يمكن تصور سيناريوهات مختلفة لأهداف التصعيد الروسي في سوريا. واضح أنّ هناك نيّة علنية لدى موسكو في تأكيد أنّها ترسل أسلحة و”مساعدات إنسانية” إلى النظام السوري، فضلا عن مقاتلين، رغبة منها في إظهار أنهّا تلعب علنا دورا رئيسيا، إلى جانب إيران طبعا، في ضمان بقاء النظام السوري.
هناك رغبة روسية قديمة في المحافظة على النظام الذي يجلس على رأسه حاليا بشّار الأسد الذي لا يختلف عاقلان على أنّه صار أقرب إلى رهينة لدى إيران من أيّ شيء آخر… أقلّه منذ التخلص في العام 2012 مما كان يسمّى “خليّة الأزمة” في تفجير استهدف، عمليا، اللواء آصف شوكت، صهر بشّار الذي كان نائبا لوزير لدفاع وقتذاك.
كان لا بدّ من إزاحة آصف شوكت، قبل ثلاث سنوات من الآن، لسبب في غاية البساطة. يتلخّص هذا السبب في أنّه كان بديلا لبشّار من داخل النظام نفسه. هذا البديل كان مقبولا عربيا ودوليا، خصوصا من الأميركيين والأوروبيين، على رأسهم فرنسا التي كانت تعتبر صهر رئيس النظام السوري “صديق كبيرا لفرنسا”.
ولكن يظل السؤال الكبير الآن ماذا تريد روسيا؟ هل يعني الإبقاء على النظام بقاء بشّار الأسد، أم لا، أو على الأصحّ هل يمكن الإبقاء على بشّار الأسد؟ هل يمكن الاكتفاء بأن يبقى النظام تحت إشراف الضباط العلويين في الجيش، ومعظمهم من خريجي المعاهد العسكرية الروسية وذلك كي يصبح في الإمكان القول أن شيئا لم يتغيّر في سوريا، أقلّه من وجهة نظر الكرملين؟
هناك موقف روسي محيّر إلى حدّ كبير. يدلُّ هذا الموقف على عجز موسكو عن فهم سوريا، أو عن رغبة في قيام وضع معيّن فيها يجعل أرضها ساحة لحروب مستمرّة إلى ما لا نهاية. وهذا يعني، في طبيعة الحال، أن روسيا تعرف تماما ماذا تريد من سوريا. وهذا يفسّر الجهود التي بذلتها شركات روسية في السنوات القليلة الماضية لشراء حقوق عن التنقيب عن الغاز التي حصلت عليها غير شركة أوروبية في الأراضي السورية.
إضافة إلى ذلك، تسعى موسكو إلى بقاء إسلاميين شيشان وطاجيك وأوزبك وتركمان في سوريا يقاتلون فيها، ولكن من دون تحقيق انتصار على النظام. يخدم غرق هؤلاء في المستنقع السوري المصالح الروسية في ظلّ مخاوف موسكو من التطرف والإرهاب في الجمهوريات الإسلامية القريبة منها.
تريد روسيا القول أن سوريا التي عرفناها انتهت. ربّما تريد تأكيد أنّ أراضي سوريا لن تستخدم لتمرير الغاز الخليجي إلى أوروبا من جهة، وأنّها ستكون مقبرة للإسلاميين المتطرفين من جهة أخرى. الثابت أنّها تريد، عبر وجودها في سوريا، تأكيد أنّها ما زالت لاعبا في الشرق الأوسط بغض النظر عن المصير المحسوم لبشّار.
في كلّ الأحوال، يتبيّن من تاريخ العلاقة بين سوريا وروسيا أنّ موسكو تستطيع استخدام النظام السوري والأراضي السورية لتخريب المنطقة وليس لأيّ غرض آخر. لم يُقْدم الكرملين يوما، منذ خمسينات القرن الماضي، على لعب أي دور ذي طبيعة إيجابية في الشرق انطلاقا من سوريا. على العكس من ذلك، عملت روسيا، وقبلها الاتحاد السوفياتي، كلّ ما يمكن عمله كي تحلّ كلّ أنواع المصائب بالشرق الأوسط. بدا إضعاف العرب، عموما، جزءا لا يتجزّأ من إستراتيجية الكرملين في المنطقة، إن في ظل الإتحاد السوفياتي أو ظلّ روسيا الاتحادية.
تكفي العودة إلى الدور السوفياتي في مجال توريط جمال عبدالناصر في حرب 1967، انطلاقا من سوريا، للتأكد من مدى السلبية التي طغت على كلّ ما قامت به موسكو في المنطقة. وقتذاك، زايد النظام السوري على عبدالناصر من أجل جرّه إلى التصعيد مع إسرائيل فوقع في الفخّ، أي في حرب ما زال الشرق الأوسط يعاني إلى اليوم من نتائجها. لو كانت موسكو تريد بالفعل مصلحة مصر وسوريا في تلك المرحلة، لكان في استطاعتها، بصفة كونها عاصمة القوة العظمى الثانية في العالم، تنبيه القاهرة ودمشق إلى النتائج المعروفة سلفا، من القادة العسكريين السوفيات، لأيّ مواجهة عربية-إسرائيلية. جلست موسكو تتفرّج، علما أنّها كانت تعرف تماما ما الذي ستفعله إسرائيل. كان همّها محصورا في ارتماء العرب أكثر في أحضانها بعد احتلال إسرائيل لأرضهم وحاجتهم إلى السلاح.
لم يتغيّر شيء في موسكو. ما زال المطلوب استخدام سوريا. في الماضي، كان إضعاف العرب عبر سوريا، يعني تعزيز الوجود السوفياتي ثمّ الروسي في المنطقة. هناك الآن مخطط روسي واضح يصبّ في إعادة تأهيل النظام السوري بحجة أنّه شريك في الحرب على الإرهاب التي يرمز إليها تنظيم “داعش”. كيف يمكن إعادة تأهيل نظام كان منذ البداية شريكا في خلق “داعش”؟
كان هناك عبث سوفياتي في الماضي. هناك الآن عبث روسي. هذا هو الشيء الوحيد الذي تغيّر منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. يعود ذلك إلى أن العرب بالنسبة إلى موسكو أدوات لا أكثر. سوريا المفتتة ستمنع مرور أنابيب الغاز الخليجي عبر أراضيها إلى أوروبا. سوريا المفتتة وحروبها التي لا تنتهي ستلهي الإسلاميين المتطرفين عن روسيا. سوريا المفتتة ستظهر فلاديمير بوتين في مظهر الزعيم القادر على استعادة الدور الروسي في العالم. هذا الفولكلور الذي يمارسه بوتين يرضي، إلى حدّ كبير، العصبية القومية لدى المواطن العادي الباحث دائما عن بطل يستعيد لروسيا أمجادها الغابرة.
ما نشهده اليوم شراكة إيرانية-روسية في احتلال جزء من سوريا. هل استمرار الاحتلال أمر طبيعي؟ الجواب لا وألف لا. سيدفع السوريون غاليا ثمن ما يتعرّض له بلدهم، خصوصا في ظلّ إدارة أميركية لا تبالي بالتورط الروسي والإيراني في سوريا. على العكس من ذلك، يبدو أنّها تشجّع عليه. ما الفارق إذا ذهب ضحية الحرب المستمرّة منذ مارس 2011 والتي يشنها النظام على شعبه مليون سوري وأكثر. كذلك، ما الفارق، بالنسبة إلى واشنطن، إذا تشرّد ما يزيد على عشرة ملايين سوري آخرين… ما دامت نتيجة المأساة السورية معروفة سلفا وما دام ليس في الإمكان إقامة دويلة علوية ذات ممرّ يربطها بدويلة “حزب الله” في لبنان؟
ليس ما يشير إلى اهتمام أميركي من أيّ نوع ببقاء سوريا موحّدة. يبدو الهمّ الأميركي الوحيد في بقاء سوريا مستنقعا للروسي والإيراني اللذين لا يستطيعان استيعاب أنّ لا مجال لإقامة أي دويلة في سوريا خارج سيطرة الأكثرية السنّية التي ستبقى أكثرية، مهما بلغ حجم الهجرة إلى أوروبا ودول الجوار.
* نقلا عن “العرب” اللندنية