“تدخل مدير السجن , فسأل الأب ..
– شوف يا حجي … شو تتوقع يكون حكمكم ؟
– يا سيدي .. رحمة الله واسعة , و انتوا دائماً بتحكموا بالعدل !!
– طيب اسمعني .. انتوا اربعة أشخاص عائلة واحدة …. ونحن حكمنا على ثلاثة منكم بالإعدام … وهلق .. أنت بدك تختار مين لازم ينعدم ومين الواحد ياللي لازم يعيش .
– الله يطول عمرك يا سيدي .. و يطول عمر أولادك .. إذا كان الموضوع هيك فـــ لازم اسعد يعيش , ونحن الثلاثة يدبرها الله !.
– ومين أسعد ؟
– هذا هوي أسعد .. مخدومك ويبوس ايدك يا سيدي .
– ليش اخترت أسعد يا حجي ؟
– يا سيدي أنا زلمة كبير أكلت عمري , وسعد وسعيد متجوزين من زمان وخلفوا أولاد , و من خلف ما مات , أما أسعد بعدو صغير ومانو متجوز و بعدو بزهرة شبابو .. و الزهرة حرام تنقطف .. مو هيك يا سيدي ؟
– أي حجي أي … هيك … يا شرطي … يا شرطي … تعال رجع هالجماعة وحطهم بمهجع واحد .
منذ خمسة أيام – وكان أحد أيام الخميس – وردت لائحة الإعدامات وبدأ الشرطي بقراءتها , كان اسماء الذين سيعدمون من مهجعنا هم ( سعد وسعيد وأسعد )
قفز الأب السبعيني إلى الممر بين طرفي المهجع وهو يلوح بيديه تلويحات عدم فهم وعدم تصديق !! مشى إلى منتصف المهجع , وقف تحت الشراقة التي يطل منها الحارس عادة و نظر إلى الأعلى .. إلى السماء , وبصوت راعش ولكن قوي :
– يا رب .. يا رب العالمين , أنا قضيت عمري كلو صايم مصلي وعم أعبدك , يا رب أنا ما بدي أكفر .. حاشا لله واستغفر الله العظيم .. بس بدي اسأل سؤال واحد : ليش هيك ؟ ..”وبصوت عالي أقرب إلى الصراخ وهو يلتفت إلى الناس” .. ولك ليش هيك ؟؟ يا رب العالمين .. ليش هيك ؟؟ أنت القوي .. انت الجبار ! .. ليش عم تترك هــ الظالمين يفظعوا فينا .. ليش ؟ .. شو بدك تقول ؟ بدك تقول إن الله يمهل ولا يهمل ؟ .. طيب هــ الكلام مين بدو يرجِّع من أولادي ؟ .. يا الله … أنت ترضى أنو أسعد ابن الخمس وعشرين سنة ينعدم على أيدي هــ الظلاّم ؟! قلي .. جاوبني .. ليس ساكت .. أنت .. انت .. استغفر الله العظيم استغفر الله العظيم … يا رب … لو كان عندك ثلاثة أولاد وراح يروحوا عـ الإعدام بلحظة واحدة .. شو كنت تعمل ؟ .. هاه ؟ .. طيب جاوبني على ها السؤال الصغير بس .. انت .. رب العالمين .. معنا نحن و إلا مع هـ الظالمين ؟! لحد الآن كل شي يقول … أنك معهم .. مع الظالمين !! … استغفر الله … استغفر الله .. يا رب .. بعزتك وجلالك .. بس اسعد , بس رجِّع لي أسعد , لا تخليه يموت .. أنا ما عم قلك الثلاثة , بدي أسعد بس .. وانت قادر على كل شي !.
السكون و الوجوم يخيمان على المهجع , أبو سعد سكت أيضاً , جلس على الأرض ووضع رأسه بين يديه , بعد قليل رجع الإخوة الثلاثة , صلوا أخر صلاة لهم وبدؤوا بتوديع الناس , أبو سعد لم يتحرك من مكانه ولازال رأسه بين يديه , انتهى الإخوة من وداع الناس , جاؤوا ووقفوا أمام الأب الذي لازال مطرقاً , جلسوا حوله .. سأله سعد :
– أبي … يا أبي …. ما بدك تودعنا ؟ ….. أبي الله يخليك لا تحرق قلبنا بآخر عمرنا … ابوس أيدك يا بو ….
رفع الأب رأسه , شملهم بنظرة ذاهلة حارقة , رفع يديه باتجاههم , التقط أولاده اليدين وأخذوا بتقبيلهما … وأجهش الأربعة ببكاءٍ فجائعي , عم البكاء المهجع كله …
سحب الأب يديه من أيدي ابنائه وحاول أن يلف الثلاثة بيديه , القى الأبناء أنفسهم في حضن الأب , تجمعت الرؤوس الثلاثة على صدره , وضع الأب يديه على رؤوسهم وقد أغمض الجميع عيونهم ولازالت دموعهم تسيل ولكن بصمت .
مرة اخرى بدا المهجع يهدأ , مسحنا دموعنا جميعاً ونحن شاخصون بأبصارنا اتجاه الأب وأولاده , رفع الاب رأسه قليلاً , مسح بيديه على الرؤوس الحليقة … حول عينيه إلى الناس المحدقين به وبصوت هادئ ولكنه قوي بدأ الكلام كمن يخاطب نفسه , قال :
– هذا أمر الله : أمر الله ما منه مهرب .. إنا لله وإنا اليه راجعون .. معليش .. لا تخافوا .. يا ابني لا تخافوا .. خليكم سباع .. قلبي وقلب أمكم معاكم .. الله يرضى عليكم دنيا آخرة.. رضا الله ورضاي معكم .. هذا الموت كاس .. نعم كاس .. كل الناس بدها تشرب منه …
سكت قليلا التفت إلى الناس واستأنف حديثه :
– ولك بس ليش ؟.. ليش اولادي أنا .. ليش ؟ ..يا جماعة .. يا ناس هدول أولادي .. ما عندي غيرهم .. آخ .. آخ .. الله وكيلكم ما عندي غيرهم .. آخ يا أسعد .. آخ .. ولك يا جماعة يا ناس .. لك حدا منكم شاف هيك شوفة .. أولادي كلهم قدامي راح يتعلقوا عـ المشانق !!.. ولك شي حدا يخبرني .. احكوا يا ناس .. ليش .. ليش أنا وأولادي .. شو عملت من الذنوب تحت قبة الله حتى يجازيني هيك جزاء ؟!.. آه يا ابني آه .. يا ريتني متت من زمان ولا شفت هيك شوفه !.. ياريت متت ولا عشت هيك يوم !! .. آخ .. يا ربي آخ .. ليش .. ليش .. ليش .. ؟؟”
من رواية ” القوقعة” مصطفى خليفة