بقلم مالك العثامنة/
عام 1998، وفي ظل أزمة عمل في الصحافة كانت ثقيلة الوطأة بعد قوانين قمع إعلامي أصدرتها حكومة الدكتور عبد السلام المجالي رئيس وزراء الأردن الأسبق، لاحت لي فرصة الخروج من نفق البطالة الثقيل عبر عقد عمل لصالح جمعية خيرية في قطر اسمها “جمعية قطر الخيرية”، ووافقت بلا تردد ولا تفكير وبلهفة المحتاج لأسافر إلى الدوحة في غضون أيام ووظيفتي حسب العقد أن أحرر مجلة الجمعية في دائرتها الإعلامية.
هناك قابلني أول من قابلني نائب رئيس الجمعية، وهو قيادي من قيادات تيار الإخوان المسلمين السوريين ممن هربوا من سورية بعد مذابح “حماة” في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وتحدث معي بودية شديدة ذاكرا أخوالي “المجاهدين” الشيشان وحين حاولت أن أوضح له أن الحرب في الشيشان حينها يجب أن تكون وطنية وأنهم مقاتلون من أجل الحرية والتخلص من الاحتلال الروسي، اعترض الرجل واصفا الحرب بالجهاد المقدس لإعلاء كلمة الله على الأرض، مؤكدا لي أن الجمعية التي نعمل بها تدعم المجاهدين حتى ينالوا النصر!
طبعا تم تقديمي إلى رئيس الجمعية وهو شيخ سلفي معروف اسمه “عبدالله الدباغ” كان دوما يصر على فرض القواعد السلفية المتشددة في مبنى الجمعية فالصلاة جماعة بإمامته جبرا، والتدخين محرم ولا وجود مطلقا لسيدات أو آنسات بين الموظفين القادمين من خلفيات تيار الإخوان المسلمين أو تنظيمات جهادية في أفغانستان وقد رفضتهم بلدانهم فوجدوا في الدوحة وجمعيتها الخيرية ملاذا آمنا.
يمكن القول بنظرية أنه تم اختطاف السلطة في قطر، ولصالح تيارات الإسلام السياسي
الحديث هنا في التسعينيات، لاحظوا معي.. أي قبل أي حديث عن إرهاب و”إسلام فوبيا” وقاعدة بن لادن وهجمات أيلول/سبتمبر الأميركية الدامية.
كنت مدخنا أيامها، ووجدت طرقا خاصة لي لممارسة عادتي السيئة تلك خارج رقابة الجمعية، وكنت كما كنت دوما ليبراليا، مما أدخلني في أزمات مع الموظفين ثم مع الشيخ نفسه والذي كان مقربا جدا من القيادة القطرية ومدللا لديها.
اقرأ للكاتب أيضا: ‘السادة غير المحترمين’ وتحكيم الشريعة في أوروبا
كان الشيخ الدباغ يتفاخر حينها أنه “جاهد” في أفغانستان إلى جانب “الشيخ بن لادن”، ويتفاخر بعلاقته المستمرة حتى حينه مع الجهاديين هناك، وكثيرا ما كان يطرح اسم “عبدالله عزام” أمامي كصديق شخصي له، وكنت شخصيا أتجاهل تلك
الملاحظات وأحاول استكمال ما هو مطلوب مني من جمع أخبار مصدرها أكثر من أربعين مكتب للجمعية حول العالم، موازناتها المليونية تنفق على مشاريع “خيرية” في كل أركان الكوكب، لأنتج مجلة فاخرة الطباعة والتصميم على أن يكون غلافها دوما كل شهر صورة للشيخ السلفي عبدالله الدباغ.
أحد تلك المشاريع كان يتعلق ببناء جامع في دولة إفريقية، وقد وردني الملف للاطلاع عليه، وأدهشني أن مشروع الجامع يتضمن بناء سعته أكثر من ألف مصلي في قرية نائية فقيرة في مجاهيل إفريقيا سكانها لا يتجاوزون المئات، وحسب الملف المعروض أمامي فإن أحد أسباب بناء الجامع هو مواجهة “حملات التنصير” التبشيرية التي تقدم الدواء والغذاء لسكان القرية الإفريقية!
في ذات الأسبوع، زارني السياسي التونسي المعارض حينها والمقيم بين باريس والدوحة (!) الدكتور أحمد القديدي، ليعرض عليّ فكرة أطرحها على الشيخ تتعلق بتمويل نفقات محامين فرنسيين للدفاع عن فتيات فرنسيات مسلمات تعرضن للقمع “الرسمي” بسبب حجابهن. راقتني الفكرة لمدنيتها ومنطقيتها وتوجهت لمكتب الشيخ السلفي الغارق حينها في أداء “صلاة الضحى” وقد استقبلني ببشاشة، سرعان ما تلاشت حين أخبرته عن عدم اقتناعي بمشروع المسجد في القرية الإفريقية وعدم منطقيته طارحا مشروع الدكتور أحمد القديدي الذي يستحق الدراسة والدعم.
جواب الشيخ كان أن القديدي يمكن أن يحصل على الدعم من مكتب “حرم أمير قطر” التي ترعى مصالح معارضين مثله أما مشروع الجامع واعتراضي عليه فسيقوم باستخارة الله ثم أخذ القرار المناسب!
سافر الشيخ إلى لبنان عصر ذلك اليوم، ليستخير الله في بيروت، وتم استكمال مشروع الجامع في وسط إفريقيا حسب ما ورد في الملف بأموال طائلة، وغادرت أنا الدوحة بعد أشهر معدودة مطرودا غير مأسوف عليّ ولا أسف عندي على كل ذلك.
اليوم وبعد سنوات طويلة جدا، ومع ظهور مفهوم محاربة الإرهاب، والاشتباه الدولي بأسماء معينة ونشاطات لأشخاص مشبوهين، تم إزاحة الشيخ الدباغ من رئاسة الجمعية، لكنه بقي عضوا في مجلس إدارتها ولا يزال يتلقى التكريم من أعلى مستوى في قطر على جهوده، التي لم تنته بعد!
♦♦♦♦
انتهت الحكاية.. لنستخلص منها أن العلاقة العضوية بين قطر والتيار الإسلامي السياسي (إخوان أم سلفيين) ليست حديثة، بل قديمة متأصلة كما أن احتضان قطر للإخوان المسلمين والمعارضة الإسلامية في العالم العربي ومنبوذي حرب أفغانستان كان دوما برعاية الدولة وضمن منهجية شديدة الهدوء.
الأزمة ليست قابلة للحل لأنها ليست مع القطريين بل مع تيار لا يؤمن بالدولة كمفهوم
مع مرور الوقت والزمن، كان للإخوان المسلمين استراتيجية متقنة بتشبيك علاقاتهم في السلطة القطرية وتموضعهم في مفاصلها إلى أن وصلوا إلى رأس السلطة في قطر مع الشيخ حمد بن خليفة الذي وجد فيهم حليفا مهما لتنفيذ طموحاته السياسية والإقليمية والدولية.
اقرأ للكاتب أيضا: ذهنية “الـ +18” في التعليقات وربط العلمانية والمدنية بالجنس
ومع الشيخ تميم أمير قطر الحالي، كانت ذروة التحكم الإخواني، وهو ما تعكسه الصور الواضحة من غير لبس، وسيطرة أحد أهم عرابي الإخوان المسلمين (وهو ممن هربوا من بلدانهم كمطلوبين أمنيا وقضائيا إلى قطر) الشيخ يوسف القرضاوي على مفاصل الحكم في الإمارة التي تملك الغاز وقناة الجزيرة كثروتين مؤثرتين.
باختصار..
يمكن القول بنظرية مفادها أنه تم اختطاف السلطة في قطر، ولصالح تيارات الإسلام السياسي وبقيادة الإخوان المسلمين.
وعليه.. فالأزمة ليست كما تصورها الدوحة و”جزيرتها” بأنها بين دول المقاطعة الخليجية ومصر مع الدوحة، بل هي أزمة قابلة للتفاقم بين كل من يرفض الإرهاب الديني الراديكالي وشبه جزيرة تم اختطاف الدولة فيها ليجد الإخوان المسلمون مقرا ومستقرا ينطلقون به لتنفيذ مشروعهم الأممي على ذات نهج معالم الطريق التي وضعها شيخ الطريقة الإخوانية سيد قطب أوائل القرن العشرين.
الأزمة ليست قابلة للحل، لأنها ليست مع القطريين، ولا مع قيادتهم “الوطنية المفترضة”، بل مع تيار لا يؤمن بالدولة كمفهوم، وتترسخ لديه قناعة الإقصاء على أسس دينية ويدير الأزمة بدهاء وذكاء غير مسبوقين.
وللحديث بقية.. كي يكتمل.
شبكة الشرق الأوسط للإرسال