قضية السيطرة على المجتمعات, من المواضع المهمة لكل سلطة راغبة بديمومة سطوتها, وكان سابقا الجماعات الحاكمة تلجأ الى طريقين الأول القوة والإرهاب, والثاني الترغيب والإعلام, وهذا يكون عبر المعابد للسيطرة المجتمعات, حيث تصبح المعابد أداة السلطة, عبر تلقين المجتمع فكرة تقديس السلطة, وبما للمعابد من هالة في نفوس الجماهير, تنقاد المجتمعات لما تطرحه المعابد من أفكار, وتصبح يقينيات لا نقاش فيها, كوجوب السمع والطاعة للسلطة, او أن دفع الأموال للسلطة يقرب الإنسان من الإلهة, أو أن دعم السلطة في صراعاتها يحقق للجماهير مرضاة الإلهة.
ونجح الحكام في حقب ماضية في هذا النهج, فكانت المعابد عبارة عن وسيلة إعلامية بهالة دينية, لتسفيه وعي المجتمعات والسيطرة عليها, مما يبين أن عقلية الحكام تتميز دوما بالمكر الشديد, ولولا المكر والأكاذيب لما دامت السلطة الغاشمة طويلا.
في عصرنا الحالي الأمور اختلفت مسمياتها, لكن لب القضية بقي هو نفسه, حتى بعد مئات السنين.
● قنوات التلفزيون في زمن الطاغية
في زمن نظام صدام كان الإعلام يعمل في اتجاهين, الأول: الاتجاه نحو إرهاب المجتمع من سطوة القائد المبجل وحزبه, وإلزامهم بالطاعة والخضوع, والرضا بما قسمه لهم, عبر أبراز قوة النظام إعلاميا, والاتجاه الثاني: نحو تجميل صورة الطاغية, وجعل كل ما يفعله هو الصواب, وكل ما ينطق به هو الحق, وعمل على تكريس ذاك عبر برامج إعلامية احترافية, وحصل تأثير كبير في الثمانينات, وأصبحت فئات كثيرة من الجماهير تنتظر بلهفة الساعة التي يطل فيها الطاغية, بفعل عمليات التلقين المستمرة, والتي أنتجت فئات مقتنعة تماما بكل ما يقوله الطاغية, هكذا هو الإعلام أداة خطرة جدا, من الممكن أن تحول فئات واسعة الى مجرد قطيع خاضع فقط للأوامر.
لكن بعد حرب الكويت والحصار انكشف للمجتمع زيف الأعلام, واهتزت الصورة التي بذل الأعلام سنوات على ترسيخها في عقلية الفرد العراقي, فالذي كان بمصاف الإله والخوارق, تحول الى رجل مهزوم وحقير, فاتجه الأعلام الى رسم صورة جديدة له, وهو الرجل المتدين والذي تحاربه القوى العظمى لتقواه وصلاحه, ونجح في منهجه في تسعينات القرن الماضي.
● فضائيات تسفيه الوعي
اليوم تتواجد الكثير من الفضائيات العراقية ذات النهج الخطير, التي تعتمد منهج تسفيه وعي المواطن, عبر نشر وتصنيع الإخبار الكاذبة, وتهيئة الصورة الجذابة خارجيا والضحلة داخليا, برامج ومسلسلات تهدف لعملية صنع مسخ, وليس إنسان, فتسعى لخلق قناعات حسب أهواء القائمين على القناة, تسخر أموالها لإغراض خاصة لا تنتمي لجانب الخير العام, بل هي قائمة لمصلحة شخوص وتعمل لأجل هذا الأمر.
صنع الإنسان التافه هدف كبير لهذه القنوات, فتقوم بوضع خطط لدورة برامج ومسلسلات تدعم هذا المحور, ليتحول الإنسان من موجود مهتم بقضايا تخصه, الى موجود يتابع قضايا ليست مرتبطة به, فقط كي تثبط همته ويتحول لعبد لا يفكر الا ما قاله الأعلام ” المعابد”, وهنا يعلن النجاح الكبير لعملية تسفيه وعي المواطن, ليتحول الى مجرد ببغاء يردد كلام الوحش الإعلامي.
● فضائيات المعابد
تنهج الكثير من الفضائيات العراقية التابعة لأحزاب أو شخصيات سياسية, نهج معابد الكفار في الزمن الماضي, فهي تجعل ما يقوله القائد برتبة النص المقدس! الذي لا يجوز نقده ولا يصح رفضه, بل هو الحقيقة الكاملة! والتي يجب أن يلتزم بها كل المواطنين, وتعمد هذه القنوات على بث برامج مركزة ولساعات طويلة, هدفها ترسيخ رسم صورة القائد, باعتباره المنقذ الوحيد للعراق!
صورة أخرى على انه رجل شريف جدا وزاهد جدا, كما كان يروج لصدام بالأمس يروج لبعض أصنام الحاضر, حتى ترسخ هذا الأمر وسط الفئات الجاهلة والفئات النفعية, وصورة ثالثة باعتبار أن الحكمة مكانها فقط هذا الشخص, والجمهور يعامل على أساس انه قطيع خراف, يستجيب لكل ما تبثه الفضائيات, وبعد فترة يصبح مطيع جدا لأي أمر يصدر من القائد, الذي رفع لرتبة المعصومين, فيكون طاعته نوع من العمل الصالح! كما لقن من قبل الأعلام الخبيث.
ويصبح عملية نقده من المحرمات, وأي جهد لإقصائه بمصاف الكفر والخروج عن الدين, عند هذه النقطة يتبين مقدار النجاح الذي حققته القنوات, ومع الأسف الأمر مستمر لحد ألان, في عملية تحويل المجتمع الى قطيع تابع لأي نداء من راعي الأغنام, وهذا نتاج خطاب أعلامي ماكر ومخادع.
● الثمرة
بعد أن فهمنا الدور الخبيث الذي تضطلع به اغلب القنوات الفضائية العراقية, كان لابد للمجتمع من ردة فعل, وكما حصل مع نظام صدام بعد هزيمة حرب الكويت والحصار الاقتصادي, فالأمر كشف بعد سنوات من السرقات والهزائم, والتي كشفت عورة النخبة الحاكمة والتي ما عاد يجملها أي جهد, فقبحها أصبح ظاهرا لا ينفع معه أي ترقيع.
فهل تتوقف معابد الحاضر “القنوات الفضائية” عن دجلها وخبثها, بعد أن أصبح غير ذي نفع, أم أن لعبة الأكاذيب لا تتوقف؟