لم يكن يخطر ببالي أبداً أن كتابتي لمقالة عن الفساد بعنوان “شطف الدرج من الأعلى ومحاربة الفساد” ستقودني إلى التحقيق في فرع “المنطقة”.
كان ذلك قبل يوم من عيد الفصح الغربي في نيسان العام 2007، عندما رن جرس منزلي في الدويلعة، فتحت الباب، وإذ بشابين في العشرينات من عمرهما، عرّفا عن نفسيهما بأنهما من فرع المنطقة، دعوتهما للدخول وشرب فنجان من القهوة، إلا أنّهما اعتذرا، وقالا إنهما مكلّفان تبليغي وجوب الحضور إلى مقر فرع المنطقة الكائن خلف كازية القصور بدمشق. إلا أنني أصرّيت على أن يدخلا ويشربا القهوة، إذ ليس من المعقول أن يقفاً على باب المنزل، وبالرغم من أنني كنت خائفاً في البداية، إلا إنّ الخوف انتقل إليهما بعد أن دخلا البيت، وأسرعت زوجتي بعمل القهوة على وقع التوتر الذي خيّم في أرجاء البيت، بينما أخذت أسألهما بصوت عالٍ لأخفي خوفي وقلقلي: لماذا تريدون مني الذهاب إلى الفرع ؟ ما الأمر؟
أجاب أحدهم: لا نعرف شيئاً، مهمتنا محصورة فقط بتبليغك مذكرة الحضور بغد غد الأثنين.
أنا: أين هي مذكرة التبليغ؟
قال أحدهم: لا نحمل مذكرة تبليغ، بل عليك كتابة تصريح على ورقة بيضاء بأنك تبلغتَ الحضور إلى الفرع يوم الأثنين القادم.
أنا: لن أكتب أي شيء. فالأصول أن يكون معكم مذكرة حتى تكون الأمور واضحة، مثلاً المحكمة عندما تريد أن تدعو أحداً كشاهد أو مدعى عليه ، تٌرسل له تبليغاً رسمياً، حيث يوقع الشخص المعني على التبليغ، ويستلم الشق الثاني من التبليغ.
أجاب أحدهم: يا أستاذ نحنا مكلّفين، ويجب أن تعطينا تصريحاً لنثبت للفرع أننا قمنا بتبغيلك.
أنا: مذكرة التبليغ من مسؤوليتكم، لكنني سأكتب تصريحاً بخط يدي، متعهداً فيه الحضور يوم الأثنين القادم إلى فرع المنطقة. شرط أن أقوم بتصوير التصريح، وأحتفظ بنسخة منه في البيت. وذلك حتى تعرف زوجتي من هي الجهة التي استدعتني، فيما إذا لم أعد إلى البيت، أليس من المحتمل توقيفي في فرعكم؟
رفضوا مقترحي، وأصرّوا على أن أكتب تصريحاً دون أن أحتفظ بنسخة منه، وأنا أصرّيت على موقفي، واحتدم الموقف بيننا، لكني أصريت على موقفي. وقلت لهم :” أعدكم بالحضور إلى الفرع يوم الأثنين القادم وسألتزم بوعدي.. ولكم الخيار أن تقبلوا، أو تأخذوني الآن معكم عنوة”.
تشاور العنصران مع بعضهما، ثم قال أحدهم .. حسناً سننتظرك صباح الأثنين القادم. وإن لم تأت فسيكون لنا تصرف آخر.
وبالرغم من خروج عنصري الأمن من منزلي، إلا أنّ التوتر استمر، وبدا الخوف واضحاً علينا، أنا وزوجتي وبناتي الثلاثة.. لم أشعر بالخوف في حياتي كالخوف الذي سيطر عليّ في هذه اللحظات، وأنا أخشى الاعتقال. اتصلت فوراً بأستاذي خليل معتوق، وأخبرته بما حصل.
ثم بدأت بترتبت الأمور مع عائلتي، وكيف يتصرّفوا فيما إذا تم اعتقالي. ولم أستطع النوم ليلتها، وأنا أفكر: كيف سأتصرف في التحقيق؟ وعن ماذا سيسألونني؟
وفي صباح اليوم الأثنين أخذتُ معي بعض المقالات التي كتبتها، والتي يمكن أن تسعفني في التحقيق، وانطلقت بخطى متردّدة إلى فرع المنطقة، بينما قدماي تكاد لا تقوى على حملي من شدة خوفي. وعند وصولي إلى باب الفرع أخذوا هويتي وموبايلي، ثم أخذوني إلى غرفة التحقيق، حيث كان ينتظرني رجل مربوع وممتلئ، وبعد أن رحّب بي، فاجأني بسؤال: “كم قبضت من موقع ثروة؟”، فقلت له: لم أقبض شيئاً من أحد.. أنا أكتب بالأجرة، وما قبضته هو مقابل ما أكتبه في الموقع، ولا أحد يكتب ببلاش، ثم أخذ يسألني عن كتاباتي، ولماذا أدافع عن معتقلي إعلان دمشق؟ ولماذا أكتب في موقع ثروة؟ ولماذا أهاجم رئيس الحكومة ناجي العطري في مقالاتي؟ ومن يدعمني؟..الخ
تمالكت نفسي قليلاً، وبدأت أجيب على أسئلته دون أي تردّد، وهنا حضر عنصر، ويبدو أنه ضابط بقي وافقاً يستمع إلى أجوبتي، وعندما قلتُ أني أقوم بواجبي المهني كمحامي في الدفاع عن معتقلي إعلان دمشق وفقاً لأحكام الدستور السوري، استلم الضابط الحديث، وبدأ يوجه كلامه لي بالقول: ” كتاباتك يا استاذ عن الحرية وحقوق الإنسان تتلاقى مع خطابات بوش وجنبلاط وجماعة 14 أذار.
قلت له: لا بالعكس يا سيدي، لا علاقتي لي بما ذكرت، وإن كتاباتي عن الحرية والديمقراطية سابقة لجنبلاط وجعجع وبوش، وأنّ أمريكا بالذات سرقت شعاراتنا في الحرية وحقوق الإنسان وبدأت تستخدمها خدمة لمصالحها. ثم أعطيته مقالة كتبتها قبل عدة أشهر، وكانت بعنوان “عندما تسرق أمريكا شعاراتنا في الحرية وحقوق الإنسان”. عندها قال لي: لماذا حضرتك تدافع عن معتقلي إعلان دمشق وهل أنت مقتنع بأفكارهم؟ وما هو الإصلاح الذي تريده أن يُطبق في سوريا؟ ثم ناولني ورقة بيضاء وقلم بيك ناشف، وقال: “أكتب وجهة نظرك هنا”. طبعاً لم يكن مفر من الإجابة خطياً على أسئلته، واستمر التحقيق معي حوالي ثلاث ساعات.. ثم أخذوني بعدها إلى مكتب في الطابق الأعلى الذي بدا أفضل حالا من المكتب السفلي، وكنت متوتراً للغاية، وانتظرت حوالي ربع ساعة في ذلك المكتب، ثم أدخلوني إلى مكتب رئيس الفرع. الذي رحّبً بي قائلا: ” أهلا بالأستاذ الوطني الكبير”.
أنا: عفوا سيادة الضابط، أنا لا أخذ وطنيتي من أحد، فكل سوري هو وطني حتى يثبت العكس.. ثم طلب مني الجلوس، وأثنى على صراحتي في التحقيق.. وطلب مني عدم الكتابة مجدداً في موقع ثروة المعادي لسوريا، هنا قاطعته بالقول:
أنا: موقع ثروة ليس معادياً لسورية، وإلا لما كتبت فيه.
رئيس الفرع: إنه معادي للنظام، وينشر كتابات معادية للقيادة السياسية ومسيئة لها وممنوع الكتابة فيه.
أنا: يا سيدي نعم الموقع معادي للنظام والقيادة السياسية، ولكنه ليس معادي لسوريا. وهناك فرق بين سوريا والنظام. أما لجهة ممنوع الكتابة فيه، فليس لدي علم بذلك، وأرجو أن تعلمونا بأسماء المواقع الممنوع الكتابة فيها، حتى لا نتورط في الكتابة معها مستقبلا.
رئيس الفرع: أعلموني الشباب “يقصد بالمساعد والنقيب” أنك تعهدت بعدم الكتابة بهذا الموقع. وهذا أمر جيد. ولكن أمامي مقالة كتبتها منذ فترة تتحدث فيها عن “شطف الدرج من الأعلى ومحاربة الفساد” ماذا تعني بذلك؟
أنا: واضحة يا سيدي ما بدها تفسير.
رئيس الفرع: أنا ما فهمتها، أريد أن أسمع منك شرحاً واضحاً لما تعنيه بهذا الكلام؟
أنا: يا سيادة الضابط، والله واضحة، يعني إذا عندكم هون درج بمبنى الفرع تريدون شطفه، عفواً إذا العناصر المكلفة بالتنظيف بدها تشطف الدرج.. من أين يشطفون الدرج؟ هل من الأسفل أم من الأعلى؟
رئيس الفرع : لا طبعاً من الأعلى.
أنا: تمام يا سيدي، فكما يُشطف الدرج من الأعلى، هكذا أيضاً يجب محاربة الفساد من الأعلى هذا ما قصدته في المقالة.
رئيس الفرع: ما فهمت.. ! أوضح أكثر كيف تريد محاربة الفساد من الأعلى؟
أنا: يا سيدي، أقول بصراحة، أن يقف السيد الرئيس في أعلى الدرج، ويمسك خرطوم مياه ويبدأ بضخ المياه .. هنا قاطعني رئيس الفرع معترضاً على كلامي وأنه لا يجوز القول هكذا عن الرئيس.
أنا: يا سيدي أرجو من السيد الرئيس أن يقف في أعلى الدرج، وأنا أمسك الخرطوم له، ثم يقول أبدأ يا ميشال بالشطف، هيك بدءاً من القصر الجمهوري مروراً بمجلس الوزراء فمجلس الشعب … الخ.
لمحته يبتسم، وعندما عرف إني شاهدته يبتسم، عدّلً من جلسته ليبدو لي أكثر صرامة..
رئيس الفرع : أنت يا استاذ تعبت وتعبتنا معك اليوم. صارت الساعة 4 مساء. ولازم تروح على بيتك بتكون زوجتك وأولادك ناطرينك أكيد.. وبعد شي يومين منرجع ومنكمل التحقيق.
وكبس الجرس، فدخل مدير مكتبه، وقال له: خلّي الاستاذ يروح على بيته، وحدد له موعداً غداً أو بعد غدٍ لاستكمال التحقيق. عندها شعرت أنني لستُ في خطر. لكنني لم أشعر بالاطمئنان إلا بعد أن استلمت هويتي وموبايلي.. وفوراً اتصلت بزوجتي وأخبرتها إني قادم إلى البيت.. كما اتصلت بالأستاذ خليل وأعلمته بخروجي سالماً.
وفي مساء اليوم التالي ذهبتُ إلى المكتب، وبينما أنا مستغرق في كتابة مذكرة دفاع، وإذْ بشخصٍ يدخل إلى مكتبي، “باب المكتب يبقى مفتوحاً في الصيف باعتبار المكتب عبار عن دار عربي، وكان الشخص عنصر أمن يدعى سميح، رحبتُ به وسألته: ماذا تريد أنت أيضاً؟
سميح: لقد جئت إلى المكتب بشكل شخصي، بعد أن شاهدتك اليوم في الفرع، وأني أريد مصلحتك بعد أن أطلعت على إضبارتك في التحقيق.
أنا: هات لشوف ، فكّلي أذان صاغية كيف تريد أن تساعدني؟
سميح: أقترح عليك يا استاذ أن تطلعني على المقال الذي ستكتبه قبل نشره، وأنا سأعلم رئيس الفرع بذلك، وأوكد له أنك متعاون معنا، وهيك بتصير أمورك تمام بالفرع، ويتم إلغاء مذكرة التوقيف.
أنا: سألته ويكاد الدمُ ينفرُ من وجهي فقد أهانني بهذا الطلب؟ وهل صدرت مذكرة توقيف بحقي؟
سميح: نعم، وإلغائها يتوقف على مدى تجاوبك معي اليوم، وأنا أريد أنا أساعدك لهذا أتيت اليوم قبل حضورك غداً لاستكمال التحقيق معك.
أنا: أنا عندي فكرة أحسن من فكرتك..
انفرجت أسارير عنصر الأمن وانشرح صدره.
أنا : شو رأيك يا محترم أن أخبرك بفكرة المقال وهي تدور في رأسي قبل أن أفرغها على الورق؟
سميح: أه. قالها مستغرباً.
أنا: وبهيك فكرة سوف يفرح معلمك ويرضى عليك، ويمكن كمان يصرفلك مكافأة.. أشرب فنجان الشاي ..وألله معك، وغير هيك ما عندي.
وهنا دخل الأستاذ خليل معتوق، عندها اعتذر سميح، مبدياً رغبته بالمغادرة. بعد أن شعر بأنني أتهكم عليه.
وأطلعت استاذي خليل معتوق على ما كان يريده عنصر الأمن “سميح”، فقال لي أنهم يريدون إخافتك من أجل أن تتعاون معهم. كن شجاعاً ولا تخف، ولن يكون هناك توقيف. هي مجرد فركة إذن ليس إلا.
ذهبت في اليوم المحدد إلى “فرع المنطقة” لاستكمال التحقيق، وإلى نفس المكتب حيث كان المساعد والنقيب بانتظاري.. وأعادوا طرح نفس الأسئلة عليّ، وبعد حوالي ساعة انتهى التحقيق، حيث تم عرض نتيجة التحقيق على رئيس الفرع كما أفهموني.. وبعد ربع ساعة أعطاني المساعد هويتي. وطلب مني المغادرة ورجاني أن أتعاون معهم في المستقبل.
غادرت فوراً باتجاه القصر العدلي لممارسة عملي المعتاد بعد أن اتصلت بزوجتي واستاذي خليل معتوق لأعلمهم بانتهاء التحقيق.