استأنف أبي أوتادَه الأخيرة كاملة قبل انحسار النور عن رماد اليوم الرابع ، بل استأنف كمال روحه المتهكمة وظلال أدواته في إبداع لسع الآخرين بالسخرية تحت درع ثقيل من النوايا الطيبة ،،
كان خلقاً ، خلقاً حقيقياً ، كنت شاهداً عليه ..
من يري الخالة “زينب” للمرة الأولي ، سوف يجدها تعبيراً حقيقياً بشكل متحيز عن أفكاره السابقة عن الغجر ،
ومن يسمع صوتها في أيِّ وقت سوف يجده تعبيراً حقيقياً بشكل متحيز عن أفكاره السابقة عن موسيقي الغجر ، لكن من يسترخي فوق الطبقات المتراكمة في أعماقها المحتجزة ، سوف يجد تعريفاً للنبع الشهير من المشاعر الصحية بشكل متحيز أيضاً ..
قامتها ، تحمل بالتأكيد الزائد عن الحد ، سفر أحزان جدَّاتها الممتد من رقم الطبيعة الصعب ، ذلك الصفر المختلف عليه ، مع ذلك فهو رقمٌ لا يمكن تجاوزه وفقاً لأيِّ قناعة ، وكلِّ قناعة ،،
سلالةٌ لا تواجه إلغائها ..
ملامح وجهها الذكورية مرآة متطرفة لهواجس الخصيان البعيدة ، كأنها حدثت سهواً ..
هي أيضاً ..
كانت احتكاكاتها الأولي بنا تعبيراً حقيقياً بشكل متحيز عن أفكارها السابقة عن البدو ، وأساليب البدو في المعيشة ، وهي كانت بحماية سحن وأزياء الكثيرين من الزائرين معذورة ، فلقد كانت سحن الكثيرين الارتجالية صالحة فقط لتكون حكراً علي أسماء بعينها مثل ، حجر ، جحرز ، مضرط الحجارة ، تأبط شراً ، السموءل ، لمعي ..
لم تكن تدرك لبساطتها ، ربما ، وربما لتناقضاتها الداخلية الحادة ، أو لألفة الإطار ، وهذا هو الأكثر إقناعاً ، ذلك الفارق الرحب ، بين مريض ثانويٍّ يجد التعبير عن تماثله للشفاء في القليل من الإبر والأقراص والأقماع والأشربة ، ثم يعود ، بعد يوم أو يومين ، إلي موقده العائليِّ ليواصل بقائه ، وبين مريض خاص لمرض خاص ، يلتحق وجه القبر المكعب بأفكاره السوداء صباح مساء ، وإن تظاهر بالاستهانة !!
لذلك ، كانت تعاليمها الزائدة عن الحدِّ ، عن ضرورة المحافظة علي نظافة الغرفة والحمام والملاءات ، بل حراسة نظافتها ، وضرورة دعوتها قبل امتلاء المثانة البلاستيكية لتفريغها ، أكثر من كافيةٍ لجعل انخراطنا في الضجر يعمل ..
هذا قبل أن يستأنف أبي أوتاده ، واستأنف أوتاده ، فتوقفت تماماً عن العطاء ، وبدأت بالأخذ ..
تداخل أبي مع أولي سوناتات وصاياها الجارحة لمساء اليوم الرابع ، وتساءل في هدوء ، وغيمة علي جسده :
– إنتي من الصلعا ؟!
لملمت أنا ، ولملم “حازم” ، أكياس ضحكاتنا العصبية ، ولذنا بالفرار من المربع الآمن ، نتعثر في خجلنا ، يلاحقنا صوت الفريسة السهلة ، تفسر له باكتراث زائد عن الحد موضع الضاحية التي سقط رأسها في حفرةٍ من حفرها ،،
كانت الخالة لا تدرك المسار الصحيح لسؤاله ..
لقد زهد في جوارنا ، وغابة من الذكريات تشكل لنا تاريخاً مشتركاً ، واستوطنوا الصلعا ، علي مشارف سوهاج الجنوبية ، إخوانٌ لنا من “الحلب” ، بعد أن أنفقوا علي هامش الأجنحة العائلية المتصارعة ، وقلبي ، غابة من الأعوام المجيدة ، كانوا خلالها جزءاً أساسياً من معادلة “الدومة” الأهلية ، لا يواجه مناهضته العداء ما دام الحياد باقياً ، يخفت الحياد أحياناً ، فيناصرون موقداً في صراعه مع موقد ، فيصبحون ، بالنسبة لهامشيتهم علي الأقل ، بؤرة الانتقام ، وكان مجرد التلويح بنذر المعركة يكفي أحياناً لجعل انخراطهم في جوارنا يتوقف ..
قومية انفصالية ككلِّ قومية انفصالية ، لا يعيشون أبداً علي الحافة كحافة الغجر الشهيرة ، ولكنهم أيضاً ، يرتبون علي الدوام لقوميتهم العيش في الجيتو ، لا لحماية قناعةٍ ما من المدِّ والجزر شأن اليهود ، بل خرزة من العقد استراحوا لها لا أكثر ، هذا جعلهم تدريجياً ، وبشكل منظم ، وفي ما يشبه العرف الدارج ، يكتسبون تعابير الجيتو الخاصة ، لذلك سلَّط الآخرون عليهم تعقيباً علي تعابير الجيتو التي لا تقيم وزناً للكثير من التابوهات الجنوبية الشهيرة ، نظرةً عنصرية ، لا تسلم من الشوفينية ، حيث توقف الوقت وتجاوز الأساليب ، وفي ما بدا أنه اندفاعٌ خلف الاحتجاج ، أو النكاية ، واظبوا من جانبهم علي مواصلة حراسة جذور الإخلاص لعاداتهم الموروثة جيلاً فجيلاً ..
ربما ، لأن الإسراف في الالتفاف حول عادة واحدة يكفي لجعل انخراطنا في الدهشة حيالها ينهار ، لهذا ليس من محرضات الدهشة علي الإطلاق التفاف “الحلب” حول عدم الانتماء لأرض أياً كان ثباتها ، وهذا خنجر معلق في ذاكرة مجتمعهم العامة ، حتي يمكن التأكيد الزائد عن الحد علي أنهم جذور تعيش بغير أرض !!
لكن من يراقب نموَّ هجراتهم ليس من الصعب أن يلمس في الظل كونهم يحتفظون علي الدوام في جيوب هجراتهم بغابة من خطوط الرجعة ، وهذا يدفعني إلي الإشتباه في موجة بعيدة تسلم جذورهم إلي “لبنان” ، فما أشبه “الحلب” باللبنانيين ، حيث يتوفر الاستعداد الوافر للترحال تحت أيِّ قافية ، وكلِّ قافية ، بل الترحال لمجرد الترحال أحياناً!!
لكن القلائل .. يتهمون موجة بعيدة ، حملت فوق ماءها الآثم جذورهم القلقة من مدينة “حلب” السورية مباشرة إلي هامش الجنوب ، وذكري بعيدة ، ونشاطهم المركز في تجارة الأقمشة ، والفنان “صباح فخري” ، تدفعني إلي الإنحياز بشكل مؤقت إلي هذا التقدير الارتجاليِّ ، لكن الممتلئ ، وانتشار الحنين إلي سوريا في لهجاتهم أيضاً !!
وحتي كتابة هذه السطور ، لا يزال العم “عبد الحميد” ، أشهر بائعي القماش الجائلين في الدومة ، يُزيِّن بضاعته ، ويعلن في الوقت نفسه وفادته ، بالنداء الحيِّ المنغم :
– حريـ يــ يـر سوريا ، بضايـ يـ يـع سوريا !!
ليس الموضوع في إطاره بالتأكيد ، وليست صناعة الأقمشة الحريرية محتجزة في سوريا ، لابدَّ أن هذا النداء المسنَّ تعبيرٌ عن ذكري غامضة ، ومتوارثة ..
ومن تعابير الجيتو الحلبيِّ ، في رأيي الخاص طبعاً ، زواج العم “عبد الحميد” من امرأتين ، تتقاسمان منذ طفولتي رجولته ، وحتي كتابة هذا السطر ، وتتقاسمان اسماً واحداً أيضاً ، “فاطمة” ، فهل يقدم علي هكذا جنون سوي العم “عبد الحميد” ؟!!
ومن تعابير الدومة الخاصة، أنَّ نساءها تواطئن علي تعريف زائد عن الحد للرجل ، “عبد الحميد جوز فاطنات” ، لقد جعلن من المرأتين غابة من النساء !!
وتضخيم الأشياء يكاد يكون تقليداً دومياً شهيراً ، وهذا يقودني إلي ذكري بعيدة ..
كان العم “علي” بائعاً متجولاً للكيروسين ، أو “الغاز” في لهجاتنا ، أسترخي ذات ليلة فوق أكبر أخطائه علي الإطلاق ، فوجد حماره تعريفاً لطريق الدومة ، دون أن تكون لديه أدني فكرة عن لقبه الذي سوف يتجاوز الدومة إلي القري المجاورة وحتي مسقط رأسه ، ويلتحق باسمه بقية أيامه ، لقد نشط ، تحت ضغط مؤخرته الضخمة ، ذلك التقليد الدوميُّ في العثور علي السخرية حتي في الظلال الصلبة ، ودون مراعاة للياقة ، أو الذوق ، وراقبوا فجأة ، وبشكل جماعيٍّ ، نموَّ انتباههم إلي العلاقة اللغوية بين مؤخرته ونشاطه ، الغاز ، فضربت حواسهم عاصفة من المرح الداخليِّ ، وصاحوا جميعاً ، رجالاً ، وأطفالاً ، وشباباً ، خلف الوافد المسكين :
– علي أبو …. ، بياع الغاز !!
وأحصي العم “علي” فرديته وجمعهم ، فأسكت غضبه مرغماً ، ومضي بعربته صامتاً ، وازدادوا بصمته وعياً بإحساس المنتصر ، واتسعت المطاردة تدريجياً ، وتكاثر الدوميون حول حوافه ، علي مشارف الدومة توقفوا صاخبين ، وتابع الرجل هروبه المهين حتي تجاوز ” كوبري حمَّاد ” ، وهناك توقف ، ونظر إلي بيوت الدومة ، وانفجر صائحاً :
– إتفووووووووووه عليك يا دومة ، يا بلد الغجر يا ولاد الكلب ، يا غوازي ، يا جعانين ، إتفوووووه !!
كان بصاقه الذي لا يصل ، وكان صدي صوته الهستيريِّ المحتقن ، الذي يندمج مع ضحكات مطارديه العصبية ، آخر العهد بمؤخرته ..
كانت العمتان ” فاطمة ” ، تركبان الحمار فوق القماش معاً ، واحدة خلف الأخري في ترتيب لا يختلّْ ، بينما يسير العم عبد الحميد أمامه برقة عذراء ، ممسكاً برقبته كأيِّ جنتلمان حقيقي ، وأن تركب المرأة حماراً ، بالنسبة للدوميين ، انحلالٌ يفتت عفتها إلي شكوك ، وهو ، بالنسبة للحلب ، قلب العفة في إطاره ، بل من أكثر تعبيرات الجيتو الحلبيِّ شيوعاً !!
ليسوا الأسوأ ، لكن لهم أساليبهم ،،
لهم لهجاتهم أيضاً ..
فربما لعشوائية تنقلاتهم ، وكثرتها ، وحالة الإيمان بالجيتو كضرورة ، وخطوط الرجعة النشطة ، لا يستطيعون علي الإطلاق إخضاع ألسنتهم للهجة واحدة ، ويظلُّ علي الدوام أثر اللهجات المنسحبة حياً في سطوحها ، تختلف اللهجات أحياناً من كوخ إلي كوخ ملاصق ، بل من زاوية في الكوخ إلي زاوية أخري ، وأقسم بالعطر علي هذا ،،
وإن كان الانطباع هو الإيمان بالإطار كنوع من الوباء العام ، فإن من السهل أن تجفَّ المسافة بين الدومة ، والبطحة ، ونجع عمران ، والحوش ، سيراً علي الأقدام ، خلال أقلّ من ساعة ، لكن هذه الدقائقَ ممرٌّ صادقٌ نحو اكتشاف العديد من اللهجات المتضاربة ، مع ذلك فإنَّ جسور الحوار بيننا ليس من الصعب تصميمها ، وفي لغة الإشارة أحياناً عوض ،،
مجرد التلميح بالأيدي ، واهتزازات الرؤوس ، وتحريك الحواجب يكفون أحياناً لجعل ارتطامنا بصعوبة الفهم يتوقف !!
كان العمّ الشاب ” سيد أبو ريا ” ملجأً أميناً لكل الأمراض الممكنة ، هذا جعل شحوب وجهه الزائد عن الحدِّ يضفي عليه مظهر الموشكين علي موت أكيد ، وفي ما بدا أنه اندفاع وراء الخوف علي أطفالهنَّ من إحراز عدوي أمراضه الغامضة ، تجاوزت تحذيرات الأمهات من شراء ترمسه ، بل من مجرد ملامسته ، التهديد بالضرب إلي تحققه قبلياً ، غير أن مذاقه الممتاز كان علي الدوام ذريعة لائقة لتحريضنا علي العصيان ،،
قادت الصدفة المحضة العم “سيد أبو ريا” إلي أذان العصر ، أو رقية العصر ، وقلبي ، للمرة الأولي ، ذات عصر شديد العصافير ، فسكت عمراً ، ونطق كفراً ، ليس فقط لأنَّ صدي صوت نهجانه المكبر كان أعلي من صوته ، بل لأنه صاح :
– اللاهو إكبر ، اللاهو إكبر !!
وانفجرت في قلب المسجد ضحكاتنا ، وتفتت استغراق العم “سيد” في المناغاة أو الرقية إلي شكوك ، واهتزت كلُّ كلمة برعشة خاصة ، وطارت أكياس ضحكاتنا في هواء المسجد ، ثم لذنا بالفرار ،،
وبرغم أنني كنت فرداً من قومية كبيرة من الصغار ، وقع الإختيار علي إخضاعي للمسئولية الكاملة منفرداً ، ونقل إلي أبي أولاد العاهرات من الدوميين الصورة كاملة ، وشوهوا الكثير من ملامحها ، سألني أبي في مساء ذلك اليوم بهدوء كأنه الصخب :
– صليت العصر وين يا محمد ؟!
دون تفكير ، مررت منحنياً تحت قوس براءتي ، ونبتت غيمة علي جسدي ، وانتشرتُ فجأة في الضحك :
– عارف سيد أبريِّا ، بتاع الترمس ، عيَّدِّن كيه ؟!
– كيه ؟
انتصبت ، ووضعت يدي اليمني خلف أذني ، وصحت من بين ضحكاتي :
– اللاهو إكبر ، اللاهو إكبر !!
لمحت علي وجهه طيف ابتسامة ، ثم .. وفي لحظة خاطفة ، ركلني من الأمام فجأة ، فانزلقت في قلب الذعر ، والإنكار لا يفيد ، تدخلت عمتي ، ودفعته عن جسدي بخشونة ، وبدأت انطباعات الوجع تعمل ، كان عراء أعصابه ذلك المساء أكثر مما ينبغي ..
لكلِّ هذا ، لقد فهمنا أن مسار سؤاله الصحيح ، والمعتني به تماماً ، للخالة “زينب” :
– إنتي حلبية ؟!
عدنا ضاحكين ، عقب انطفاء الفريسة من المربع الآمن ، نتأمل أسلحة وعتاداً ، وبادرته من بين ضحكاتي قائلاً :
– إنتا فـ إيه ولا إيه ؟
وضحك ، كان يختبر قامته القادمة ..
محمد رفعت الدومي
*من “اسهار بعد اسهار”..