال السجان موجها كلامه لي: “أنت يا خرى يا مثقف، معك ساعتين مشان تعلمو لهاد الحيوان كيف يحسب قديش صرلو موقوف، وإلا رح أشبحكن أنتو التنين” وأغلق الباب بنفس العنف وذهب، وبدأت مهمتي العسيرة مع علي، الذي ذهب الهلع والرعب بما تبقى لديه من عقل وتركيز.
لحسن حظي وحظ الرجل، أنه كان بين النزلاء من هو اقدم منه، ويعرف موعد قدومه، فساعدني على حساب تاريخ دخوله السجن، واستطعت بالتالي حساب عدد الأيام، وأعدتها أمام علي عشرات المرات حتى تأكدت أنه حفظها، وإن كنت متأكدا أنه سينساها بمجرد سماعه صوت السجان.. ورغم معرفتي بقدراته الذهنية المتواضعة، إلا أنني فوجئت أنه لا يعرف عدد أيام الأسبوع، ومعلوماته أنها تسعة أيام وليس سبعة.
بدأت أوضاع علي بالتدهور السريع بعد تلك الحادثة، فقد اكتشف السجان أن علي يصبح مضحكا ومسليا أكثر بكثير عند ضربه، أو تهديده بالضرب. فقد كان على ما يبدو، ومن شدة خوفه، يأتي بحركات غريبة مضحكة عندما يُضرَب، ويُصدر أصواتا من نفس النوع، الأمر الذي رفع كثيرا من قيمته الترفيهية لديهم، وأصبح مطلوبا بعد العشاء بشكل شبه يومي، وكانوا يتفننون في تعذيبه لاستدعاء ردات فعله المضحكة.
خوف علي من جلسة المساء، جلسة التعذيب لغرض التسلية، كان استثنائيا، لم أشاهد بحياتي هذا المستوى من الرعب، خاصة عندما بدأوا باستخدام العصا الكهربائية في جلساتهم… كان وجه علي بعد العشاء يتحول إلى ما يشبه وجه المومياء من شدة خوفه وشحوبه،.. يرتجف، يدعو ربّه، ينظر إلينا نظرات الرجاء، يخصني بها أكثر من الآخرين، لعلني أفعل شيئا… وكنا نحاول عبثا بث بعض الثقة والشجاعة في قلبه، وكنت استحضر كل ما أمكنني من آيات وأحاديث عن الصبر وإرادة الله فيما يحدث… لكن دون جدوى… كنا نبكي فعلا عندما يأخذونه، ويقضي زملائي كل الوقت في الصلاة والدعاء لأجله حتى يعود… لكن ذلك لم ينفع
توقف علي عن الطعام، وعن النوم، وفقد قدرته على الحركة خلال أيام معدودة، فأصبحنا نحمله إلى المراحيض عند قضاء الحاجة.
ورغم أن السجانين توقفوا عن استدعائه، لأنه لم يعد مسليا على الأرجح بسبب ضعفه الشديد، لكنه بقي يتوقع قدومهم كل يوم، واستمر في التدهور حتى أصبح هزيلا كالخيال.
قلنا لهم أنه توقف عن الطعام نهائيا، فكان جواب أحدهم “بِوَفِّر”. ورجوت أحدهم، وكنت أعتقد أنني أمون عليه قليلا، أن يخبره أن جلسات التعذيب توقفت، لعله يطمئن ويتحسن، فكان جوابه سريعا مقتضبا “خراي عليك وعليه”.
مات علي بين يدينا، في نفس الموعد بعد العشاء.
مات وهو ينظر إلي… أما أنا فسأموت بالتأكيد قبل أن أنسى تلك النظرات.
نادر جبلي

This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.